الفصل الحادي والعشرون
في نحو الساعة العاشرة والنصف من ذلك المساء، رمى جرانيت عصاه فجأةً في منتصف مباراة البلياردو، ووقف، للحظة، كما لو كان يسمعُ شيئًا.
ثم صاح، وهو يخرج مُسرعًا من القاعة: «يا إلهي، أعتقد أنَّ هذا منطاد!»
فتبعوه جميعًا. وقف خارج النوافذ الفرنسية في قاعة الجلوس، عند الممرِّ المغطَّى بالحصى، وقد رفع رأسه، وأنصت باهتمام. لم تكن هناك نسمةُ رياح، ولا قمر ولا نجوم. وقد أطبقت سحبٌ صغيرة من الضباب الرمادي على المستنقعات، مما أدى إلى حَجْب رؤيتهم للبحر. وكان السكون أكثر من المعتاد.
وبعد مدةٍ تمتم أنسيلمان الصغير: «لا أستطيع سماع أي شيء.»
فقال جرانيت: «ربما كان الأمر مجردَ تهيؤات.»
قال الميجور هاريسون: «ربما كانت دراجةً نارية تسير عبر طريق هانتستانتون.»
قال ديكنز وهو يُلقي نظرة سريعة على المكان: «إنها ليلة مناسبة تمامًا لشنِّ غارة.»
وقال كولينز بشكلٍ تعليمي قليلًا: «لا توجد فرصة للمناطيد هنا، في رأيي. لقد كنتُ أنظر إلى خريطتكم في نادي الجولف هذا الصباحَ فقط.»
ثم عادوا جميعًا إلى دورمي هاوس. وبدا جرانيت، مع ذلك، غيرَ راضٍ.
وقال لهم: «سأذهب لأطمئنَّ على سيارتي. لقد تركتُها في السَّقيفة.»
ومن ثَم غاب مدة عشرين دقيقة. وعندما عاد، كانوا قد أنهَوا لعبة السنوكر بدونه، وجلسوا في الردهة بجانب طاولة البلياردو، يتحدَّثون عن الحرب. فاستمع جرانيت لبضع دقائق ثم قال لهم على نحوٍ مفاجئ: ليلة سعيدة. وأشعل شمعته في الخارج وتوجَّه ببطءٍ إلى غرفته. وعندما وصل إلى هناك، نظر إلى ساعته وأغلقَ الباب. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف. فاستبدل ملابسه بسرعة، وارتدى حذاءً ذا نعل مطَّاطي ووضع قارورةً من المشروب ومسدسًا في جيبه. ثم جلس أمام نافذته وساعتُه في يده. وكان يشعر بنذير شؤم لم يتمكَّن من الهروب منه منذ وصوله. لقد عاش في فرنسا وبلجيكا ساعاتٍ مصيريةً، وحمل حياته أكثرَ من مرة بين كفَّيه. ومخاطرته في هذه الليلة مشابهةٌ لها، ولكن بدا التحفيز غائبًا. وبدَت هذه المهمة في بلدٍ ينعم بالسلام على مستوًى مختلف. فإذا كانت أقلَّ خطورة، فهي أقلُّ تحفيزًا أيضًا. وفي تلك اللحظات القليلة، اشتاقت دماء الجندي بداخله إلى اضطرابات الحرب، وبانوراما الحياة والموت، والإثارة العنيفة والحارة للتلاعب بالقدر، بينما تبدو السماء نفسُها وكأنها تُمطر الموت من كل جانب. أما هنا فليس هناك سوى الصمت، وصوت تلاطمِ البحر البعيد، ونباح كلب بعيد. كان الخطر حيًّا وحقيقيًّا، ولكن بدون حافز تلك الخلفية الدموية الحمراء. نظر إلى ساعته. ما زالت تنقصها عشرُ دقائق حتى تصل إلى الثانية عشرة. وللحظةٍ سمح لأفكاره بالعودة إلى الشيء الجديد الذي تسلَّل إلى حياته. حيث عاد بالذاكرة فجأةً إلى فندق ميلان، ورأى انعطاف رأسها للخلف، والنظرةَ التواقة في عينَيها وهي تُدْلي بإعلانها الصغير. لقد فسخت خِطبتَها. لماذا؟ لقد كانت معركة، حقًّا مع ذلك الخَصم البارد، الذي هو شبه يحتقره وشبه يخشاه، الرجل الذي شعر بشكوكٍ كثيرة بشأن شخصيته الفعليَّة. ماذا لو ساءت الأمور هذه الليلة، لو سُلِّمت القصة الدرامية بأكملها من أجل المجد للصحافة الصفراء! يمكنه أن يتخيَّل عناوينَهم، ويتخيَّل حتى فقراتهم اللاذعة. كان الأمرُ كما لو أنَّه يتزلَّج على أنحف طبقة جليد — ومن أجل ماذا؟ أمسكت أصابعُه بعتبة النافذة الرطبة. ورفع نفسه لأعلى قليلًا. ثم سقطَت عيناه على ساعته — لا تزال دقيقةٌ أو دقيقتان حتى الثانية عشرة. فتسلَّل ببطءٍ إلى بابه وأصغى السمع. كان المكان صامتًا. ثم شقَّ طريقَه على أطراف أصابعِه عبر الممر ودخل غرفةَ كولينز. كان الأخير جالسًا أمام النافذة المفتوحة على مِصراعَيها. وقد أطفأ شمعته فغرقت الغرفة في الظلام. فالتفت التفاتةً بسيطةً عند دخول جرانيت.
وقال بهدوء: «دقيقتَين! يا جرانيت، سيحدث الأمر الليلة. هل أنت مستعد؟»
«بكل تأكيد!»
فوقَفا في صمتٍ بجانب النافذة المفتوحة. ولم يتغيَّرْ شيء. لم يَحِن الوقت بعدُ لغناءِ الطيور المبكرة. كانَت القريةُ الصغيرة خلفهم صامتةً ونائمة؛ وفي المقدمة لا شيء سوى المروج، وهي غير مأهولة، ومنعزلةٌ وهادئة، ومبنى نادي الجولف فارغٌ ومهجور. وقفا يُراقبان، ووجهاهما ملتفتان بثباتٍ في اتجاهٍ معين. تدريجيًّا أصبحت أعينهم، التي اعتادت على الضوء الخافت والمتغير، قادرةً على اختراق الخط الأسود فوق اللون الرمادي؛ حيث تتلاطَم أمواجُ البحر مع الرمال بأصواتٍ منخفضة، لتُلقي مع كل موجةٍ بأذرع أطول على الأرض.
غمغم كولينز: «الساعة الثانية عشرة!»
فجأةً اصطدمَت أصابع جرانيت بكتفه. إذ من خلال هذه الظُّلمة المخملية المطبِقة أسفلَ الغيوم، سطع ضوءٌ بَنَفْسَجيٌّ للحظة واحدة. نشأ على ما يبدو من العدم، وتلاشى في الفضاء. كان مرئيًّا بالكاد لمدة خمس ثوانٍ، ثم اختفى. تحدَّث جرانيت مع شهقةٍ قصيرة.
وغمغم قائلًا: «يا إلهي! إنهم قادمون!»
كان كولينز واقفًا بالفعل على قدمَيه. وقد نصَب قامتَه بشكلٍ رائع، وأصبح هناك تأهبٌ جديد في طريقته. هو، أيضًا، كان يرتدي حذاءً مطَّاطيًّا وكانت حركاته بلا ضوضاء على الإطلاق. كما حمل في يده مِصباحًا كهربائيًّا صغيرًا، وجَّهه في جميع أنحاء الغرفة بينما يضع عدة أغراضٍ صغيرةٍ في جيبه. ثم فتح الباب وأصغى السمع. واستدار، ورفع إصبعه وأومأ. فنزل الرجلان على السلم، وعبرا غرفة الجلوس، إلى الحديقة من خلال بابٍ تُرِك مفتوحًا، ودارا حول دورمي هاوس إلى السقيفة. ودفعا السيارةَ معًا إلى أسفل المنحدر الطفيف للطريق. وجلس جرانيت في مقعد القيادة وضغط على مفتاح التشغيل. بينما جلس كولينز إلى جانبه.
همس جرانيت قائلًا: «تذكَّر، لقد سمعنا شيئًا والتقيت بك في البهو. اجلس بثبات.»
ومن ثَم انطلقا بكلِّ هدوء ونعومة بالسيارة ذات الستِّ أسطوانات على الطريق المحاط بالأشجار، عبر القرية النائمة وعلى طول الممر الضيق إلى ماركت بيرنهام. وعندما أصبحا على بُعد نحو مائة ياردة من البوابة، أوقف جرانيت السيارة.
وقال: «هناك اثنان على الأقل من الحراس في هذا الطريق، وإذا كان السير ميفيل قد أخبرني الحقيقة، فربما أصبح لديهم حرسٌ خاص من مُشاة البحرية هذه الليلة. هذا هو الطريق إلى الأراضي الرطبة. أصغِ السمع. هل يمكنك سماع أي شيء؟»
حبس كلاهما أنفاسَه.
ثم غمغم كولينز: «لا أسمع شيئًا. دعنا نُخرج الأشياء بسرعة.»
هُرع جرانيت إلى الجزء الخلفي من السيارة، ومزق الأغطية. وفي لحظاتٍ قليلة كانا قد سحبا على الجانب قاربًا صغيرًا قابلًا للطيِّ من القماش المشدود على مفاصل من الخيزران، مع اثنين من المجاديف الصغيرة. ثم تسلَّقا الضفة.
وقال جرانيت في همس: «يجب أن يكون الجدول قريبًا من هنا. لا تُشعل ضوءًا. أصغِ!»
هذه المرة تمكَّنا من سماع صوت محركٍ يهدر بعيدًا في مرآب القوارب على الجانب الآخر من هال. ومن خلال الستائر المُغْلَقة بشكلٍ متقارب، تمكَّنا أيضًا، من رؤية ضوءٍ خافتٍ يتسلَّل من المنزل على البحر.
تابع جرانيت قائلًا: «إنهم ما زالوا يعملون. احذر، يا كولينز، هذا هو الجدول.»
ومن ثم دفعا القاربَ إلى منتصف جدول الماء، وركبا فيه بحذر. وأخذ جرانيت أحدَ المجدافَين، واستند على ركبته، وجدَّف ببطءٍ نحو البحر. واصطدما مرةً أو مرتَيْن بالضفة واضطُرَّا إلى الدفع، ولكن سرعان ما اعتادَت عيونُهما على الظلام. واستطاعَا رؤيةَ الجدولِ بوضوحٍ. ثم مرَّا بالقرب من جدران الحديقة، وسرعان ما أصبحا بالقرب من الورشة ذاتِ الموقع المميز. فتوقَّف جرانيت للحظةٍ عن التجديف.
وغمغم قائلًا: «إن القاعة مظلمةٌ للغاية. أصغِ!»
فسمعا الخطوةَ العادية للحارس على الطريق. وبالقرب منهما، على قمة الجدار، تخيَّلا أنهما سمعا صوت اصطدام سونكي بندقية. فخفض جرانيت صوتَه إلى أدنى همسة.
«نحن تقريبًا وصلنا الآن. مُدَّ يدك، يا كولينز. هل يمكنك أن تشعر برفٍّ من الصخور؟»
كانت الإجابة الهامسة: «إنه أمامي بالضبط.»
«هذا للأشياء. ضعها عليه.»
لبضع لحظات كان كولينز مشغولًا. ثم، مع شهقةٍ صغيرة، أمسك بذراع جرانيت. وقد أصبح صوتُه، الذي يرتجف مع كبتٍ عصبي، شبهَ هستيري.
«إنهم قادمون يا جرانيت! يا إلهي، إنهم قادمون!»
استدار كِلا الرجلَين باتجاه البحر. وبعيدًا في الغيوم، على ما يبدو، كان بإمكانهم سماعُ طنينٍ خافت، صوت جديد، شيء ميكانيكي في ضرباته المنتظِمة، ولكن مع ضجيجٍ من قوةٍ بشريةٍ تشقُّ طريقها عبر الهواء الذي لا يُقاوم. ومع كل ثانيةٍ كان يعلو. فوقف الرجلان ممسكًا أحدُهما بالآخر.
غمغمَ جرانيت قائلًا: «هل جهزتَ الفتيل؟ يجب أن يسمعوها خلال لحظة.»
أومأ كولينز في صمت. وأصبحَت الأصداء أعلى وأعلى صوتًا. وسرعان ما امتلأ الهواءُ بالصَّدى. كانت الكلاب تنبح من بعيدٍ على الأرض، ومن مزرعةٍ في مكانٍ ما على الجانب الآخر من الطريق سمعا صياحَ صوتٍ واحد.
قال جرانيت هامسًا: «الآن.»
فانحنى كولينز إلى الأمام. ولامس الفتيلُ الذي في يده المادةَ السوداء التي نشرها على الصخرة. وفي لحظة، بدا الضوء الأخضر الغريب وكأنه يُزيح الظلام. وأصبح المنزل والورشة والأشجار، والبحر المتدفِّق ببطء، ووجهاهما المذعوران … وكل شيء مكشوفًا في وهج من الضوء البشع المروع. لقد نسيا نفسَيهما للحظة، نسيا المعجزةَ التي جلباها. كانت عيونهما مشدودةً نحو السماء. فوقهما بالأعلى، يبدو أن شيئًا أكثرَ سوادًا من السماء نفسِها، هائلًا، ضخمًا، بدا فجأة وكأنه يتخذ شكله. كان هديرُ الآلات مسموعًا بوضوح. ومن داخل المنزل انبعث الصراخ المختلط لأصوات كثيرة. وسقط شيء ما في البحر على بُعد مائة ياردة مع صرير وهسيس، وانبثقت نافورة من المياه عالية لدرجة أن الرذاذ وصل إليهما. ثم انطلق صوتٌ أكثر حدةً مثل صفير رصاصةٍ من بندقية.
صاح جرانيت: «يا إلهي! لا بد أن نبتعد من هنا، يا كولينز!»
وأمسك بمجدافه. وفي تلك اللحظة حدث انفجارٌ رهيب. وبدا أنَّ هناك تيارًا من النار المتدفقة انبثق من زاوية المنزل، وانقسم الجدارُ وسقط إلى الخارج. ثم جاء صوتٌ آخر، بشع، مقزز، صوتٌ سمعه جرانيت من قبل، صوت رصاصة بندقية تشق طريقَها في اللحم، تلَتْه صرخة وحشية. وللحظة التفت ذراعا كولينز حوله. ثم، بدون أي صوت آخر باستثناء تلك الصرخة، سقط إلى الأمام واختفى. لثانيةٍ واحدة انحنى جرانيت على جانب القارب كما لو كان سيغوص وراءه. ثم جاء هديرٌ آخر. وتطايرت الرمالُ في عاصفة هوجاء، وفجأةً تحول الجدول بأكمله إلى سيلٍ مستعِر. وتأرجح القاربُ على جبل شديد الانحدار من المياه المالحة، وسرعان ما انقلب. وجد جرانيت، الذي انحبست أنفاسُه للحظة وكان شبهَ مذهول، طريقَه بشكلٍ ما نحو جانب الجدول، ومن هناك سار وهو يتعثر في دربه باتجاه الطريق. كان المنزل خلفه يحترق، وبدا الهواء مليئًا بالصرخات العالية. فاستدار وركض إلى المكان الذي ترك فيه السيارة. وفجأةً سقط في بِركة ماء مالح وخرج مبتلًّا حتى الخَصْر. وفي النهاية، رغم ذلك، وصل إلى الضفة، وتسلقها وتسلل إلى الطريق. وعندئذٍ ومض ضوءٌ في عينيه وجلجلَ سونكي بندقية عند قدميه. حيث وقف جنديَّان للتحفُّظ على سيارته.
وكان الأمر الأجش: «ارفع يدَيك لأعلى!»
أضاء جرانيت بهدوءٍ مصباحَه الكهربي الصغير. فرأى ما لا يقلُّ عن اثني عشرَ جنديًّا يقفون حوله، كما تسرع مجموعة صغيرة عبر البوابات. فأطفأ مصباحَه على الفور.
وسأل: «هل أُصيب أحد؟»
ساد صمتٌ مطبِق. وشعر أنَّ ذراعيه ممسوكتان على كِلا الجانبَين.
وقال أحد الرجال: «إن الكابتن قادمٌ في الطريق. تحفَّظْ عليه، يا تيم!»