الفصل الثالث
كانت أشعَّة الشمس القليلة تُضيء ميدان بيكاديللي عندما غادرَت جيرالدين ومرافُقها فندقَ ريتز. وبدا أن الكآبة اللحظية الناجمةَ عن الحادثة الصغيرة الدرامية التي حدثَت قبل دقائق قليلة؛ قد انتهت بالفعل؛ وذلك من خلال طريقة الفتاة. حيث راحت تسير، وهي تُدندن لنفسها. وبينما توقَّفا لعبور الطريق، نظرَت كما لو كان عن غير قصدٍ إلى رفيقها. وقد صنعت ملابسُه الصباحية الداكنة والمظهر الشارد نوعًا ما جوًّا من الكآبة حوله، أصبحَت تُدركه فجأةً.
فسألته: «هيو، لماذا لا ترتدي الزيَّ العسكري في المدينة؟»
أجاب: «ولماذا أرتديه؟ في نهاية الأمر، أنا لستُ جنديًّا مقاتلًا في الواقع، كما تعلمين.»
تنهَّدَت قائلة: «لأنه جذَّابٌ للغاية.»
بدا وكأنه لمح بريقًا في عينَيْها وهي تنظر عبر الشارع، بينما غيَّم على عقله ظلُّ تخوُّف.
«هل وجدتِ الكابتن جرانيت مثيرًا للاهتمام؟»
قالت بحماس: «جدًّا. أعتقد أنه مبهج، ألَا تظن ذلك؟»
قال طومسون معترفًا: «يبدو بالتأكيد أنه أكثرُ أنواع الشباب جاذبيةً.»
فتابعَت: «وكم هو رائع أن يكون لديك مثلُ هذه المغامرات! لقد أصبحت الحياة غريبةً جدًّا، مع ذلك، خلال الأشهر القليلة الماضية. أعتقد أن المرة الوحيدة التي رأيته فيها من قبلُ كانت في مباراة بولو، واليوم نجلس جنبًا إلى جنبٍ في مطعم، وعلى الرغم من أنه لن يتحدثَ عنها، يعرف المرء أنه كانت لديه مغامراتٌ رائعة. لقد كان أحد أولئك الذين ذهبوا مباشرةً من الملاعب ليبحثوا عن المجد، أليس كذلك، يا هيو؟ لقد ربح مائةً واثنين وثلاثين لصالح ميدلسكس في اليوم السابق لإعلان الحرب.»
وافق الميجور طومسون بمرح: «هذا هو نوعُ الجندي الشاب الذي سيُحقق لنا النصر، إذا كان بإمكان أيِّ شخص أن يفعل ذلك.»
فجأةً تمسكَت بذراعه.
وصاحت، وهي تُشير إلى لافتةٍ يحملها بائع الصحف: «هيو، هذا هو الشيء الوحيد الذي لا يمكنني تحملُه، الشيء الوحيد الذي أعتقد أنني لو كنت رجلًا سيُحولني إلى شخص همجي!»
توقَّفا لقراءة العناوين …
ضربُ سفينة ركاب بالطوربيدات دون سابقِ إنذارٍ في البحر الأيرلندي. مصرع اثنين وعشرين شخصًا.
تأوَّهت قائلةً: «إن الأشياء من هذا النوع تجعل المرء يتمنَّى أن يُصبح ليس رجلًا، بل إلهًا، ليتمكَّن من أن يُنزل الصواعق ويصبَّ الجحيم!»
صاح صوتٌ قويٌّ جديدٌ، خلفهم: «هنيئًا لك يا جيري. هذا هو عملي الآن. ألم تسمعينا نصيحُ خلفك، أنا وأوليف؟ انظري!»
ولوَّح شقيقها ببرقية.
سأله طومسون: «هل استُدعيتَ إلى سفينتك؟»
أجاب الشابُّ بحماس: «لقد حصَلتُ على ما أريد. لقد استُدعيتُ للعمل على متن سفينة مدمِّرة، واحدة من النوع الجديد — سرعتها أربعون عقدةً في الساعة، مع صفٍّ صغير مميز من مدافع عيار أربع بوصات»، وأضاف، وهو يهز قبضته باتجاه اللافتة: «يا إلهي! شيء آخر، آمُل، أن هذا سيُلقن هؤلاء القتَلة درسًا.»
وضعت جيرالدين يدَها على ذراع أخيها.
«متى ستنضم، يا رالف؟»
أجاب: «ليلة الغد في بورتسماوث. للأسف لن نبدأَ العمل قبل عدةِ أيام. سيمنحونني المدمِّرة سكوربيون يا جيرالد … أو السفينة الغامضة، كما يُسمونها في البحرية.»
سألته: «لماذا؟»
وجهه الطفوليُّ إلى حدٍّ ما، مثل وجه أخته، تغيَّر فجأة.
«لأننا سنُلقِّن هؤلاء القراصنة الملاعين درسًا …»
قاطعه طومسون: «كونيرز!»
توقف الشابُّ عن الكلام. بينما نظر طومسون إليه عابسًا.
وقال: «لا تظنَّ أنني امرأة عجوزٌ خائفة. أعلم أننا سئمنا جميعًا من هذه الحكايات عن الجواسيس وهذا النوع من الأشياء، لكن هل تعتقد أنه مِن الحكمة أن تفتح شفتَيك وتتحدَّث عن معلوماتٍ محددة؟»
سأله كونيرز في حدَّة: «ماذا تعرف عن ذلك؟»
أكَّد له طومسون على عجَل: «لا شيء، لا شيء على الإطلاق. أنا أُعلِّق فقط على ما قلته بنفسك. إذا كانت هناك أيُّ تجهيزات على المدمِّرة سكوربيون للتعامل مع تلك السفُن الجَهنمية، فلن أنطقَ بكلمة عنها أبدًا، لو كنت في مكانك. كنت سأخرج إلى البحر زامًّا شفتَيَّ، حتى أمام جيرالدين والآنسة مورتون هنا.»
احمرَّ خدَّا الشاب قليلًا.
وقال: «ربما أنت على حق. لقد كنتُ متحمِّسًا للغاية. فالعمل على متن المدمرة سكوربيون هو أكثر، حتى، ممَّا كنتُ أجرؤ على الأمل فيه. ومع ذلك، أمام الفتاتَيْن لم يبدُ الأمر مهمًّا للغاية.» وأضاف، بينما ينظر حوله: «ولا يوجد جواسيسُ، بأي حال من الأحوال، يختبئون في أشجار شارع بيركلي.»
رفع طومسون إصبعه وأوقف تاكسيًا.
ثم قال لكونيرز: «أنت لن تتضايقَ مني، أليس كذلك؟ إذا كنت قد سمعت نصف القصص التي سمعتها عن الأشياء التي أفشيناها ببراءةٍ تامة …»
قال الشابُّ مقاطعًا: «لا لستُ متضايقًا، فقط يجب ألَّا تظنَّ أنني ثرثارٌ لمجرد أنني قلتُ كلمة أو كلمتَين هنا أمامك أنت وجيري وأوليف، أيها الرجل العجوز.»
سألت جيرالدين: «هل يجب أن تذهب، يا هيو؟»
فأجاب: «أنا آسفٌ للغاية، ولكن لا بد لي من ذلك. لديَّ بالفعل موعدٌ مهم هذا المساء.»
قالت في تذمُّر: «موعد! أنت موجود في لندن مدةً قصيرة جدًّا ويبدو أنك مشغولٌ بالمواعيد طَوال الوقت. لن أسمح لك بالرحيل ما لم تُخبرني عن ذلك الموعد.»
قال موضِّحًا بهدوء: «لا بد لي من فحص عيناتٍ جديدة من أسرَّة المعسكرات. وإذا تمكَّنت، فسأتصل بك مباشرةً عبر الهاتف بمجرد أن أنتهي وأرى ما إذا كنتِ غيرَ مشغولة.»
هزَّت كتفيها لكنها أعطتْه إيماءةً لطيفة عندما صعد إلى التاكسي.
قال شقيقها، بينما يواصلون السير: «شخصٌ رصين، طومسون. لم تُعجبني محاسبته لي هكذا لكني أظن أنه كان على حق.»
قالت أوليف: «لا أفهم ما شأنُه بذلك، وأعتقد أن تصرفه كان فظيعًا. كما لو كانت جيري أو أنا مهتمَّة!»
قال رالف كونيرز: «إن رجلًا مثل طومسون ليس لديه الكثيرُ من اللباقة، كما ترَين. سيتعيَّن عليكِ تدريبُه قليلًا، يا جيري، إذا كنتِ تنوين الحصول على أي متعةٍ من الحياة.»
بدا الانزعاج الطفيف على وجه جيرالدين. ومع ذلك، ظلت مخلصةً له بشدة.
وتنهَّدت قائلة: «بعضنا يأخذ الحياة على محمل الجِد أكثرَ من الآخرين. وهيو واحدٌ من هؤلاء. عندما يتذكر المرء كل الأشياء الفظيعة التي لا بد أنه قد رآها، بغض النظر عن ذلك، من الصعب للغاية العثورُ على عيب فيه.»
ثم انعطفوا إلى الميدان وتوقَّفوا قبل أن تستدير أوليف.
قالت وهي تدعوهما: «هل ستأتي معي، يا رالف، وأنت أيضًا يا جيرالدين؟»
هز كونيرز رأسه بأسف.
وقال: «يجب أن أُقدم نفسي في مقرِّ البحرية الملكية عند الساعة الرابعة لتلقِّي تعليماتي النهائية. يجب أن أتحرك على الفور.»
تلاشت الابتسامة فجأةً من على شفتيه. وبدا كأنه يستمع إلى نداء بائعي الصحف في الشارع. وتابع قائلًا، وهو يخفض صوتَه قليلًا: «لا أعرف ماذا ستكون تعليماتي، لكني سئمت من شنِّ الحرب بالطريقة التي يقوم بها رجالنا. إذا كنت محظوظًا بما يكفي للحصول على واحدة من تلك الغواصات القاتلة، يُمكنني أن أعدَك بشيء واحد … لن يصبح هناك ناجون.»
لم تتكلم أيٌّ منهما لحظةً أو اثنتَيْن. بينما انبعثت من نوافذ المنزل الذي كانوا يقفون أمامه موسيقى فالس شهيرة. أشاحت أوليف بوجهها مع رجفةٍ بسيطة.
فتابع كونيرز، وهو يربتُ على يدها: «أنت تظنين أنني متوحش، يا عزيزتي. لكن تذكَّري، أنا رأيت رجالًا يُقتلون … وهذا ما يصنع الفارق، يا أوليف. أجل، أنا مختلف! نحن جميعًا مختلفون، وأعني بنحن هنا مَن يخوضون أهوالَ الحرب. إن طومسون مختلف. والشاب الذي جلس بجوارك في مأدُبة الغداء، يا جيرالدين … ما اسمه؟ جرانيت … إنه مختلف. هناك شيء كبير وخطير نشأ بداخلنا، وهذا الوحش يُطل من داخلنا. يجب أن يفعل. سآتي لاحقًا، يا أوليف. أخبري أمِّي أنني سأعود إلى المنزل لتناول العشاء، يا جيرالدين. إن القائد ينتظرني في مقر البحرية الملكية. وداعًا، أيتها الفتيات!»
لوَّح بيده وسار نحو زاوية الميدان. فراقبته الفتاتان بِضع لحظات. كانت أكتافه عريضةً مثلما كانت دائمًا ولكن شيئًا ما قد اختفى من مُرونة مِشيته. لم يبقَ شيءٌ من التبختُر المتميز للبحَّارة.
فهمست جيرالدين: «لقد أصبحوا جميعًا على هذا النحو، بعد أن واجَهوا الموت في خِضمِّ الحرب. ونحن لسنا سوى نساء، يا أوليف.»