الفصل السادس
كانت الغرفة عبارةً عن مكتب يتَّسم بفخامةٍ ذكورية. حيث عُلقت على الجدران البُنية مجموعةٌ مختارة من المطبوعات الرياضية، متنوعة هنا وهناك مع نقوشٍ فِضية محفورة لنساءٍ جميلات في أوضاعٍ مختلفة. كما وُضع عددٌ كبيرٌ من الصور الفوتوغرافية، معظمها موقَّعة، فوق رف المدفأة؛ وكذلك علبة سيجار، وحقيبة بنادق صيدٍ ومسدسات رماية، وبعض أدوات صيد الأسماك، وصندوق كتب، موزَّعة بشكلٍ مناسب حول الغرفة. وهناك أيضًا بعض الجوائز الحربية معروضة بدون تفاخُر، ومنضدة كتابة جذَّابة وُضع عليها هاتف. وفوق بساطٍ أخضر سميكٍ ممتدٍّ أمام المدفأة، يرقد كلبُ صيد وهو ينظر باسترخاءٍ نحو نار المدفأة. كانت الغرفة خاليةً وساكنة، باستثناء الدقات البطيئة لساعةٍ عتيقةٍ موضوعةٍ تحت شعار النبالة المزخرف في الزاوية البعيدة. وقد انكسر طرَفُ جذعٍ من الحطب وسقط على أرضية المدفأة مُحدِثًا صريرًا. فنهض كلبُ الصيد على قدمَيه متكاسلًا، وهز نفسه ووقف ينظر في ضيقٍ إلى كسرة الحطب التي انبعث منها الدخان. ولرِضاه عن عدم وقوع أيِّ ضررٍ شخصي له، كوَّم نفسه ورقَد مرة أخرى. ومن ثَم بدَت الشقة ثانيةً وكأنها أصبحت تجسيدًا للراحة. ثم أشارت الساعة، بعد تنبيهٍ بصفير حاد، إلى السابعة. ففتح الكلب إحدى عينَيه ونظر إلى أعلى نحوَها. وبعد بضع دقائق، انكسر هدوءُ المكان بطريقةٍ مختلفة. إذ انبعث صوتُ مِفتاحٍ يوضع بشكلٍ متعجِّل في قُفل الباب الخارجي. فوقف الكلب على قدمَيْه في ترقُّب. وفُتح الباب المؤدِّي إلى الغرفة وأُغلق بسرعة. ووقف رجل، يتنفَّس بصعوبة، لحظةً على العتبة، وانحنى رأسُه قليلًا كما لو كان يستمع. وبعد ذلك، دون أن يُلقيَ نظرةً، حتى، على الكلب الذي قفز لتحيَّته، عبَر الغرفة بخطًى سريعة، وحذرة. وقبل أن يتمكن من الوصول إلى الجانب الآخر، فُتح الباب المواجه له. ونظر خادمٌ عبره مستفسرًا.
«جهِّز لي حمامي وملابسي، يا جارفيس، بسرعة!»
انصرف الرجل بسرعة، وتبعه سيِّده عن قرب. ومن مكانٍ أبعدَ داخل الشقة، سُمع صوت الماء المتدفق داخل الحمام. ومن ثَم أغلق الباب، وساد الصمت مرةً أخرى. وعاد كلب الصيد، بعد لحظات قليلة من حكِّه الباب، إلى مكانه على البِساط وكوم نفسه ليستكمل نومه.
كانت المقاطعة التالية ذاتَ طبيعة مختلفة. حيث رنَّ صوت الجرس الكهربائي من الخارج عبر الغرفة؛ ليستدعيَ في حدةٍ وإصرارٍ مَن يفتح باب الشقة. وخلال لحظةٍ أو اثنتَين ظهر الخادم من الغرفة الداخلية، وعبر الغرفة وعاد بعد قليل، وهو بصحبة زائر.
وقال موضِّحًا: «الكابتن جرانيت يستبدل ملابسه من أجل تناول العشاء في الوقت الحاضر، يا سيدي. تفضَّل بالجلوس، على أي حال، وسيخرج بعد قليل. ما الاسم الذي يجب أن أُبلغه به؟»
«الجرَّاح الميجور طومسون.»
أدار الخادم كرسيًّا مريحًا في اتجاه المدفأة ووضع بجانبه منضدةً صغيرة عليها بعض الأوراق المرسومة. وبعد ذلك، حيَّاه بانحناءةٍ بسيطة، واختفى عبر الباب الداخلي. وضع الميجور طومسون، الذي كان يتصفَّح الرسومات، الأوراق على المنضدة لحظة إغلاق الباب. وانحنى إلى الأمام، ووجهُه متوتر قليلًا. وبدا عليه الإصغاء باهتمام. وبعد غيابٍ قصير عاد الرجل.
وقال: «الكابتن جرانيت سيُقابلك في غضون لحظات قليلة، يا سيدي.»
قال الميجور طومسون راجيًا: «من فضلك أبلِغْه أن لا داعيَ للتعجُّل.»
«بكل تأكيد، يا سيدي.»
انسحب الرجل وظل طومسون والكلبُ بمفردهما مرةً أخرى. وبعد أن تقدم هذا الأخير، ببعض مبادرات الصداقة التي مرَّت دون أن يُلاحظها أحد، استأنف نومه. وجلس الميجور طومسون معتدلًا على كرسيِّه المريح، ممسكًا في يده بورقة مرسومة. بينما طوال الوقت، رغم ذلك، بدا وكأنَّ عينَيه تُفتِّشان في الغرفة. وقد تزايدت حاسة الإصغاء لديه على نحوٍ واضح؛ كما بدا عليه، حتى، علامات التفكير السريع. ومن ثَم مرَّت من خمس إلى عشر دقائق. وبعد ذلك سُمِعت أصواتٌ من الداخل وفُتح الباب فجأةً. وظهر الكابتن جرانيت وعبر الغرفة، وهو يعرج قليلًا باتجاه زائره.
وقال بسرور: «أنا آسف بشدةٍ لتأخري عليك. الحقيقة هي أنني كنت قد دخلتُ حمامي للتو.»
أجاب زائرُه: «أنا مَن يجب أن يعتذر؛ لزيارتك في مثلِ هذا الوقت.»
قال الآخر، وهو يقف أمام الدولاب الذي يحتفظ داخلَه بالسجائر ويُخرج بعضًا منها: «أنا سعيدٌ لمقابلتك، على أي حال. هلا جرَّبت واحدة من هذه؟»
«ليس الآن، شكرًا.»
ومِن ثَم ساد الصمت للحظة. وبدا الميجور طومسون غيرَ متعجلٍ لتوضيح سبب الزيارة.
قال جرانيت، وهو يُشعل سيجارةً لنفسه ببعض الصعوبة: «لقد كانت حفلة غداء مبهجة، أليس كذلك؟ إن هذه الأربطة تجعل المرء يشعر بأنه أحمق.»
أجاب الآخر: «مما يقرؤه المرء عن المعارك حول إيبر، فأنت محظوظٌ لأنك خرَجت منها سالمًا. اسمح لي أن أوضِّح، إذا جاز لي، لماذا جئت لزيارتك دون موعد.»
أومأ الكابتن جرانيت برأسه في ود. وكان قد جلس في ارتياحٍ على كرسيٍّ مريح وهو يلعب مع الكلب، الذي قفز على ركبته.
بدأ الميجور طومسون حديثه قائلًا: «لقد أجريتُ محادثةً يوم الخميس الماضي، مع مدير وحدة الشرطة العسكرية في بولونيا. وكما تعلم، بالطبع، لقد عانينا للغاية، خاصة في إيبر، من النجاح الباهر لإدارة المخابرات الألمانية. وقد أخبرني مديرُ الوحدة، وهو صديق لي، أنَّ هناك تحذيرًا خاصًّا ضد شخص يزعم أنه قسٌّ أمريكي هرَب من بلجيكا. لم يتصادف أنك سمعتَ عنه، حسبما أظن، أليس كذلك؟»
بدا الكابتن جرانيت غير واثق.
وأجاب: «لا أستطيع تذكر ذلك. لقد كانوا أذكياءَ للغاية، هؤلاء الرجال، رغم ذلك. في الليالي القليلة التي سبقَت معركتنا الصغيرة كانوا يعرفون بالضبط متى تأتي مجموعاتُ الإغاثة الخاصة بنا. وقد غيَّرنا الموعد عدةَ مرات. لكن بدون فائدة! لقد كانوا يكتشفون الأمر بالطريقة نفسِها.»
أومأ الميجور طومسون برأسه.
وتابع: «حسنًا، لقد تصادف أنْ لمحت، قبل بضع دقائق فقط، رجلًا يُشبه تمامًا الصورةَ التي عرَضها عليَّ صديقي مديرُ الوحدة، وعلى الرغم من أنني لم أكن متأكدًا من ذلك، فقد تخيلت أنه دخل هذا المبنى. وخطر لي أنه ربما يكون قد زارك.»
كرَّر متسائلًا: «زارني أنا؟»
قال طومسون موضحًا: «إنه رجلٌ مقنع للغاية، وبما أنك قد عُدت للتو من الجبهة، وأحضرتَ رسائل، فمن المحتمل جدًّا أنه يعتبرك ضحية محتملة.»
ضحك جرانيت قائلًا: «أنا لا أستطيع صنع الطوب بدون القش، ولا أعرف عن الحملة أكثرَ مما رأته عيناي. لقد كنت أقول أمسِ فقط إنه ما لم يكن لدى الجنديِّ العادي أمرٌ رسمي من قيادة الأركان، فمن المدهش مدى قلةِ ما يعرفه عن مجريات الأحداث. في واقع الأمر، على الرغم من ذلك»، تابع، وهو يَلْوي أذن كلب الصيد قليلًا: «لم يزرني أحدٌ هنا على الإطلاق باستثنائك، خلال آخر ساعةٍ أو ساعتين. والكثير من أصدقائي لا يعرفون أنني قد عدتُ بعد.»
سأل الميجور طومسون: «هل يعيش العديدُ من الأشخاص الآخرين في هذا المبنى؟»
أجاب الآخَر: «الطابَق الأرضي هنا، يخصُّ صاحب مصنع سجائر ثريًّا، ويعيش هو نفسُه في الطابق الأول. وهذا هو الطابق الثاني وبالأعلى توجد مساكنُ الخدم.» واختتم قوله بعد تفكير: «حسبما أظن لا بد أنك مخطئ بشأن دخول الرجل إلى هنا من الأساس.»
أومأ طومسون برأسه.
وقال: «محتمل جدًّا. لقد كانت مجردَ صدفة، بأي حال من الأحوال.»
استفسر جرانيت بفضول، وهو ينظر إليه بعد أن كان ينظر إلى الكلب: «بالمناسبة، كيف عرَفت أنني أسكن هنا؟»
أجاب الميجور طومسون: «تصادف أَن رأيتُك تدخل المبنى، أو ربما تخرج، قبل أيام — لا أستطيع تذكُّرَ أيِّ يوم بالتحديد.»
رنَّ الهاتف الموضوعُ على المنضدة. فعبَر جرانيت الغرفةَ ووضع السماعة على أذنه.
وقال: «هذا الكابتن جرانيت يتحدث. مَن أنت، من فضلك؟»
بدا أن الرد فاجَأه. فنظر نحو زائره.
وأجاب عبر الهاتف: «يُسعدني ذلك بالطبع. إنه حقًّا لطف منك … نحو الساعة الثامنة والربع؟ … بالتأكيد! ستعذرني لعدم تمكُّني من ارتداء زيٍّ مدني، أليس كذلك؟ … شكرًا جزيلًا … إلى اللقاء!»
وضع السماعة واستدار إلى طومسون.
وقال: «يا لها من مصادفة. يبدو أنني سأراك الليلة على العشاء. كانت هذه هي الآنسة جيرالدين كونيرز التي اتصلَت للتو — وقد سألتني إذا كنت أرغب في مقابلة شقيقها مرةً أخرى قبل أن يُغادر. إنه يقضي وقتَ ما بعد الظهر في مقر البحرية المَلكية، وهي تظن أنني قد أكون مهتمًّا.»
كان وجه الميجور طومسون خاليًا من التعبيرات، وغمغم بكلمةٍ غير مفهومة. اقترب جرانيت من خِزانة جانبية من خشب الماهوجني القاتم وتحسَّس بعض الزجاجات بأصابعه.
وقال: «اسمح لي أن أخلط لك كوكتيلًا. أُقسم لك إن ذلك الرجل كونيرز سيُصبح هدفًا لذلك القس الأمريكي الذي تسعى وراءه. إذا كان يقضي وقتَ ما بعد الظهر في مقر البحرية الملكية، فسيحصل على أحدث المعلومات حول خُطتهم في التعامل مع الغواصات. وقد سمعت أن هناك ما لا يقلُّ عن ثلاثة أو أربعة اختراعات جديدة يحتفظون بها سرًّا. أنت تحبُّ مشروبك بلا إضافات، على ما أظن؟»
نهض طومسون على قدمَيْه، ومال إلى الأمام قليلًا نحو المرآة لحظةً لتعديل ربطة عنقه. وعندما استدار، نظر إلى مجموعة الزجاجات التي يتعامل جرانيت معها.
وقال: «أنا حقًّا آسفٌ جدًّا. لم أقصد أن أُتعبك. أنا لا أشرب الكوكتيل أبدًا.»
توقَّف جرانيت عن هز الوعاء الفضي، ووضعه على الطاولة.
«هل تتناول ويسكي مع الصودا بدلًا من ذلك؟»
هز طومسون رأسه.
وقال: «إذا سمحتَ لي، فسأشرب نخبك في وقت العشاء. ليس لديَّ شك في أن الكوكتيلات الخاصة بك ممتازة، ولكن يبدو أنني لم أكتسب عادة تناول الكوكتيل أبدًا. ماذا تضع فيه؟»
قال جرانيت بلا مبالاة: «أوه! مجرد نوعين من المشروبات، وقليل من شيءٍ ما؛ لإضفاء النكهة عليه.»
لمس طومسون زجاجة سوداء صغيرة، ثم شمها ووضعها جانبًا.
وسأل: «ما هذا؟»
أجاب جرانيت: «مزيجٌ من عُشب أبسينث وبعض أعشاب بيترز من جُزر الهند الغربية. أحضرها لي رجلٌ يُسافر كثيرًا إلى الولايات المتحدة. إنه يُعطي الكوكتيل نكهة اليانكي النيويوركية الحقيقية، حسبما يقول الرجل.»
أومأ طومسون برأسه ببطء.
وقال: «إن رائحته غريبة نوعًا ما. سوف نلتقي مرةً أخرى، إذن، يا كابتن جرانيت.»
سارا نحو الباب. وفتحه جرانيت، بينما يتَّكئ على عصاه.
وقال بأدب: «مرات عديدة، بكل تأكيد.»
ومن ثَم ساد الصمت ثانيةً. كانت يده اليمنى شِبه ممدودةٍ لكن بدا أن ضيفه الذي يوشك على المغادرة لم يَلْحظ ذلك. إذ أومأ برأسه ولبس قبعته.
وقال: «إنه عالمٌ صغير، خصوصًا في الأماكن الكبيرة، على الرغم من أن هذا يبدو متناقضًا.»
ومن ثَم غادر المكان. واستمع جرانيت إلى صوتِ خُطواته المبتعدة مع عُبوسٍ على جبينه. ثم عاد ووقف لحظةً على البساط أمام المدفأة، وهو يُفكر بعمق. وراح كلب الصيد يلعب حول قدميه دون أن يُلاحظه. إذ بدا وجهه فجأةً كأنه أصبح أكبرَ سنًّا وأكثرَ تأملًا. ونظر إلى البطاقة التي تركها طومسون على الخزانة الجانبية.
وكرَّر لنفسه بهدوء: «الجرَّاح الميجور طومسون. عجبًا!»
سار طومسون ببطء حتى نهاية شارع ساكفيل، وعبَر الطريق واتجه نحو فندق ريتز. وقدَّم نفسه إلى كبير موظفي مكتب الاستقبال.
قائلًا: «أنا الجراح الميجور طومسون.»
وتابع: «لقد كنت أتناول الغداء هنا اليوم، وعالجتُ أحدَ النُّدُل الذي أُصيب بإغماء بعد ذلك. سأُصبح ممتنًّا إذا كان بإمكاني رؤيته لبضع لحظات.»
انحنى الرجل بأدب لتحيته.
وقال: «أنا أتذكرك جيدًا يا سيدي. كان نادلًا بلجيكيًّا، أليس كذلك؟ لقد أخذَته إحدى السيدات بعد ظهر اليوم.»
رد طومسون في حيرة: «ماذا؟»
قال الرجل موضحًا: «إن السيدة التي أقامت مأدبة الغداء — الليدي أنسيلمان — جاءت وقابلَت المدير منذ نحو ساعة، إنها تهتمُّ كثيرًا بمسألة اللاجئين البلجيكيين وهي تستضيف الكثيرَ منهم في منزلها بالقرب من شاطئ البحر. والرجل غير لائقٍ حقًّا للعمل؛ لذلك كنا سعداءَ حقًّا لتسليمه إليها.»
استفسر طومسون: «لقد استعاد وعيه قبل نقله، أليس كذلك؟»
«أظن ذلك، يا سيدي. ومع ذلك، بدا ضعيفًا وواهنًا للغاية. في الواقع كان لا بد من حمله إلى السيارة.»
«هل أوضح أي سببٍ لنوبته المفاجئة؟»
«ليس حسبما أعرف، يا سيدي.»
وقف طومسون لحظة يُفكر بعمق، ثم ابتعد عن المكتب.
وقال للموظف: «شكرًا جزيلًا لك. إن حالة الرجل كانت تُثير اهتمامي نوعًا ما. أعتقد أنني سأطلب من الليدي أنسيلمان السماحَ لي بزيارته. قلتَ أين يقعُ المنزل؟»
أجاب الرجل: «لم تذكر سيادتها المكانَ بالتحديد. ومع ذلك، أظن، أنه يقع بالقرب من جزيرة وايت.»
غمغم الميجور طومسون، وهو يغادر الفندق: «حيٌّ مناسب للغاية.»