الفصل الرابع والعشرون
نهض السيد جوردون جونز واقفًا على قدمَيه. كانت مقابلةً مثيرة للاهتمام، ومهمة من بعض النواحي. وألقى نظرةً خاطفة على المكتب البسيط، ولكنه مؤثث بشكل أنيق، وكانت الغرفة لا تشي إلا قليلًا بالنفوذ العالميِّ لمالكها.
وقال مبتسمًا: «في نهاية الأمر، يا سير ألفريد، أنا لستُ متأكدًا من أن الحكومة في مقرها بداونينج ستريت هي مَن تحكم البلاد فعليًّا. إذ يمكننا لمسُ أزرارنا فنحرك الجيوش والبوارجَ في جميع أنحاء الأرض. أما أنت فتسحب دفتر شيكاتك، وتوقِّع باسمك، ويمكنك عندئذٍ توجيهُ ضربة قاتلة مثل أي ضربة يمكن أن نتصوَّرها.»
ابتسم المصرفي.
وقال: «لنكن شاكرين، إذن، لأنَّ القُوى التي نملكها ونستخدمها مرتبطةٌ ببعضها البعض في القضية العظيمة.»
تردَّد السيد جوردون جونز.
وتابع قائلًا: «إن مثل هذه الأشياء، حسبما أعلم، صغيرة بالنسبة إليك، يا سير ألفريد، ولكن في الوقت نفسِه أريدك أن تتأكَّدَ من أن حكومة جلالته لن تغفل عن مساعدتك في هذه المرحلة المفصلية. وربما يكون الحديث عن المكافآت في مثلِ هذا الوقت سابقًا لأوانه. وأنا أعلم أن درجات الشرف العادية لا تروق لك، ومع ذلك فقد اقترح عليَّ شخصٌ معين أنني يجب أن أؤكد لك امتنانَ البلد. وبكلماتٍ واضحة، لا يوجد شيءٌ قد تطلبه لن يكون من دواعي سرورنا وامتناننا أن نُقدِّمه لك.»
انحنى السير ألفريد قليلًا.
وقال: «هذا لطفٌ كبير منك. في وقتٍ لاحق، ربما، يمكن للمرء أن يُفكر في هذا الأمر. أما في الوقت الحاضر فيبدو أن هناك واجبًا صارمًا واحدًا أمامنا، ومن أجله لا يحتاج المرء إلى مكافأة.»
ثم انصرف الرجل. فنهض السير ألفريد من على الكرسي أمام مكتبه، وألقى بنفسه على الكرسيِّ المريح الذي كان ضيفه يجلس عليه. ووجد شعاعٌ من أشعة الشمس في المدينة طريقَه عبر تشابكِ المباني الشاهقة على الجانب الآخر من الشارع، فامتد في مسارٍ متعرج عبر سجادته، ولمس الملامح الجامدة لوجهه المتأمِّل. وقد جلس هناك، ينقر ببطءٍ على جوانب الكرسيِّ بأصابعه الممتلئة. مثلما قد يجلس قائدٌ كبير، وهو يُتابع تقدُّم جيوشه في بلدانٍ مختلفة، ويستمع إلى صوت بنادقهم، ويُراقب تقدمَهم، وتعثرهم، ونجاحهم وإخفاقاتهم. كانت رؤية السير ألفريد أكثرَ دناءةً بعض الشيء وأكثرَ تعقيدًا من نواحٍ كثيرة، ومع ذلك أيضًا، كان لها جانبها الدرامي. حيث نظر إلى أسواق المال في العالم، فرأى البورصات ترتفع وتنخفض. ولم يرَ في المشهد الخافت جيشًا يرتدي الزيَّ الكاكيَّ ويحمل حِرابًا لامعة، لكنه رأى طابورًا طويلًا، ورفيعًا من الرجال الذين يرتدون بِدلًا سوداءَ ووجوههم شاحبة، وهم يُمسكون حقائب نقودهم.
وطرَق سكرتيره على الباب ودخل.
وقال بهدوء: «إن الكابتن جرانيت هنا منذ بعض الوقت، يا سيدي.»
فعاد المصرفيُّ إلى الواقع من جديد. لقد استيقظ، بالفعل، مع انتفاضةٍ صغيرة.
وأمر السكرتير قائلًا: «أدخِل ابنَ أخي في الحال. سأنشغل معه لمدة ربع ساعة على الأقل. من فضلك اذهب إلى بنك إنجلترا ورتِّب لإجراء مقابلة مع السيد ويليامز عند الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم.»
انسحب السكرتير في صمت. ودخل جرانيت، بعد بِضع دقائق. فاستقبله المصرفي بسرور.
وصاح: «حسنًا، يا روني، لقد ظننتُ أنك ستبقى في نورفولك مدة أسبوع! تعال. اجلب مقعدك إلى جانبي، إذن. هذه واحدة من صباحاتي الفارغة.»
أطاعه جرانيت في صمت. فنظر السير ألفريد في أرجاء الغرفة. لم يكن هناك مكانٌ للاختباء، ولا توجد أدنى فرصة لأن يسمع حديثَهما أحد.
«كيف جرَت العملية، يا روني؟»
أجاب جرانيت: «لقد أدَّيْنا دورنا. كان كولينز هناك في دورمي هاوس كلوب. وتلقَّينا الإشارة وأشعلنا الوهج. وقد هبط المنطادُ إلى ارتفاع مائتين أو ثلاثمائة قدم، ولا بد أنهم ألقَوا عشرين قنبلة، على الأقل. وقد دمَّروا الكوخ لكنهم لم يُصيبوا الورشة. واشتعلت النيرانُ في المنزل، لكنهم تمكَّنوا من إخمادها.»
«هل تمكَّنتما من الهرب سالمَيْن، كما يُسعدني أن أرى؟»
قال جرانيت، وهو يخفض صوته للغاية: «لقد قتلوا كولينز. حيث أصيب برصاصةٍ وهو بجانبي. وقد أمسَكوا بي أيضًا. وحقَّقوا معي تحقيقًا قاسيًا ولكني تمكنتُ من الخروج منه بسلام. مَن تظن أن مكتب الحرب قد أرسله لإجراء تحقيق؟ طومسون — ذلك الرجل طومسون!»
عبَس المصرفي.
قال: «هل تقصد الرجلَ الذي يشغل وظيفة مفتش المستشفيات؟»
أجاب جرانيت بجدِّية: «من المفترض أن هذه هي وظيفته. لكنني بدأتُ أتساءل … أخبرني، أنت لم تسمع أيَّ شيء عنه، أليس كذلك؟»
أجاب السير ألفريد: «مطلقًا. لماذا ينبغي علي؟»
قال جرانيت: «لا شيء سوى أن لديَّ شعورًا غيرَ مريح تجاهه. أتمنى لو شعرت بالثقة في أنه بالفعل يشغلُ الوظيفة التي يدَّعيها. إنه الرجل الوحيد الذي يبدو أنه يشتبهُ بي. ولولا إيزابيل وورث، لكنتُ انتهيت — وقُضي علي — في تلك الحفرة الحقيرة! فقد حاصرَني في التحقيق ووقعتُ في مأزق. فكذَبَت الفتاةُ وأخرجتْني منه.»
نقر السير ألفريد للحظة بأصابعه على الطاولة.
وقال: «لستُ متأكدًا من أن هذه المخاطر تستحقُّ العناء بالنسبة إليك، يا روني.»
هز الشاب كتفَيه. وقد بدا بكلِّ تأكيدٍ أن وجهه أصبح أكثرَ نحافةً خلال الأيام القليلة الماضية.
وقال: «لا مانع لديَّ في السفر إلى الخارج. إن الأمر يبدو مختلفًا هناك، بطريقةٍ ما. لكن هنا كل شيء خاطئ. إنه الجو، على ما أظن. وذلك الرجل طومسون ينوي الأذى — أنا متأكِّد من ذلك.»
سأله المصرفي: «هل هناك أيُّ سببٍ لعدم التوافق بينكما؟»
أومأ جرانيت برأسه.
«توقعُك في محله، يا سيدي.»
«الآنسة كونيرز، أليس كذلك؟»
اعترى وجهَ الشاب تغيرٌ مفاجئ.
وقال: «أجل. لو لم أكن قد بدأت هذا، لو لم أتمادَ فيه إلى حدِّ أنه لم يعد هناك مسارٌ آخر بالإمكان، أعتقد أنني كنت سأُصبح راضيًا بأن أكونَ ما يبدو أنه شخصيتي — من أجلها.»
أسندَ السير ألفريد ظهره إلى كرسيِّه. وهو ينظر إلى ابن أخيه كرجل علم ربما ينظر إلى عينةٍ مثيرة للاهتمام.
وقال: «حسنًا، أظن أنك تؤكِّد ببساطةٍ تجرِبةَ العصور، لكنك، بصراحة، تدهشني. أنت تتنقَّل بين الأماكن الكبيرة في الحياة، وأنت مع أولئك الذين يصنَعون التاريخ، وتريد التخلِّيَ عن كل شيء. من أجل ماذا؟ ستصبح حيوانًا صغيرًا عاديًّا ومطيعًا لجنديٍّ بريطاني، من أجل حُبِّ فتاةٍ بريطانيةٍ حسَنة المظهر والتربية وعادية. أنا لا أفهمك يا رونالد. إن لديك دماءَ صانعي الإمبراطورية في عروقك. لقد طوَّر تعليمك وبيئتك تشابهًا خارجيًّا مع الشيء الذي تدَّعي أنه موجود، ولكن في الخلفية — ألَا تشعر أنك ستقعُ في قبضة الأشياء الأخرى؟»
أجاب جرانيت: «أنا أشعر بتلك الأشياء، تمامًا. لقد شعرت بها طوال السنواتِ السبع أو الثماني الماضية. لكنني أشعر بشيء آخر، أيضًا، شيءٍ في رأيي أنك لم تشعر به قطُّ، وهو شيءٌ لم أكن أُومِن به تمامًا.»
أسند السير ألفريد ظهره إلى كرسيِّه.
وقال: «إلى حدٍّ ما، هذا مخيِّب للآمال. أنت على صواب. لم أشعر قطُّ بنداء تلك الأشياء الأخرى. عندما كنت شابًّا، كنت ببساطةٍ عابثًا عندما شعرتُ بالميل إلى التحول عن الأشياء الكبيرة في الحياة من أجل أغراض الاسترخاء. وعندما عُرض عليَّ تحالف، كنت راضيًا عن قَبوله، لكن الحمد لله لقد كنت شرقيًّا بما يكفي لإبقاء النساء في حياتي حيث ينتمين. لذا أشعر بخيبة أملٍ فيك، يا روني.»
هز الشابُّ كتفَيه.
وقال: «أنا لم أتراجع.»
كان الردُّ الكئيب: «أجل، ولكن نقطة ضعفك قد ظهرت. ومع ذلك، دعْك من هذا الأمر. قل لي لماذا عُدت؟ ألم يكن من الأفضل البقاءُ في برانكاستر مدةً أطول قليلًا؟»
قال ابن أخيه: «ربما. لقد أصبحَت ذراعي مهتزة واضطُرِرتُ إلى لعب الجولف. وبصرف النظر عن ذلك، لم أكن مرتاحًا تمامًا بشأن الأمور في ماركت بيرنهام. واضطُررت إلى إخبار طومسون بأنني لم أعلم شيئًا عن كولينز في تلك الليلة، لكنهم يعرفون في دورمي هاوس كلوب أنه خرَج معي في السيارة ولم يسمع به أحدٌ منذ ذلك الحين. ثم كانت هناك الفتاة.»
قال المصرفي: «التي أنقذَتك بكذبة، أليس كذلك؟ قد يصبح ذلك محرجًا فيما بعد.»
قال جرانيت بشكلٍ كئيب: «لقد سئمتُ من أموري الخاصة. هل هناك أي شيء جديد هنا على الإطلاق؟»
عبَس السير ألفريد قليلًا.
وقال: «ليس كثيرًا. وفي الوقت نفسه، هناك مؤشرات واضحةٌ على تغييرٍ لا يعجبني. مع وجود رجال دولة محدَّدين هنا على قمة السلطة، كان من السهل جدًّا بالنسبة إليَّ تنفيذ أي مخططات اعتقدتُ أنها ضرورية. لكن خلال الأسابيع القليلة الماضية، رغم ذلك، كان هناك تغيير. من الناحية الاسمية ما زالت الأشياءُ كما هي. من الناحية الفعلية، يبدو أنَّ هناك يدًا أخرى تعمل في الخفاء، يدًا أخرى تعمل مع الرقابة، أيضًا. لقد ارتكب أحدُ وكلائي الموثوقِ بهم للغاية في هارويش زَلةً طفيفة منذ عدة أيام. قبل بضعة أسابيع، كان عليه إما أن يغرم عشرين جنيهًا أو يعتقل. هل تعلم ماذا حدث له يوم الأربعاء؟ بالطبع أنت لا تعلم لقد قُبض عليه في الساعة الواحدة وأُطلق الرصاص عليه خلال نصف ساعة. ثم هل قرأت صحفَ هذا الصباح؟ لقد أوقفت جميع عمليات الإبحار من هنا إلى مكان صغير معيَّن نعرفه دون سابقِ إنذار. أنا مضطرٌّ إلى إيقاف العديد من المخططات الهامة.»
فسأله جرانيت، بعصبيةٍ بعض الشيء: «ليس هناك مهامُّ بالنسبة إليَّ، أليس كذلك؟»
نظر إليه السير ألفريد.
وأجاب: «ليس في الوقت الحالي، ولكن سيصبح هناك قريبًا جدًّا. تمالكْ نفسَك يا روني. لا تنظر للأسفل كثيرًا. أنت وأنا نسير فوق السحاب. إن التعثر سيئ مثل الانزلاق. اعترف — لقد كنت خائفًا.»
اعترف جرانيت قائلًا: «أجل، ليس من الموت ولكن ممَّا قد يأتي بعد كشفِ أمرنا. أنا أميل على نحوٍ ما، إذا اعترض طريقي شيءٌ واحد في العالم، إلى الإبحار إلى نيويورك غدًا والبدءِ من جديد.»
تابع السير ألفريد ببطء: «عندما تُراودك تلك المخاوفُ فكِّر فيَّ أنا؛ فأنا أواجه مخاطرَ أكبر منك بكثير. هناك خيوطٌ من هذا المكتب تمتدُّ إلى العديد من أنحاء إنجلترا، وإلى العديد من أركان أمريكا، وإلى معظم مدنِ أوروبا. فإذا تمكن رجلٌ ذكي من أن يُمسك بأي واحد منها، فقد يتتبعه إلى الوراء — حتى يصل إلى هنا.»
لمس السير ألفريد صدره للحظة. ثم سقطت يدُه على جنبه وتابع حديثه.
«لمدة ثمانية وعشرين عامًا، حكمت أسواق المال في العالم. لا يوجد مجلس وزارء انعقدَ في هذا البلد لم يكن حاضرًا فيه نفوذي. يأتي الوزراء إليَّ واحدًا تِلو الآخر للحصول على المساعدة والمشورة. أنا أمثِّل القوة الكبرى الثالثة للحرب، ولا يوجد عضوٌ واحد في الحكومة الحاليَّة لا يعتبرني أهمَّ شخص في البلاد. ومع ذلك، فأنا أيضًا لديَّ أعداء، يا روني. هناك الصحافة الصفراء. سيُعطون مليونًا مقابل الفرصة التي قد تأتي في أيِّ يوم. وسيطبعون خبرَ سقوطي في عناوين بالبنط الأسود العريض أكثرَ من إعلان الحرب. وسيتصايحون فرحًا بتدميري بشكل أكثرَ وقاحة حتى مما كانوا يُحيون به دعاة السلام. والخيوط موجودة، يا رونالد. أشعر أحيانًا برجفة بعض الشيء. وفي بعض الأحيان يجب أن أمدَّ ذراعي وأزيح المستفسرَ الفضولي للغاية إلى المكان الذي ينتهي فيه الفضول. أجلس وأشاهد وأنا مخدومٌ جيدًا. هناك رجالٌ هذا الصباحَ في قصر باكنجهام يُعلقون على صدورهم وسامَ فيكتوريا كروس، وقد واجَهوا مخاطرَ لمدة عشر دقائق، أقلَّ مما أواجهُ أنا ليلًا ونهارًا.»
نهض جرانيت واقفًا.
وصاح قائلًا: «للحظة، كنت قد نسيت … أخبِرني»، وأضاف بقوة مفاجئة: «من أجلِ ماذا فعلنا ذلك؟ لقد صنعت اسمَك الكبير في إنجلترا، كنت إيتون وأكسفورد. لماذا عندما يأتي النضال العملاق تصبح ألمانيا هي التي تحكم قلبك، وتصبح ألمانيا هي مَن تنادي حتى بالنسبة إليَّ؟»
مد السير ألفريد يده. ونظرَت عينُه على الساعة.
وقال: «روني، هل تساءلت يومًا لماذا يعرف كلُّ حمَلٍ أمَّه في وسط قطيعٍ من الأغنام؟ إن ألمانيا هي أمُّ سُلالتنا. الولادة والحياة والتعليم لا قيمة لها عندما تأتي الأيامُ العظيمة، عندما يتكلم صوتُ الأم. ليس الأمر أننا كاذبون مع إنجلترا، بل أننا صادقون مع أنفسنا. يجب أن تذهب الآن، يا روني! لديَّ موعد.»
خرج جرانيت إلى الشارع وهو متحير قليلًا، واستوقف سيارة أجرة.
وغمغم في نفسه: «أفترضُ أنَّ هذا هو تفسير الأمر.»