الفصل الحادي والثلاثون
أعلن أمبروز عن قدوم زائر، في وقتٍ مبكر من صباح اليوم التالي، مع إبداء بعض الاهتمام.
«يودُّ الكابتن جرانيت مقابلتك يا سيدي. ونحن لدينا الكثير من الملاحظات عنه. هل تودُّ أن أحضر لك الملفَّ الخاص به؟»
هز طومسون رأسه.
وأجاب بجفاء: «شكرًا لك، إنه لديَّ في مكتبي، ولكني أعتقد أنني أستطيع التذكر. هل هو في الخارج الآن؟»
«أجل، يا سيدي! وقال إنه لن يأخذَ من وقتك سِوى بضعِ دقائق، إذا سمحت له بمقابلة قصيرة.»
«هل حالفَك الحظ في الليلة الماضية؟»
تنهَّد أمبروز.
وقال: «لقد ظللتُ مستيقظًا حتى الساعة الثالثة صباحًا مرة أخرى. وظننت خلال إحدى المحاولات أنني على المسار الصحيح. وقد توصَّلت الآن إلى استنتاجٍ مفادُه أنها إحدى تلك الشفرات التي تعتمدُ على تغيير الكميات. وسأبدأُ الليلة من جديدٍ بفكرةٍ مختلفة. هل أُدخِل الكابتن جرانيت، يا سيدي؟»
فوافق طومسون، وبعد بضع دقائق دخل جرانيت إلى الغرفة. ولم يُبادر بأيِّ محاولةٍ للمصافحة أو الجلوس. ونظر إليه طومسون ببرود.
وسأل باقتضابٍ: «حسنًا، ماذا يمكنني أن أفعل من أجلك؟»
أجاب جرانيت: «لا أظن أنك تستطيع فِعْل أي شيء، لكنني سأقضي اليومَ وغدًا أيضًا، إذا لزم الأمر، في هذا المكان، أُزعج كلَّ شخصٍ سمعت عنه. وأنت لديك بعض النفوذ، حسبما أعلم. لذا امنَحْني وظيفةً خارج هذا البلد.»
رفع طومسون حاجبَيْه قليلًا.
«هل تريد السفرَ إلى الخارج مرةً أخرى؟»
«إلى أي مكان … وبأي طريقة! إذا لم يسمحوا لي بالعودة إلى فرنسا، رغم أن الله وحده هو مَن يعلم لماذا لا يريدون ذلك، فهل يمكن إرسالي إلى الدردنيل، أو حتى شرق إفريقيا؟ سأتقبَّل مهامَّ في قوات تيريتوريالز، إذا كنت ترغب في ذلك. سأفعل أيَّ شيءٍ بمجرد أن أُرسَل إلى إحدى هذه البلدات الجهنمية لتدريب الشباب. إذا كنت أنا غيرَ مهتم، فأنا أعلم أنني سأحصل على وظيفةٍ هنا داخل البلاد مباشرة، ولكني لا أريد ذلك.»
تفحَّص طومسون زائرَه، بعناية، للحظة.
ثم قال: «إذن تريد القتالَ مرة أخرى، أليس كذلك؟»
أجاب جرانيت بحزم: «بلى.»
سحب الميجور طومسون سجِلًّا مغلقًا صغيرًا تجاهه، وفكَّه بمِفتاح من سلسلته ووضع يده على صفحة من ملف بداخله. كان من الملاحَظ أن يده اليُمنى قد فتحت الدرج الأيمن من مكتبه بمقدار بضع بوصات.
وقال: «لقد أتيتَ إليَّ، يا كابتن جرانيت، لتطلب مساعدتي في الحصول على وظيفةٍ لك. حسنًا، إذا كان بإمكاني منحك وظيفة في مكانٍ أكون متأكدًا تمامًا من أنه سيُطلق فيه النار عليك وتموت خلال مناوشتك الأولى، فسأقدِّمها لك، بكل سرور. ومع ذلك، في ظل الظروف الحالية، لديَّ انطباع بأنه كلما ابتعدت عن أي قوة قتالية بريطانية، كان ذلك أفضلَ لسلامة وصالح تلك القوة.»
أصبح وجه جرانيت جامدًا فجأة. وازداد شحوبًا بينما لمعت عيناه.
وسأله في حدة: «ماذا تقصد؟»
رفع طومسون يده ونظر إلى الصفحة المفتوحة.
وقال: «لديَّ هنا في هذا الملف بعضُ الملاحظات عنك. لن أقرأها كلَّها ولكن سأقدم لك بعض المقتطفات. مذكورٌ هنا اسمُك الكامل ونسَبُك، ومنه يتَّضح أنك تنحدر من أصول أجنبية. كما يوجد سردٌ حرفيٌّ لتقرير قدَّمه لي العميد قائد كتيبتك، ويبدو فيه أنه أثناء القتال تحت قيادته، وقعتَ في الأسْرِ على ما يبدو ثلاثَ مرات، وهرَبتَ على ما يبدو ثلاث مرات؛ وقد أدَّت المعلومات التي جلبتَها إلى وقوع كارثتَين على الأقل؛ وقد أدَّت المعلومات التي بدَت وكأنها بالضبط في الوقت الذي كنت غائبًا فيه قد وصلَت إلى يد العدو بأعجوبة، إلى مشاكل أكبر بالنسبة إلينا.»
سأل جرانيت بشراسة: «هل تُلمح، إذن، إلى أنني خائن؟»
أجاب طومسون بهدوء: «أنا لا ألمح إلى شيء. بقدر ما نحن معنيَّان بالأمر أنا وأنت، يمكننا أيضًا، حسبما أفترض، أن يفهم أحدُنا الآخر. أنت، بلا شك، تدرك أن منصبي كمفتش للمستشفيات هو سِتار. فأنا، في واقع الأمر، مدير إدارة المخابرات، برتبةٍ اخترتُ ألا أستخدمها في الوقت الحالي. لقد سافرت بنفسي لمقابلة العميد قائد كتيبتك وعدت بهذا التقرير إلى الوطن، وإذا كان من دواعي رضاك أن تعرف ذلك، فقد عدت أيضًا مع طلبٍ عاجل بعدم السماح لك بإعادة الانضمام إلى أي جزءٍ من القوة الخاضعة لقيادته.»
غمغم جرانيت: «لقد كان مجردَ حظ سيئ.»
تابع طومسون قائلًا: «توجد هنا بِضع ملاحظات أخرى. حيث التقيت بك منذ بضعة أسابيع في حفل غداء في فندق ريتز. وكان في الحفل نادلٌ بلجيكي، علمتُ، من خلال تحقيقاتٍ لاحقة، أنه كان موجودًا كسجين في القرية التي كنت أنت أيضًا موجودًا فيها واستُقبلتَ كضيفٍ في المقر الألماني، وقد تعرف عليك في الحفل وكان على وشك الإفصاح عن حقيقتك. لكن الانفعال، رغم ذلك، كان أكبرَ من احتماله ففقد وعيه. وقد أخفي على الفور، تحت رعايتك، وتُوفِّي بعد بضعة أيام، في أحد المنازل الريفية المملوكة لعمِّك، قبل أن يتمكن من الإدلاء بأيِّ تصريح.»
صاح جرانيت: «هذا سخيف! فأنا لم أرَ الرجل من قبل في حياتي.»
أجاب الميجور طومسون، وهو يُقلب صفحة الملف: «سخيف، بلا شك، لكنه صدفة. بعد ذلك بقليلٍ أجدُك مهتمًّا بشكلٍ كبيرٍ بمدمِّراتنا الجديدة، وتُحاول، في الواقع، حثَّ الشاب كونيرز على شرح نظام الشِّباك السلكية لدينا، وتتبعه وتسافر إلى بورتسماوث وتبذل قُصارى جهدك لاكتشاف سرِّ جهاز جديد ملحَق بمدمرته.»
احتجَّ جرانيت قائلًا: «هذا ببساطة غير منطقي. كنت مهتمًّا بالموضوع، كأي ضابط عسكري سيهتم بتطورٍ بحري مهم. وكانت رحلتي إلى بورتسماوث مجردَ مجاملة للآنسة كونيرز وابنة عمها.»
تابع طومسون بثبات قائلًا: «أجدُك بعد ذلك تزور رجلَ الدولة الفرنسيَّ الوحيد الذي نشعر في إنجلترا بالخوف من تصرفاته، بفندقه في لندن. ثم أجد أنه بعد مدة وجيزة جدًّا يتضح أن رجل الدولة هذا بحوزته خطابٌ موقَّع من القيصر، يعرض فيه السلامَ على الشعب الفرنسي بشروطٍ استثنائية. من كان الوسيطَ الذي أحضر تلك الوثيقة، يا كابتن جرانيت؟»
ظلَّ وجه جرانيت جامدًا. وتماسكَ بهدوء بارد.
وقال: «هذه حكايات خرافيَّة. إن بايليتون هو صديقٌ لي. وخلال زيارتي له لم نتحدَّث عن السياسة.»
قال الميجور طومسون: «المزيد من الصدف. ننتقل، إذن، إلى تلك الليلة في ماركت بيرنهام هال، عندما أرشدَ منطادُ زيبلن إلى المكان الذي يُجري فيه السير ميفيل وورث تَجارِبَه لصالح الحكومة البريطانية، وألقى عليه قنابل مدمرة. وقد قُتل رجلٌ برصاصة بجانب الوهج. كان هذا الرجل أحدَ رِفاقك في دورمي هاوس كلوب.»
قال جرانيت في إصرار: «أنا لم أتحدَّث إليه ولم أقابله هناك، إلا كزائرٍ عادي.»
أجاب الميجور طومسون: «وهذا ما أشكُّ فيه. على أي حال، هناك أدلةٌ ظرفية كافية ضدَّك في هذا الملف تُبرر اهتمامي الشديد بمستقبلك. في واقع الأمر، كنت ستُصبح سجينًا في سجن تاور، أو مدفونًا تحته، في هذه اللحظة، لولا الفتاةُ التي ربما شهدَت زورًا من أجل إنقاذك. والآن بعد أن عرَفت رأيي فيك، يا كابتن جرانيت، ستتفهَّم أنني يجب أن أتردد قبل أن أرشحك لأي وظيفةٍ مهما كانت في خدمة هذا البلد.»
تحرك جرانيت حركةً بسيطة للأمام. واقترب قليلًا من المكتب وأصبح على بُعد ياردتين منه. ثم توقف فجأة. كان طومسون قد أغلق درج المكتب الآن بعد أن أخرج منه مسدسًا صغيرًا وأشهره في ثباتٍ بيده اليمنى.
وقال: «جرانيت، هذا النوع من الأشياء لن ينجح. أنت تعرف الآن رأيي فيك. وإلى جانب هذه الحوادث الصغيرة التي أشرت إليها، يشتبه في أنك سلَّمت، متخفيًا في شخصية قسٍّ أمريكي، رسالةً من الحكومة الألمانية إلى وزير إنجليزي، ومن حيث الأمورُ الشخصيةُ بيني وبينك، فأنا نفسي أشتبهُ في أنك حاولتَ اغتيالي مرتَيْن. وفي اعتقادي الراسخ أنك لست أكثر ولا أقلَّ من جاسوس ألماني خطير. اثبت في مكانك!»
نفرت الأوردةُ مثل حبل السوط على جبين جرانيت المتورد. وتمايل على قدمَيْه. وبدا مرتَيْن وكأنه سينقضُّ على خَصمه.
بينما تابع طومسون قائلًا: «الآن استمع إلي. سأذهب يوم الإثنين من ساوثهامبتون إلى بولونيا لمدة ثمانٍ وأربعين ساعةً لحضور محكمةٍ عسكرية هناك. لا يوجد سوى شيء واحد لائق يمكنك القيامُ به. وأنت تعلم ما هو. سأبادلك، إذا كنت ترغب في ذلك، بضابطٍ على الجبهة له رُتبك الحاليَّة نفسُها. وسيتلقَّى قائدك تلميحًا بهذا. سيصبح من واجبك تلقِّي أول رصاصة ألمانية يمكن أن تقضيَ عليك. إذا كنت راضيًا عن ذلك، فسأرتب الأمر لك. وإذا لم تكن …»
توقف الميجور طومسون عن الكلام. وارتسمت ابتسامة ملتوية غريبة على زوايا شفتَيه.
واختتم كلامه قائلًا: «إذا لم تكن، فهناك ملاحظة صغيرة أخرى ستُضاف في هذا الملف ومن ثَم تكتمل القضية. أنت تعرف الشروط الآن، يا كابتن جرانيت، التي يمكنك من خلالها الذَّهاب إلى الجبهة. سأمنحك عشرة أيام للتفكير فيها.»
احتجَّ جرانيت قائلًا: «إذا قبلتُ عرضًا كهذا، فسأصبح معترفًا بالذنب تجاه كل الهُراء الذي تحدثتَ عنه.»
قال له الميجور طومسون بصرامة: «لولا حقيقةُ أنك قد ارتديتَ الزي العسكري الملكي، وأنك جندي، وأن فظاعة الأمر ستجلبُ الألم لكل رجل شاركَك ذلك الامتياز؛ لأنهيتُ حياتك المهنية بشكل شائن من خلال ما لديَّ من أدلة كافية هنا. سأمنحك فرصتك، ليس من أجل مصلحتك ولكن من أجل شرف الجيش. ما هو ردك؟»
التقط جرانيت قبعته.
وغمغم: «سأفكِّر في الأمر بعناية.»
خرج من الغرفة دون أيِّ تحية، وشق طريقه عبر الممرات، ونزل درجات السلم وخرَج إلى وايتهول. وقد ارتسم على وجهه تعبيرٌ جديد. واشتعلت بداخله كراهية مفاجئة تجاه طومسون. لقد كان محاصَرًا من قِبَل عدوٍّ قاسٍ، الرجل الذي تعقَّبه وأوقع به، كما كان يعتقد بصدق، من خلال الغيرة إلى حدٍّ ما. وسرعان ما تبلورت الأفكار في ذهنه. وسار بعيون زائغة عبر ميدان ترافالجار، وشقَّ طريقه إلى ناديه في بال مول. وهنا كتب بضعة أسطر إلى إيزابيل وورث، معربًا عن أسفه لاستدعائه خارج المدينة في مهمة عسكرية لمدة ثمانٍ وأربعين ساعة. بعد ذلك استقلَّ سيارة أجرة وذهب إلى شقته، وأخذ يسير ذَهابًا وإيابًا بلا توقف، بينما يضعُ جارفيس بعضَ الملابس في حقيبة، ثم استبدل بملابسه بدلة صوفية خشنة، وقاد سيارته إلى بادينجتون. وبعد بضع دقائق أخذ مكانَه في كورنيش إكسبريس.