الفصل الرابع والثلاثون
كان ذلك قرب نهاية عمل يوم طويل بشكل غير عادي حينما تنهَّد الميجور طومسون بارتياح؛ لأنه أدرك أن غرفة انتظار مكتبه قد أصبحت فارغةً أخيرًا. فأشعل سيجارة وتمدد على كرسيه. لقد قابل جميعَ أنواع الناس، واستمع إلى عشرات القصص المشبوهة. كان عمله معقدًا، وفي بعض الأحيان مليئًا بالتفاصيل. وإجمالًا، كان عمل يوم جيدًا، في رأيه، وقد تلقى الشكر بحرارةٍ عبر برقية من قِبَل العميد في هاريتش؛ لاعتقاله وكشفه لرجل كان بحوزته خطةٌ رائعة للغاية للدفاعات الأرضية في فيلكستو. أشعل سيجارة ونظر إلى ساعته. وعندئذٍ فُتح الباب على عجَل. ودخل أمبروز دون حتى أن يطرق البابَ كالمعتاد. وهو يحمل في يده ورقةً بالية. كان ثَمة رنةُ انتصار في نبرته وهو يرفع نظرَه عنها وينظر نحو مديره.
صاح قائلًا: «لقد فعلتُها يا سيدي! تمكنت من فكِّها بالصدفة البحتة. لقد حصلت على الشفرة بالكامل. إنها تستند إلى المقالات الافتتاحية في صحيفة «التايمز» بتواريخَ معينة. هذه هي الرسالة بعد فكِّ الشفرة: «اترك لندن في ٤ يونيو. أشعل الوهج في منتصف الليل عند قصر باكنجهام، ودرجات سلَّم سانت بول، والحدائق أمام سافوي. استلمنا تقريرَك الأخير».»
كرَّر طومسون، وهو يُلقي نظرةً سريعة على تقويمه: ««اترك لندن في ٤ يونيو» … أي اليوم! «أشعل الوهج» … مناطيد زيبلن، يا أمبروز!»
أومأ الموظف برأسه.
ووافق على ذلك قائلًا: «لقد فكرت بهم في الحال يا سيدي. هذا تحذير واضح جدًّا ومميز في شفرةٍ شديدة التعقيد، وهو موجَّه … إلى السير ألفريد أنسيلمان.»
التمعَت عينا طومسون.
وقال معترفًا: «أمبروز، أنت شخص يُعتمد عليه. أنا لن أنسى هذا. فقط اكتشف على الفور ما إذا كان المدير في غرفته، من فضلك.»
تبع ذلك نصفُ ساعةٍ من الأحداث اللاهثة. إذ من غرفة المدير سارع طومسون إلى مقرِّ البحرية الملكية. وهنا اصطحبه أحدُ الرجال الذي طلب هو مقابلته، إلى سطح المبنى، ووَقَفا هناك متجهَين نحو الشرق. كان الشفق يقترب ولم يكن هناك نسمةٌ من الهواء.
فقال المسئول: «إنها ليلة مناسبة تمامًا. إذا بدَءوا في الوقت المناسب، سيصلون إلى هنا قبل أن يتمكنَ أيُّ شخص من رؤيتهم. ومع ذلك فسوف نُحذر الساحل بأكمله، وستعمل منصات المدافع لدينا طوالَ الليل.»
سأله طومسون: «هل لدينا فرصة، في رأيك، لضرب أيٍّ منهم؟»
غمز البحار.
وقال: «هناك منصتان للمدافع أعرفُ أنهما ليستا بعيدتَين عن هنا. أؤكد لك أن لديهما أسلحةً هناك ستجعل أصدقاءنا يُمزقون شعورهم عندما تنفجر قذائفهم في الهواء. سأحاول الوصول إلى إحدى هاتَيْن المنصتَيْن بنفسي عند منتصف الليل.»
«في أي وقت تعتقد أنهم سيُهاجمون إذا تجاوزوا ذلك؟»
أخرج الآخرُ ساعته وحاول تقدير الوقت.
وقال بينما يُفكر: «بالطبع، سيرغبون في تحقيق أقصى استفادة من الظلام، لكنني أعتقد أن ما سيهدفون إليه أساسًا هو الوصول إلى هنا دون أن يُلاحظهم أحد. لذلك، أعتقد أنهم لن يبدءوا حتى يحلَّ الظلام، ربما من ثلاث أو أربع قواعد مختلفة. هذا يعني أنهم سيَصلون إلى هنا قبل الفجر بقليل. سأنقل فقط مجموعتي إلى هارو وأعود مرةً أخرى بحلول منتصف الليل.»
غادر طومسون مقر البحرية الملكية، بعد ذلك بقليل، واستقلَّ سيارة أجرة إلى بيركلي سكوير. تردد الخادم قليلًا عند سؤاله.
وقال: «الآنسة جيرالدين موجودة، يا سيدي، على ما أعتقد. إنها في غرفة المعيشة في الوقت الحالي.»
قال طومسون: «لن آخذَ الكثير من وقتها. أعلم أنه وقت تناول العشاء تقريبًا.»
فأرشده الرجل عبر البهو، وفتح باب الغرفة الصغيرة في الجزء الخلفي من السُّلم.
ثم أبلغها: «الميجور طومسون، يا سيدتي.»
نهضت جيرالدين ببطءٍ من الأريكة التي تجلس عليها. وعلى بعد بضع أقدامٍ فقط منها، كان جرانيت واقفًا. فنظر الثلاثة كلٌّ منهم إلى الآخر للحظة ولم ينطق أحدٌ بكلمة. كانت جيرالدين هي أول من تمالكت نفسَها.
وصاحت بحرارة: «هيو! عجبًا، أنت زائرٌ آخر غير متوقع!»
قال طومسون موضحًا: «ما كان يجب أن أحضر في مثل هذا الوقت، لكنني أردتُ فقط أن أتحدَّث معكِ حديثًا قصيرًا، يا جيرالدين. وإذا كنتِ مشغولة، يمكنني الحديث مع والدتك.»
قالت جيرالدين: «أنا لستُ مشغولةً على الإطلاق، وكنت أتوقع زيارتك لي طوال اليوم. لقد عدتُ من بولونيا الليلة الماضية.»
قال طومسون: «تبدين بأحسنِ حال، وهذا يُسعدني.»
ارتجفت قليلًا. ثم نظرت إلى وجهه، وقد امتلأت عيناها بأشياءَ غير منطوقة.
وغمغمَت: «والفضل لك.» ثم أضافت مع ضحكةٍ صغيرة: «مع ذلك، لا أريد أن أخيفك، وأعرف ما سيحدث إذا بدأت أتحدث عن مغامرتنا.» وتابعت وهي تلتفُّ نحو المكان الذي يقف فيه جرانيت: «أنا آسفةٌ يا كابتن جرانيت، لكن لا يمكنني قَبول دعوة عمتك. إنها دعوةٌ كريمةٌ منها ولطفٌ منك أن تُريدني بشدةٍ أن أذهب، لكنني لن أستطيع تَرْك والدتي هذه الليلة. لقد كانت تُعاني من نوبةِ قلقٍ تجاه رالف في الأيام القليلة الماضية، وهي تكرهُ تركها بمفردها.»
سأل طومسون بهدوء: «هل يُحاول الكابتن جرانيت إقناعَكِ بمغادرة لندن هذا المساء؟»
أجابَت جيرالدين: «إنه يريدني بشدةٍ أن أذهب إلى منزل الليدي أنسيلمان في ريجيت هذه الليلة. لقد قبلت بالفعل دعوة الليدي أنسيلمان منذ بضعة أيام، ولكن كان ذلك قبل أن تسوء حالة أمي.» وتابعَت، وهي تلتفتُ إليه: «لقد أرسلت رسالةً لعمتك، يا كابتن جرانيت. أرجو أن تشرحَ لها مدى إحباطي، وكان من اللطيف منك أن تأتيَ وتطلبَ مني أن أغير رأيي.»
ساد صمتٌ قصيرٌ ولكن مثيرٌ للفضول. التفت جرانيت عن جيرالدين وكأنه سيخاطبُ طومسون. كان يواجه الآن التحديَ الصامت، وشبهَ المحتقر لعيون الأخير.
قال طومسون: «إن الكابتن جرانيت يُبدي اهتمامًا كبيرًا لراحتكِ وسلامتك.»
نسيَ جرانيت نفسه للحظة. ولمعت عيناه. كان نصف غاضب ونصف مذعور.
وسأل بحدة: «ماذا تقصد؟»
لم يُصدر طومسون إجابةً فورية. وبدا كأنه يُفكِّر في كلماته، وكان تعبيره غامضًا. وأخذت جيرالدين تنقل نظرَها بينهما.
وقالت بصراحة: «هناك شيءٌ بينكما لا أفهمه.»
قال طومسون بهدوء: «هناك الكثير جدًّا عن الكابتن جرانيت بدأت للتو في فهمِه. يجب أن تعتبري تعاطفه مع تحركاتكِ هذا المساء مجاملةً كبيرة، يا جيرالدين. إنه ينبع بالكامل من رغبته في تجنيبكِ صدمة ما قد يتحوَّل إلى كارثةٍ مؤسفةٍ للغاية.»
تنهدت جيرالدين وهي تقول: «إنكما رجلان غير مفهومَين تمامًا. لو تحدَّث فقط أيٌّ منكما بصراحة!»
انحنى طومسون.
وقال: «ربما أكون قادرًا أن أرضيَكِ في الوقت الحالي.» وتابع، وهو يلتفت نحو جرانيت: «بما أنكَ فشِلتَ في إقناع الآنسة كونيرز بمغادرة لندن، يا كابتن جرانيت، فهل يمكنني أن أسأل ما هي تحرُّكاتك المحتملة؟»
كان الرد المنفعل: «لا يمكنك. إنه أمرٌ لا يَعنيك.»
أجاب طومسون: «إنه، للأسف، أمرٌ يَعنيني للغاية. إنه، ولعلك تتذكر، يومك التاسع من المهلة. وأنا لا أرغب في أن تعاني بلا داعٍ لزيارتك الإنسانية هنا، لكنني أريد أن أذكِّرك أنه في ظل هذه الظروف، فإن ذلك يُمثِّل القليل من المجازفة. كلا، لا تقاطعني! كلٌّ منا يفهم الآخر، أنا متأكد تمامًا.»
تراجع جرانيت خطوةً إلى الوراء. وشحب وجهه للحظة، وفُتحت شفتاه لكنهما أغلِقَتا مرة أخرى دون كلام. بينما يراقبه طومسون عن كثب.
وتابع قائلًا: «بالضبط. لقد خمنت الحقيقة، يمكنني إدراك هذا. لقد تمكنا، خلال الساعات القليلة الماضية، من فك شفرة تلك الرسالة الشيقة للغاية التي وصلت إلى عمك منذ بعض الوقت.»
زادت حيرة جيرالدين. إذ يبدو أن صمت جرانيت شبه المذهول يدهشها.
فصاحت: «هيو، ماذا يعني كل هذا؟ هل الكابتن جرانيت في ورطة لأنه جاء إلى هنا ليُحذرني من شيء ما؟ إنه لم يتفوَّه بكلمة سوى أنه رجاني أن أسافر إلى الريف الليلة.»
قال طومسون: «لقد رجاكِ أن تفعلي ذلك، لأنه واحدٌ من أولئك القلائل المحظوظين الذين تلقَّوا تحذيرًا من أن الليلة أو صباح الغد هو الوقت المحدد لغارة زيبلن على لندن التي سمعنا عنها كثيرًا. أوه! إنه يعرف كل شيء عن ذلك، وعمه، وعددٌ كبير من الضيوف الذين تجمعوا معًا. سيصبحون جميعًا آمنين بدرجةٍ كافية في ريجيت! هيا، يا كابتن جرانيت، ماذا لديك لتقولَه عن ذلك؟»
وقف جرانيت وقفة عسكرية في انتباه. وبدا كجندي في كل ملمح من ملامحه، ومن الغريب أنه بدا في موقفه وتصرفه يحترم الرتبة الأعلى التي تحدَّث طومسون بموجبها.
وقال: «غدًا، كما ذكرتني، هو يومي العاشر، يا سيدي. سأضع نفسي تحت تصرف مكتبِك عند الساعة التاسعة صباحًا. وداعًا يا آنسة كونيرز! آمُل، على الرغم من أنني فشلت، أن يُقنعكِ الميجور طومسون بتغيير رأيك.»
ثم غادر الغرفة. بينما جيرالدين مندهشة للغاية لدرجة أنها لم تُحرك ساكنًا كي ترن الجرس. واستدارت بدلًا من ذلك نحو طومسون.
وقالت في إصرار: «ماذا يعني ذلك؟ يجب عليك أن تُخبرني! أنا لستُ طفلة.»
أجاب طومسون بجدِّية: «هذا يعني أن ما قلته لكِ طوال الوقت هو الحقيقة. لقد كنتِ تظنين، يا جيرالدين، أنني كتوم ومتشكك. لكن لديَّ سلطات ومنصب ومسئوليات، أيضًا، أنت لا تعرفين عنها شيئًا. ذلك الشاب الذي غادر الغرفة لتوِّه هو جاسوسٌ لألمانيا. وكذلك عمه.»
فصاحَت: «ماذا، السير ألفريد أنسيلمان؟ هل أنت مجنون، يا هيو؟»
أجابها قائلًا: «على الإطلاق. هذه حقائق مجردة.»
«لكن السير ألفريد أنسيلمان! قد فعل العديد من الأشياء الرائعة للبلد. إن الجميع يقولون إنه كان يجب أن يصبح وزيرًا. هيو، لا يمكن أن تكون جادًّا!»
قال طومسون بجدية: «أنا جادٌّ للغاية؛ لأننا نجحنا قبل ساعةٍ واحدةٍ فقط في فك شفرة رسالةٍ من هولندا إلى السير ألفريد أنسيلمان، تنصحه بمغادرة لندن اليوم. ونحن نُخمِّن ماذا يعني ذلك. قد نكون على حقٍّ وقد نكون مخطئين. سوف نرى. لقد جئت لأرجوكِ كي تُغادري المدينة مدةَ أربعٍ وعشرين ساعة. فوجدتُ جرانيت في نفس المهمة.»
قالَت في إصرار: «لكن ربما حذروه — ربما أحد أصدقائه الشخصيِّين قد فعل ذلك. إنه رجل له أصدقاء وعلاقات من جميع أنحاء العالم.»
قال طومسون مجادلًا: «لماذا لم يوجه التحذير مباشرةً إلى قيادة البحرية الملكية؟ إذا كان إنجليزيًّا وطنيًّا، فهل تعتقدين أن أي مسار آخر كان مفتوحًا له؟ هذا لن يُجدي، يا جيرالدين. فأنا أعرف المزيد عن الكابتن جرانيت أكثرَ مما سأخبركِ به في الوقت الحالي. هل نترك هذا الموضوع؟ ألا يمكننا أن نفعل شيئًا لإقناع والدتكِ بأخذكِ بعيدًا عن المدينة؟ يمكنكِ اصطحاب بعض أصدقائك، إذا أردت. يجب أن تصحبي أوليف، على سبيل المثال. نحن لا نريد حالة من الذعر، ولكن لا يوجد سبب يمنعكِ من إخبار أيٍّ من أصدقائكِ بهدوء.»
فُتح الباب فجأة. وأطلَّ الأدميرال برأسه من خلاله.
وقال معتذرًا: «آسف! اعتقدت أنني سمعت أن الشابَّ جرانيت كان هنا.»
قالت له جيرالدين: «لقد كان هنا وانصرف يا أبي.» وأضافت، وهي تلتفت نحوَ طومسون: «من الأفضل أن ترى ما يمكنك فعله مع والدي.»
سأل الأدميرال في حدة: «ما المشكلة، ها؟ ما المشكلة؟ ما المشكلة؟»
قال طومسون: «الحقيقة هي، يا سير سيمور، أننا قد تلقينا إخطارًا — ليس إخطارًا على وجه التحديد، لكننا استطعنا فك تشفير رسالةٍ سرية تُعطينا سببًا للاعتقاد بأن غارةَ زيبلن ستجري محاولة تنفيذها في لندن خلال الأربع والعشرين ساعة القادمة. وقد جئتُ لأحاول حث جيرالدين على جَعْلكم جميعًا تبتعدون حتى ينتهيَ الأمر.»
أطلق الأدميرال صوتًا من حلقه وهو يقول: «اللعنة عليَّ إن فعلت! ماذا، أتسلل هاربًا وأترك خمسة أو ستة ملايين آخرين لم يتم تحذيرهم، كي يتعرَّضوا للهلاك؟ ليس أنا! إذا كان ما تقوله صحيحًا، يا طومسون … فسأعود مباشرةً إلى مقر البحرية الملكية … سأذهب إلى إحدى المنصات الجوية بنفسي، ويمكن للنساء البقاءُ في المنزل والاستعداد للمساعدة.»
مرَّرت جيرالدين يدها من خلال ذراع والدها.
وضحكت قائلة وهي تلتفت نحو طومسون: «هذا هو نوع الأشخاص الذي نحن عليه.» ثم أضافت: «مع ذلك، يا هيو، كان من اللطيف جدًّا أن تأتي. لكني لا أستطيع رؤيتنا نفرُّ إلى الريف، كما تعلم. سأحاول إقناع أوليف بالبقاء معي. وأتوقع العودة إلى بولونيا على الفور تقريبًا، إلى المستشفى هناك، لإعادة بعض الجرحى. وقد أحصل على القليل من التدريب هنا.»
التقط طومسون قبعته.
وقال بهدوء: «حسنًا، لا يُمكنني الشكوى من قرارك. ففي نهاية الأمر، هذا هو بالضبط ما كنتُ أتوقعه.»
ثم ودعهما وغادر. بينما أصدَر الأدميرال صوتًا من أنفه وهو يتابعه ببصره من الخلف.
وقال: «إن طومسون، رجل جيد للغاية، لكنه لا يفهم الأمور على نحو جيد. أراهن أن الشابَّ اللطيف جرانيت لن يقترح علينا أبدًا أن نهرب مثل الخراف المرتعبة! تعالي، يا عزيزتي، سنذهب لتناول العشاء.»