الفصل الخامس
أمضى اللورد رومسي، بعد حضور حفل الغداء، ساعةً في مقرِّه الرسمي في وايتهول وأجرى زيارتَيْن أخريَيْن في طريقه إلى المنزل. وقابله سكرتيره في القاعة الفسيحة بمنزله في بورتلاند سكوير، بعد لحظاتٍ قليلة من خلعه لمعطفه وقبعته وإعطائهما للخادم.
وقال: «هناك رجلٌ يرغب في مقابلتك ويقول إنه قد حدَّد موعدًا عبر الهاتف، يا سيدي. اسمه سيدني — القس هوراشيو سيدني، حسبما قدم نفسه.»
وقف اللورد رومسي لحظةً دون رد. وزمَّ شفتَيه بحدةٍ وحَنق. كان من الواضح أن هذا لم يكن بأيِّ حال من الأحوال زائرًا مرحَّبًا به.
وقال: «أنا لم أحدِّد موعدًا، يا إنسلي. لقد قلت ببساطة إنني سأقابل الرجل عندما يصل إلى إنجلترا. من الأفضل أن تُحضره إلى مكتبي»، وتابع: «واحرص على ألَّا يُقاطعنا أحد.»
انسحب الشاب واتجه الوزير إلى مكتبه. غير أنَّ خطاه افتقدَت القليل من المرونة، وجلس أمام مكتبه مع مظهر رجل يُواجه ربع ساعة بغيضة. وأخذ يعبث لحظةً بحامل القلم.
وغمغم لنفسه بشكل كئيب: «الأسرار المخجِلة.» وأضاف، مع عودة لحظيةٍ لنفسه المتضخمة: «حتى أعظمنا، لديه بعضها.»
طرَق البابَ وعاد السكرتير إلى الظهور، ليُقدم الزائر غير المرغوب فيه.
أعلن بهدوء: «هذا هو السيد سيدني، يا سيدي.»
نهض الوزير في مكانه ومدَّ يده بأفضلِ أسلوبٍ رسمي له، وهو مَزيجٌ مميزٌ من التحفُّظ والتنازل. غير أن طريقته تغيَّرَت في اللحظة التي أُغْلِق فيها الباب. وسحب يده، التي لم يُحاول الآخَرُ الإمساك بها.
وقال مشيرًا إلى كرسي: «لقد منحتك المقابلة التي تُريدها، لكنني سأصبح سعيدًا إذا قمت بشرح الهدف من زيارتك بأقلِّ عددٍ ممكنٍ من الكلمات. وأنا آمُل، أن تُقدِّر حقيقة أن وجودك هنا هو أمرٌ محرجٌ للغاية بالنسبة إليَّ.»
انحنى السيد سيدني للتحية. كان رجلًا طويلَ القامة ويبدو كبيرًا في السن، ويتحلَّى بأقصى درجات الرَّصانة. وجلس على الكرسيِّ دون تسرعٍ لا داعي له، وضبَط نظارته وأخذ بعض الأوراق من جيبه.
ثم بدأ حديثه بتأنٍّ ولكن بدون أي لهجة أجنبية: «سيدي، أنا هنا كي أقدمَ لك بعض المقترحات نيابةً عن شخص، وبِناءً على طلبك لن أذكر اسمه.»
عبَس اللورد رومسي في ضجر وطرق على المكتب الذي بجانبه بسبَّابته الغليظة.
وقال: «لا يمكنني منع حديثك، بالطبع، لكنني أُريدك أن تفهم من البداية أنني لستُ في وضعٍ يسمح لي بالتعامل مع أي رسائل أو اتصالات من سيدك، أيًّا مَن كان هو، أو أي شخص آخر في بلدك.»
قال الآخر بجفاء: «ومع ذلك، يجب أن أُبلغك رسالتي.»
ظهر دافعٌ من الفضول بصعوبةٍ من بين الكآبة والتخوف اللذَين غلَبا على طريقة اللورد رومسي. وحدق في زائره بحاجبَيْن منعقدَيْن.
ويسأله بحدَّة: «من أنت؟ هل أنت رجلٌ إنجليزي؟»
كان الردُّ الباهت: «ليس لهذا علاقة بموضوعنا.»
قال اللورد رومسي في إصرار: «بل له علاقة. لقد تجرَّأت على إعلان نفسك سفيرًا إليَّ من بلد في حالة حرب مع إنجلترا. إن مجرد النقاش بيننا يرقى إلى حدِّ الخيانة. وبعد مزيدٍ من التفكير في الأمر أنا أرفض استقبالك.»
ومن ثَم مد يده نحو الجرس الكهربائيِّ الموضوع على مكتبه. فهز زائره رأسه.
وقال بهدوء: «لو كنت في مكانك، لَما تصرَّفت هكذا. تعرف لماذا. إذا كنت مهتمًّا حقًّا بجنسيتي، فلا ضرر من إخبارك أنني مواطنٌ أمريكي، وقد شغلت منصبَ قسٍّ أمريكي في بروكسل مدة ثلاث سنوات. ومن الأفضل أن تدَعَني أقول ما جئتُ لأقوله.»
تردَّد اللورد رومسي. حيث طغَتْ عليه نزعتُه الطبيعية للتكيُّف مع الظروف، فترك إصبعُه الجرس. وتابع الآخر حديثه.
«إنك في وضعٍ مؤسف، يا لورد رومسي، حيث فشلتَ تمامًا في أداء واجبك تجاه بلدك، وخدَعتَ بشكلٍ صارخٍ وخائنٍ شخصيةً هامَّة كانت تُعاملك دائمًا بأكبر قدرٍ من اللطف. وأنا هنا لأرى ما إذا كان من الممكن لك التعويضُ عن ذلك.»
قال الوزير بانفعال: «أنا أُنكر كل كلمة تقولها، وأرفض الاستماع إلى اقتراحك.»
تغيرَت طريقة السيد سيدني فجأةً. وانحنى إلى الأمام في كرسيه.
وقال ناصحًا: «لا تكن أحمقَ. إن رسالتك الأخيرة إلى شخصيةٍ معينةٍ مؤرَّخةٌ في الثاني من يونيو. لديَّ نسخةٌ منها معي. هل أقرؤها لك، كلمةً كلمة؟»
قال اللورد رومسي بصوت خفيض: «شكرًا لك، أتذكر ما يكفي منها.»
تابع المبعوث: «سوف تستمع إذن إلى ما يجب أن أقوله، وإلا فستُنشر تلك الرسالة في صحيفة «التايمز» صباح الغد. وأنت تعرف ما الذي سيعنيه ذلك … دمارك السياسي، وعارك الأبدي. ما الفائدة التي ستعود على هذا البلد، الذي أعماه التعصبُ في الوقت الحالي، من رجلِ دولةٍ، بدون أن يحصلَ على تفويضٍ من شعبه، ألزمَ حكومتَه بالتحالف مع ألمانيا، وبتوقيعِه الخاص …»
قاطعه اللورد رومسي: «توقف! لا داعيَ لذلك. ما الذي تُريده؟»
«نُفوذك في مجلس الوزراء. أنت مسئول عن هذه الحرب. عليك أن تضع حدًّا لها.»
صاح الآخر بصوتٍ متحشرج: «كلام فارغ! أنت تحاول تحميلي مسئوليةً مثل هذه؛ ببساطةٍ لأن تعاطفي الشخصي كان دائمًا إلى جانب البلد الذي تُمثله.»
رد السيد سيدني بسرعة: «إنها ليست مسألةَ تعاطفك الشخصي. لقد تعهدتَ كتابةً بأن تُحجم حكومتك عن الحرب ضد ألمانيا.»
احتجَّ رجل الدولة قائلًا: «كيف كان من الممكن تخمينُ أن ألمانيا تُفكر في التنصُّل من المعاهدات، والدخول في حملة عدوانٍ خالص وفاضح؟»
كان الردُّ الهادئ: «أنت لم تضع شروطًا أو استثناءاتٍ في ما كتبتَه. لقد تعهَّدت وأكدت أن حكومتك لن تُعلن الحرب على ألمانيا أبدًا. لقد ألمحت إلى أن الوِفاق الفرنسي وفاقٌ غير طبيعي. وتحدَّثت ببلاغةٍ عن قرابة الدم والروح بين إنجلترا وألمانيا.»
تحرَّك اللورد رومسي بشكلٍ مضطرب في كرسيِّه. لقد كان يتوقع أن يجد هذه المقابلةَ غيرَ سارة، وبالتأكيد لم يَخِب توقعه.
أقرَّ قائلًا: «حسنًا، لقد كنت مخطئًا. ما قلته كان صحيحًا بدرجةٍ كافية. لم أكن أعتقد قطُّ أن الحكومة التي كنت أحدَ وزرائها ستُعلن الحرب على ألمانيا. حتى الآن، دَعْني أخبرْك أنه لا يوجد أحدٌ على وجه الأرض يعرف كم كان الأمر قريبًا. لو كان شعبك قد اختار فقط أيَّ خطِّ تقدُّمٍ آخر!»
قال السيد سيدني: «لم آتِ إلى هنا لتبادل الاتهامات. هذه ليست مهمَّتي. أنا هنا لأوضِّح شروطنا الخاصةَ من أجل الامتناع عن إرسال رسائلك — رسائلك الشخصية إلى القيصر — إلى الصحافة الإنجليزية.»
نهض اللورد رومسي واقفًا على قدميه.
وصاح: «يا إلهي، يا رجل! هل تعرف ما تقوله؟»
أجاب الآخر: «تمامًا. لقد أخبرتُك أن مهمتي جادة. هل عليَّ المُضيُّ قُدمًا؟»
عاد الوزير للجلوس على مقعده ببطء. ومن خلف المصباح الكهربائي كان وجهُه قد ابيضَّ بشكلٍ مروِّع وهرب منه الدم. وخلال مدة التوقف القصيرة التي تلَت ذلك، بدا كأنه ينظر عبر جدرانِ الغرفة إلى فصلٍ قبيح من مستقبله. إذ رأى العناوين الرئيسية في الصحف، والمقالات الافتتاحية، وذروة النميمة والثرثرة في الأشهر القليلة الماضية، ونهاية حياته السياسية — نهايةً مُخزية وغير مشرِّفة! من المؤكد أنه لم يوضع أيُّ إنسان في مثل هذا المأزق المؤلم. إن التفاوض مع هذا الرجل يعني الخيانة. وطرده يعني العار.
تابع ضيفُه بهدوء: «ألمانيا تريد السلام. وهي ربما لم تُنجز كل ما كانت تتمنَّى إنجازه من خلال هذه الحرب، ولا تزال قويةً كما كانت دائمًا من وجهة نظر عسكرية، لكنها تريد السلام. لا أحتاج إلى قول أكثرَ من ذلك.»
هز اللورد رومسي رأسه.
وقال: «حتى لو كان لديَّ النفوذ، وهو ما ليس لدي، فإن المشكلة ليست في الحكومة على الإطلاق. إن البلد لن يقبل الأمرَ أبدًا.»
كان الرد السريع: «إذن من الأفضل أن تُغير رأي البلد، اعتبر هذا الأمرَ هو مهمتك. وتذكَّر هذا … أنت الرجل الوحيد في العالم، وليس القيصرَ، المسئولُ عن هذه الحرب. ولولا كلماتُك الرسمية التي تعهَّدتَ فيها بأن يظل بلدك على الحياد، لما كانت ألمانيا لتفرضَ الأمر كما فعلَت. والآن عليك أن تُصلح خطيئتك. وأنا أقول لك إننا نريد السلام. قد تأتي المبادرات الأولى ظاهريًّا من خلال واشنطن، إذا جاز التعبير، لكنها يجب أن تأتيَ منك في الواقع.»
أسند الوزير ظهرَه على كرسيه. كان هدوءه هدوءًا يائسًا.
وقال ببساطة: «ربما تطلب مني أيضًا أن آمُرَ أسطولنا بالخروج من بحر الشمال.»
نهض السيد سيدني على قدميه.
ونصحه قائلًا: «أعتقد أنه من الأفضل لك أن تُحاول فِعل ما يمكنك فعلُه، يا لورد رومسي. سنمنحك القليل من الوقت. وقد نمدُّ الوقت، إذا وجدنا آثارًا لنفوذك. لديك اثنان من الزملاء، على الأقل، من دُعاة السلام. خذهما في صفك، وتحدَّث إليهما سرًّا في البداية. ازرع بذرةً صغيرةً فقط واحرص على أن تنموَ. نحن لا نتوقَّع المستحيلات، فقط … تذكَّر ماذا سيعني لك الفشل.»
نظر اللورد رومسي بثباتٍ إلى زائره. كان السيد سيدني طويلَ القامة ونحيفًا، وبالتأكيد لم يكن هناك شيءٌ في مظهره أو لهجته يدلُّ على أنه ألماني أو أمريكي. كان صوته بلا سمة مميزة، وتحفُّظه غير طبيعي. وبعد أن تخلص الوزيرُ من مَخاوفه الفورية، أصبح مدركًا لغريزة الفضول القوي.
وسأل: «كيف يمكنني التواصلُ معك، يا سيد … سيدني؟»
فأجاب الآخر: «لا يمكنك التواصلُ معي مطلقًا. عندما أعتقد أن الأمر يتطلَّب ذلك سآتي لمقابلتك مرة أخرى.»
«هل أنت أمريكي أم ألماني أم إنجليزي؟»
كان الرد الجاف: «أنا أختار الجنسية التي أريدها حسبما تقتضي الضرورةُ الحاليَّة. إذا كنت تشكُّ في أوراق اعتمادي، فربما يمكنني أن أحوز ثقتك بتَكرار المحادثة التي جرت بينك وبين القيصر في شُرفة القصر الإمبراطوري في بوتسدام بين الساعة الثالثة والرابعة بعد ظهر يوم السابع من أبريل. لقد أعطيت القيصر وصفًا بسيطًا لزملائك في مجلس الوزراء، وسخرت من الفكرة المجردة أن واحدًا أو اثنين منهم، بأي حالٍ من الأحوال، سيُوافق أبدًا على …»
قاطعه الوزير بصوتٍ متحشرج: «هذا سيفي بالغرض.»
قال الآخر: «كما تشاء. أتمنى لك يومًا سعيدًا، يا سيدي. إن الأمر مطروحٌ أمامك الآن بوضوحٍ تامٍّ. دعنا قريبًا نُقيِّم تأثيرَ التغيُّر في توجهاتك.»
لمس اللورد رومسي جرسه في صمتٍ وغادر زائرُه في رصانةٍ وتهذيب. وسار مع السكرتير عبر البهو.
وقال بلطف: «هذه أيامٌ حزينة لنا جميعًا. لقد أخبرت اللورد رومسي عن بعض تجارِبي في بروكسل. فقد كنتُ قسًّا أمريكيًّا في الكنيسة الجديدة هناك عندما اندلعت الحرب. ورأيت مشاهدَ لن أنساها أبدًا، أهوال لن تُفارقني ذكراها مطلقًا.»
أومأ السكرتير متعاطفًا. وكان يحاول الانصراف مبكرًا، وبغضِّ النظر عن ذلك، فقد سمع الكثير بالفعل عن بلجيكا.
ومن ثَم قال: «هل تسمح لأحد الخدم بإحضار سيارة أجرة لك؟»
أجاب السيد سيدني: «أنا أُفضِّل السير مسافة قصيرة. أنا أشعر أني في وطني تمامًا وأنا في لندن. لقد دُعيت ذات مرة، في الواقع، للعمل كقسٍّ هنا. أتمنى لك يومًا سعيدًا، يا سيدي. لقد أجريت محادثةً جيدةً للغاية مع رئيسك، وهي محادثةٌ ستبقى مدةً طويلة في ذاكرتي.»
انحنى السكرتير لتحيته وسار السيد سيدني ببطءٍ إلى زاوية الميدان. وعند وصولِه إلى هناك، أشار إلى سيارة أجرة توقَّفَت على الفور بجانب الرصيف. وبينما يخطو لركوب السيارة، احتكَّ برفقٍ بكتف رجلٍ توقَّف لإشعال سيجارة. فتباطأ لحظةً للاعتذار.
وقال: «أستميحك عذرًا …»
للحظةٍ واحدة بدا أنه قد فقد رِباطةَ جأشه. إذ نظر إلى الوجه البارد، غير المبالي للرجل المرتدي زيَّ ضابطٍ الذي كان يبتعد بالفعل، كما لو أنه رأى شبحًا. لكن تردُّده لم يَدُم إلا لمجرد ثوانٍ، رغم ذلك.
اختتم حديثه قائلًا: «كان تصرفًا أخرقَ مني.»
لمس الميجور طومسون قبعته لتحيته وهو يُغادر.
وقال بهدوء: «لا بأس.»