الفصل الثامن والعشرون
نظر الجراح الميجور طومسون إلى الأعلى بلهفة عندما دخل أمبروز غرفته في صباح اليوم التالي. حيث بدا الحزن على الشاب كما ظهرَت خطوط سوداء تحت عينيه. وقد أجاب على سؤال رئيسه غيرِ المعلن بهزةٍ صغيرة من الرأس.
وقال: «لم يحالفني الحظ، يا سيدي. لقد أمضيت الليلة الماضية كلَّها في العمل عليها أيضًا … ولم أذهب إلى الفراش على الإطلاق. لقد جرَّبتها باستخدام واحدة وثلاثين شفرة. ثم أخذت أول سطر أو سطرين وحاولت كلَّ تغيير ممكن.»
قال طومسون، وهو ينظر إلى الورقة التي كانت مبسوطةً أمامه في تلك اللحظة: «لم أتمكن أنا نفسي من فك أيِّ شيء منها. ومع ذلك، يا أمبروز، أنا لا أظنها رسالةً عادية.»
وافقه الآخر بلهفة قائلًا: «وأنا كذلك، يا سيدي. سأحاول مرةً أخرى بعد ظُهر هذا اليوم. ربما سيكون هناك المزيد من الرسائل في ذلك الوقت، ويُمكننا معرفة ما إذا كان هناك أي تشابه.»
عبس طومسون.
وقال: «لديَّ شعورٌ ما، يا أمبروز، أننا لن نحصل على الكثير من هذه الرسائل.»
«لماذا يا سيدي؟»
قال طومسون: «لقد أُبلِغت عبر الهاتف، قبل مجيئك مباشرة، أن شخصًا مميزًا للغاية في طريقه لمقابلتي. والوزراء لا يأتون إلى هنا إلا من أجل سببٍ محدد، ويتصادف أن هذا الوزير هو صديقٌ للسير ألفريد.»
تنهَّد أمبروز.
وقال بصوتٍ منخفض: «مزيد من التدخل، يا سيدي، لا أفهم كيف يُمكنهم أن يتوقَّعوا منا أن نُدير إدارتنا بينما المدنيُّون يتدخَّلون في أي مكان يُعجبهم. إنهم يُريدون منا إنقاذَ البلد ثم ينسبون الفضلَ لأنفسهم في ذلك.»
ومن ثم طرق الباب. ودخل فتى كشَّافة. كانت عيناه جاحظتَين قليلًا، وطريقته تُشير إلى الرهبة.
«السيد جوردون جونز، يا سيدي!»
دخل السيد جوردون جونز دون انتظار أيِّ إعلان آخر. فنهض طومسون على قدمَيه وتلقَّى مصافحةً لطيفة، وبعد ذلك نظر الوافد الجديد إلى أمبروز. فأشار طومسون لمساعده كي يُغادر الغرفة.
قال الوزير بشكل مؤثِّر، بينما يجلس على كرسيِّه: «ميجور طومسون، لقد جئتُ إلى هنا لأتشاور معك، معتمدًا، إلى حدٍّ ما، على تفهُّمك وحسِّك السليم» أضاف ذلك، وهو يتحدث بطريقةِ رجل واثق من نفوذه ومن نفسه.
فقال طومسون ببطء: «لقد أتيتَ للاحتجاج، على ما أظن، ضدَّ تصرفنا …»
قاطعه الآخَر: «لم آتِ لأحتجَّ، يا سيدي العزيز. لقد أتيتُ ببساطة كي أوضح لك، كما أوضحتُ للتو لمديرك، أنه بينما نمتلك كلَّ التعاطف والرغبة في منحِكم حريةَ أداء مهامكم من خلال وجهة النظر العسكرية، هناك أمرٌ أو اثنان من الأمور الصغيرة جدًّا التي لا بد أن نُطالب بوجودِ رأي لنا فيها. ومن ثَم فنحن لدينا، كما تعلم، قائمة محصَّنة من الخضوع للرقابة. وكل من وضع اسمه فيها فهو فوق مستوى الشبهات. وقد علمت أن الرسالة الموجهة إلى السير ألفريد أنسيلمان قد فُتحت أمس. وحينما ذهبتُ لمقابلة مديرك هذا الصباح بخصوص هذا الأمر. أحالني إليك.»
فقال طومسون: «لقد فُتحت الرسالة بأوامرَ مني.»
واستطرد السيد جوردون جونز: «لقد تصادف أن كنتُ أتناول العشاء في منزل السير ألفريد عندما وصله الخطاب. يجب أن أقول إن السير ألفريد قد تعامل مع الأمر بشكل جيدٍ للغاية. في الوقت نفسِه، قررتُ أن أتولَّى مهمة التأكد من ألَّا يحدث ذلك مرةً أخرى.»
لم يُبدِ طومسون أي علامة. ومع ذلك، ارتفع حاجباه لأعلى قليلًا.
وتابع زائره: «ستعرف البلادُ يومًا ما مقدارَ ما هي مَدينةٌ به للسير ألفريد أنسيلمان. في الوقت الحاليِّ لا يمكنني إلا أن أعبر، وهذا قليل جدًّا، عن شعوري بالامتنان الشخصي تجاهه. فقد قدم مساعدةً كبرى للحكومة في لندن وفي كل مكان آخر. وإسهاماته في صناديقنا كانت رائعة؛ ونصائحه وتعاطفه لا يُقدَّران بثمن. إنه رجل ملهمٌ بأعلى المشاعر الوطنية، وهو من أول وأهم المواطنين البريطانيين.»
استمع طومسون في صمتٍ ودون مقاطعة. واستقبل الخطبة المنمقة لزائره دون تعليق.
ختم السيد جوردون جونز كلامه، مع بعض الحِدة في أسلوبه قائلًا: «آمُل أن أسمع أن الظرف الذي أشرتُ إليه كان عرَضيًّا ولن يتكرَّر.»
نظر الميجور طومسون بتمعُّن نحو كومةٍ صغيرة من الوثائق بجانبه. ثم نظر ببرودٍ نحو زائره وأعطاه، ربما، واحدةً من أكثر المفاجآت اكتمالًا في حياته.
إذ قال: «أنا آسف، يا سيد جوردون جونز، لكن هذه ليست مسألةً يمكنني مناقشتُها معك.»
ارتسم الذهول على وجه الوزير.
وكرَّر الكلمات بخواءٍ قائلًا: «هل قلت ليست مسألة يمكنك مناقشتها معي؟»
هز الميجور طومسون رأسه.
وقال بهدوء: «لقد سُلِّمَت مسئوليات معينة، ذات صلة بالتصرف الآمن لهذا البلد، إلى السلطات العسكرية، والتي أمثلها أنا في هذه الحالة بالذات. نحن لسنا في وضع يسمحُ لنا بالمجاملات. إن بلدنا يُواجه خطرًا جسيمًا ولا شيء آخر له أدنى أهميةٍ ممكنة. وسوف نضطلعُ بالمسئولية التي قبلناها مع مراعاة شيءٍ واحد فقط، وهي فكرتنا عما يُعزى إلى السلامة العامة.»
صاح السيد جوردون جونز قائلًا: «هل تقصد، بكلماتٍ واضحة، أنك لن تُقيم وزنًا، لأي طلبات مني أو لنقُل، على سبيل المثال، مِن رئيس الوزراء؟»
أجاب الميجور طومسون ببرود: «لن أقبل أيَّ طلبات أيًّا كانت. وبدون الرغبة في أن يؤخذ كلامي على نحوٍ شخصي بأيِّ شكل من الأشكال، يمكنني القول إن هناك رجالَ دولة في حكومتك، يجب أن تتحمَّل قدرًا معينًا من المسئولية تجاههم، قد لعبوا دورًا فعالًا إلى حدٍّ كبير في جلب هذا الخطر البشع على البلاد. فأنتم كجمعٍ من صناع القوانين، قد تكونون أو لا تكونون أشخاصًا ممتازين؛ وهذا، على ما أعتقد، وَفقًا للآراء السياسية للفرد. ولكن كجمعٍ من الرجال المؤهَّلين للإشراف على اتجاهِ بلد في حالة حرب، يجب أن تسمح لي بقولِ إنني أعتبر أنكم أحسنتم صنعًا بوضع بعضِ الأمور بين أيدينا، وأنكم ستُحسنون صنعًا أكثرَ بعدم تدخلكم فيها.»
جلس السيد جوردون جونز ساكنًا تمامًا عدةَ لحظات.
ثم قال في النهاية: «ميجور طومسون، أنا لم أسمع عن وجهة نظرك من قبل، ولستُ مستعدًّا لحظةً لقول إنني أتعاطف مع وجهة نظرك. لكن من المريح على الأقلِّ سماعُ أي شخص يتحدث عن رأيه بهذه الصراحة. ويجب عليَّ الآن أن أطرح عليك سؤالًا واحدًا، سواءٌ اخترتَ الإجابة عنه أو لا. هل استطعتَ العثور في الرسالة التي فتحتها، والموجهة إلى السير ألفريد — على أي أمر يُثير الاشتباه؟»
قال الميجور طومسون: «لقد كانت رسالةً غير ضارة على ما يبدو.»
«هل تنوي أن تفتحَ المزيد؟»
هز طومسون رأسَه.
«هذا يخضع لتقديرنا، يا سيدي.»
قاوم السيد جوردون جونز انزعاجَه الواضح.
وقال، في محاولة منه ليُصبح الحوار أكثرَ ودية: «انظر هنا، يمكنك على الأقل التخلِّي عن الموقف الرسمي للحظة معي. قل لي لماذا، من بين جميع الرجالِ في العالم، اخترتَ أن تشتبهَ في السير ألفريد أنسيلمان؟»
أجاب طومسون بصلابة: «أنا آسف، لكن هذه ليست مسألةً يمكنني مناقشتُها بأي طريقة أخرى إلا رسميًّا، ولا أدرك أن لديك أيَّ إذن خاص للحصول على معلومات.»
نهض الوزير واقفًا. إذ كانت تلك الدقائق القليلة بمثابة حقبة في حياته الرسمية.
وقال: «إنك تتبنَّى موقفًا، يا سيدي، مهما كنتَ معجبًا به من وجهة نظر معينة، يبدو لي أنه لا يأخذ في الاعتبار حقائقَ الوضع.»
لم يردَّ طومسون. ونهض واقفًا. وقد أشار تصرفُه بوضوح إلى أنه اعتبر المقابلة في نهايتها. فكتمَ السيد جوردون جونز استياءه.
واختتم حديثه قائلًا: «عندما تريد وظيفةً مدنيَّة، يا ميجور طومسون، تعالَ لزيارتنا. أتمنى لك صباحًا طيبًا!»