الفصل الثاني والثلاثون
خرج جرانيت من فندق تريجارتن في سانت ماري في صباح اليوم التالي، عند الساعة الثامنة والنصف تقريبًا، وتمشَّى على شريط العُشب الضيق الذي يحدُّ شارع القرية. وتقدم اثنان من أصحاب المراكب في الحال لمقابلته. فحيَّاهما جرانيت مبتهجًا.
وقال: «أجل، أنا أريد قاربًا. أودُّ الإبحار قليلًا. لقد كان لديَّ صديق هنا ومعه رجل اسمه روسيل … جوب روسيل. هل يحمل أيٌّ منكما هذا الاسم، بالصدفة؟»
هز الرجل الأكبرُ رأسَه.
وقال: «اسمي ماثيو نيكولز، وهذا صهري، جو ليثبريدج. لدينا مركب شراعيٌّ قوي، وجميع المستلزمات التي يحتاج إليها المرء. وبالنسبة إلى جوب روسيل، حسنًا، إنه ليس هنا … في الوقت الحالي، إذا جاز التعبير.»
لم يُطِل جرانيت التفكير في الأمر.
وقال بحسم: «حسنًا، يبدو لي أنني يجب أن أتحدث إلى هذا الرجل روسيل قبل أن أفعل أيَّ شيء. فأنا ملتزم بوعد نوعًا ما.»
نظر البحاران أحدهما إلى الآخَر. وابتعد الشخص الذي خاطبه أولًا قليلًا.
وقال: «كما تحب، يا سيدي. ممَّا لا شك فيه أن روسيل سيوجد هنا في وقتِ ما بعد الظهر.»
اعترض جرانيت قائلًا: «هل قلت بعد الظهر؟ لكنني أريد الذَّهاب في الحال.»
أزال ماثيو نيكولز غليونَه من فمِه، وبصق على الأرض وهو يفكر.
«أشكُّ فيما إذا كنت ستجدُ جوب روسيل ليبحر معك قبل منتصف اليوم. ولست متأكدًا على الإطلاق من أنه سيُبحر مع هذه الرياح الشمالية الغربية.»
سأل جرانيت: «ما خَطبُه؟ هل هو كَسول؟»
التفت الرجل الذي لم يتكلَّم بعد، نحوه.
وقال: «إنه ليس كسولًا يا سيدي. هذه ليست الكلمة الصحيحة. لكنه تحصَّل على المال بطريقة أو بأخرى، هذا ما حدث مع جوب روسيل. لا أحد منا يعرف كيف، وهذا ليس من شأننا، لكنه يقضي معظمَ وقته في الحانة، ويبدو أنه قد شغف بالإبحار ليلًا بمفرده، وهذا في رأيي، وهناك آخرون منا يقولون نفس الشيء، عمل غير صحي. وهذا كل ما يمكن قوله عن جوب روسيل، حسبما أعلم.»
قال جرانيت بتمعُّن: «وهو كافٍ، أيضًا. أين يعيش؟»
أجاب ماثيو نيكولز، مشيرًا بغليونه: «في المنزل الرابع على اليسار في ذلك الشارع. ربما سيأتي إذا أرسلت في طلبه، وربما لن يفعل.»
قال جرانيت بحسم: «يجبُ أن أحاول الوفاء بوعدي لصديقي. وإذا لم أجده، فسأعود وأبحث عنكما مرةً أخرى أيها الرفيقان.»
ومن ثم عاد إلى حجرة الكتابة الصغيرة، وكتب رسالةً صغيرة وأرسلها مع خادم الفندق. وبعد نحو نصفِ ساعة استُدعي مرةً أخرى للخروج إلى الحديقة. حيث كان يقف هناك رجل ضخم، لا يقوى على الوقوف باعتدال، لم يحلقْ لحيته، وكان يرتدي ملابسَ غير مهندمة، وتدلُّ نظرة عينَيه على أنه كان يشرب الخمر بكثرة.
فسأله جرانيت: «هل أنت جوب روسيل؟»
أجاب الرجل: «هذا اسمي. هل هناك أيُّ خطأ في ذلك؟»
قال جرانيت: «كلا لا يوجد. أريدك أن تأخذَني في رحلةٍ بحرية. هل قاربك جاهز؟»
نظر الرجلُ إلى السماء.
وزمجر قائلًا: «لست متأكدًا من أنني أريد الذَّهاب. فالطقس سيئ.»
حثَّه جرانيت قائلًا: «أعتقد أن عليك الذهاب. فسأدفع لك بسخاءٍ كما يمكنني المساعدة في القارب. دعنا نذهب ونرَه على أي حال.»
سارا معًا إلى الميناء. ولم يتحدث جرانيت إلا قليلًا جدًّا، بينما لم يتحدَّث رفيقُه على الإطلاق. ووقفا على رصيف القوارب الصغيرة وحدَّقا في المكان الذي ترسو فيه القواربُ الشراعية.
ومن ثَم أشار جوب روسيل، وهو يمدُّ إصبع السبابة: «هذا هو سوسي جين.»
نزل جرانيت إلى مركبٍ صغير كان مربوطًا بجانب الجدار الحجري.
وقال: «من الأفضل أن نعتليَ سطح القارب.»
حدق روسيل في وجهه للحظة، لكنَّه رضخ. سحبا المركب إلى أن وصلا إلى سوسي جين واعتلَياه. وأعاد فتًى وجداه على متن القارب المركب الصغير. وضبط روسيل أشرعته ببطء ولكن بدقة. وبدا في اللحظة التي ارتقى فيها متن القارب وكأنه رجلٌ مختلف.
وسأل: «إلى أين تريد أن تذهب؟ سوف تحتاج إلى معطف المطر، بالتأكيد.»
قال جرانيت: «أريد الذَّهاب إلى منارة بيشوب روك بسرعة.»
هز روسيل رأسه.
وقال: «إنه ليس يومًا مناسبًا للإبحار في المحيط الأطلسي، يا سيدي. يمكننا أخذُ جولة حول سانت ماري ووايت آيلاند، إذا كنت ترغب في ذلك.»
ثبَّت جرانيت معطف المطر، وانحنى للحظة لتغيير أحدِ الأشرعة.
وقال، وهو يجلس على مقعد توجيه الدفة: «انظر هنا، هذا هو عرضي، يا جوب روسيل. وسأمنحُك ورقة نقدية بخمسة جنيهات في نهاية اليوم، إذا ذهبت إلى حيث أُخبرك وليس لأيِّ مكان آخر.»
نظر إليه الرجل بتجهُّم. وبعد بضع دقائق كانوا يُبحرون خارج الميناء.
وغمغم: «إنها وظيفة سيئة، أن تؤجِّر قاربك للتنزُّه. لن يُحجم الكثيرُ منا عن بيع أرواحهم مقابل خمسة جنيهات.»
وصلا إلى سانت أجنيس قبل أن يُجريا أولَ تعديل للمسار. ثم، مع ارتطام الرذاذ بوجهَيهما، التفَّا وتوجَّها نحو الفتحة بين الجزيرتَين. ولبعض الوقت، أبقَتْ عمليةُ الإبحار كلاهما مشغولًا. وفي غضون ساعتين كانا يقفان أمامَ منارة بيشوب روك. أخذ جوب روسيل نفَسًا طويلًا وملأ غليونًا بالتبغ. كان يبدو على شخصيته الحقيقية أكثرَ الآن.
وقال: «سأجعله يدور حول النقطة التي هناك، وسنقترب من القناة ونعود عن طريق براير.»
أمره جرانيت قائلًا: «لن تفعلَ شيئًا من هذا القبيل. أبقِ رأسه متجهًا نحو البحر المفتوح حتى أُخبرك بأن تلتف.»
نظر روسيل إلى الراكب بوجهٍ مضطرب.
وسأل فجأةً: «هل أنت واحدٌ آخرُ منهم؟»
أجاب جرانيت: «لا تَشغل بالَك بمن أكون. أنا في مهمةٍ سأستكملها. إذا كانت خمسةُ جنيهات غير كافية، فسأجعلها عشَرةً، ولكن استمِرَّ في الذَّهاب إلى حيث أريد.»
أطاعه روسيل، لكن وجهه أصبح أكثرَ تجهمًا. وانحنى نحو الراكب الذي بصحبته.
سأل في حدةٍ وبصوتٍ أجش: «ما هي لعبتك؟ هناك بعضٌ منهم على الجزيرة سيُقطع عنقي إذا علموا فقط الأشياءَ التي يمكنني إخبارهم بها. ما هي لعبتك هنا، ها؟ هل تقوم بعملٍ غير شريف؟»
أجاب جرانيت: «كلا، وإلا لم أكن بحاجةٍ إلى إحضارك إلى البحر. أنا أعرف كلَّ شيء عنك، يا جوب روسيل. أنت تُبلي بلاءً حسنًا وقد يصبح أداؤك أفضل قليلًا بمرور الوقت. والآن اصبر واحتفِظ بلسانك داخل فمك.»
كانا وسط جزءٍ غريب من مجموعة الجزر الصخرية المكسورة. كانت هناك فجوةٌ كبيرة في الصخور يُصدر البحر عبرها صريرًا؛ وإلى اليسار، حول الزاوية، توجد المَنارة. فسحب جرانيت ما بدا أنه منديلُ جيب كبيرٌ من الجيب الداخليِّ لمعطفه، وأنزل راية القارب بأصابعَ رشيقة، وربط أخرى بدلًا منها ورفعها. فحدَّق فيه جوب روسيل.
«ما هذا؟»
أجاب جرانيت: «إنه العلَم الألماني، أيها الأحمق.»
قال الرجل بعنف: «لن أرفع ذلك على قاربي. خمسة جنيهات غريبة من أجل لطف …»
انفجر جرانيت، وسحب مسدسَه من جيبه وهو يقول: «اخرس! عليك أن تقود القاربَ في صمت، يا روسيل. أنا لم أُبحر إلى هنا كي أنخدع … يا إلهي!»
ظهر منظارُ غواصة فجأةً إلى جانبهم تقريبًا.
وارتفع ببطءٍ إلى السطح. وصعد ضابطٌ يرتدي الزيَّ البحري الألماني وهو يصيح. فتحدثَ إليه جرانيت بسرعةٍ باللغة الألمانية. وانتفضَ جوب روسيل بسببهما، ثم سحب قارورةً من جيبه وأخذ جرعة كبيرة. واقتربت الغواصة فألقى جرانيت بلفةٍ صغيرة من الورق عبر هوَّة المياه. وكان كل ما دار بين الرجلين غيرَ مفهوم لجوب روسيل. ومع ذلك، فإن الكلمات القليلة الأخيرة، كرَّرها الرجل الألماني باللغة الإنجليزية.
حيث كرَّرها بعناية: «برنسيس هيلدا من ساوثهامبتون، غدًا عند منتصف الليل. حسنًا، إنها مهمة كبيرة.»
أكد له جرانيت: «إنها تستحقُّ ذلك. ربما يُطلقون عليها اسم سفينة مستشفى، لكنها ليست كذلك. أنا مقتنعٌ بأن الرجل الوحيد الذي هو أكثرُ خطورةً علينا من أي إنجليزيٍّ آخر، سيكون على متنها.»
وعدَه الآخرُ قائلًا: «إذن يجب إتمام الأمر. ما دام بهذه الخطورة!»
نظر إلى أعلى نحوَ العلَم وحيَّا جرانيت. وابتعد أحدُهما عن الآخَر قليلًا. فأنزل جرانيت العلم الألماني، وربط حجرًا بداخله وألقاه في البحر.
ثم قال للبحار: «يمكنك أن تُعيدني الآن.»
لقد استغرق الأمر أربعَ ساعات للوصول إلى المرفأ. حيث فشلا ثلاث مرات في الالتفاف حول النقطة الأخيرة؛ إذ أعاقتهما في كل مرة سحبٌ ممطرة. وعندما تمكَّنا من الدخول أخيرًا، كان هناك حشدٌ صغير لمشاهدتهما. فقد وقف نيكولز وليثبريدج على جانبٍ واحد بوجهَين متجهمَيْن.
وقال نيكولاس لجوب روسيل، وهو يصعد الدرجاتِ الرطبة للرصيف: «إنه يومٌ غريب للتنزُّه في البحر.»
غمغم روسيل، وهو يشقُّ طريقه عبر الرصيف: «إنه مناسب للحصول على المال، على أي حال. إذا كان هناك أيٌّ منكما يودُّ تناول الشراب، فسأدعوكما عليه. ما رأيك، يا نيكولز؟ … ليثبريدج؟»
غمغم ليثبريدج بشيءٍ واستدار بعيدًا. ورفض نيكولز أيضًا.
وقال الأخير: «لست متأكدًا، يا جوب روسيل، من أنني تُعجبني أموالك ولا الطريقة التي تكسبها بها.»
توقَّف جوب روسيل لمدة دقيقة. كانت هناك نظرةٌ قبيحةٌ على وجهه المتجهم.
وقال: «إذا لم تكن صِهري، يا ماثيو نيكولز، كنت سأردُّ لك الصاع صاعَيْن.»
ردَّ نيكولز، وهو يبتعد: «وإذا لم تكن زوجَ أختي، كنت سأقوم برحلةٍ صغيرة إلى بنزانس، وأبلغ عنك في مركز الشرطة هناك.»
ضحك جرانيت بمرح.
وقال: «لا داعي لأن يحتدَّ أحدُكم على الآخَر يا رفاق. انظروا، سأمكث هنا لثلاثة أيام. سآخذ واحدًا منكم كلَّ يوم … وهكذا يُصبح الأمر عادلًا، أليس كذلك؟ أنت غدًا، يا نيكولز، وأنت في اليوم التالي يا ليثبريدج. أنا لا أعبأ بالطقس، كما يمكن أن يُخبركما جوب روسيل، وأجيد الإبحار بقارب منذ أن كنت صبيًّا. وأنا مغرم بالإبحار، أليس كذلك، يا روسيل؟»
قال روسيل، وهو ينظر من فوق كتفه للخلف: «أجل، يمكنك الإبحارُ بالقارب على نحوٍ جيد. يمكنك أن تُبحر به إلى الجحيم نفسِه، إذا سمَح لك أحدٌ بذلك. تعالَوا، أيها الأولاد، إذا كان هناك أحدٌ منكم يرغب في المشروب. فأنا مبلَّل للغاية.»
ومن ثَم جُهِّز قارب نيكولز على النحو الواجب في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي. وصاح ليثبريدج من على الرصيف.
«لقد غيَّر الرجل رأيه، حسبما أعتقد. فقد غادر على متن قاربٍ الساعة الثامنة متجهًا إلى بنزانس.»
بدأ نيكولز بهدوءٍ في طيِّ أشرعته مرة أخرى.
وقال وهو يصعد إلى المركب الصغير: «أعتقد يا ليثبريدج أن هناك أشياءَ تحدث في هذه الجزيرة لا نفهمها أنا ولا أنت. وسأتبادل بِضع كلماتٍ واضحةٍ مع جوب روسيل، رغم أنه زوج أختي.»
أجاب ليثبريدج على نحوٍ كئيب: «لن تستطيع الحصول على هذه الكلمات الواضحة من جوب. لقد نام الليلةَ الماضية على الأرضية في بلو كراون، وما زال هناك هذا الصباح، يُطالب بتناول المشروب ويضرب بيده في الهواء. لقد تملَّكته الشياطين الزرقاء، هذا هو ما حدث.»
قال نيكولز بجدية: «هناك مال، بعض المال، لا يُفيد أحدًا.»