الفصل الثامن
بطريقةٍ ما، كانت مقابلتهما في صباح اليوم التالي مصادَفةً، ومع ذلك كانت لها أيضًا أهميتها لكِليهما. كانت التحية التي ألقَتْها جيرالدين تحيةً رسمية متحفظة تقريبًا.
فسألها الكابتن جرانيت، وهو ينظر إليها مع رفع الحاجبَين بطريقةٍ مرحة: «أنت لن توبخيني بسبب ذاكرتي، أليس كذلك؟ يجب أن أُمارس الرياضة، كما تعلمين.»
ردَّت جيرالدين: «أنا حتى لا أتذكر إخبارك بأني آتي إلى الحديقة كلَّ صباح.»
قال: «أنت لم تفعلي — وهذا يعني أنكِ لم تذكري الحديقة على وجه التحديد. لقد أخبرتِني أنكِ دائمًا ما تأخذين هذه الكلاب الخمسة في نزهةٍ بعد الإفطار مباشرة، وبالنسبة للباقي فقد استخدمتُ ذكائي.»
قالت: «ربما كنتُ أذهب إلى ريجنت بارك أو سانت جيمس بارك.»
قال: «في تلك الحالة، كنت سأسير ذَهابًا وإيابًا حتى أكتفي، ثم أغادر في حالةٍ مزاجيةٍ سيئة.»
ضحكت قائلة: «لا تكن أحمقَ. أرفض تمامًا تصديق أنك جئت إلى هنا من أجلي. هل تُمانع إذا قلتُ إنني أُفضل عدم تصديق ذلك؟»
فتقبل التأنيب بروحٍ طيبة.
وقال: «حسنًا، بما أننا قد التقينا بالفعل، هل يمكنني أن أتنزَّه معكِ قليلًا؟» وتابع قائلًا: «كما ترين، إنه أمر مملٌّ أن يتجولَ المرء هنا بمفرده.»
وافقَت، وهي تنظر بتعاطف إلى عصاه وتقول: «بالطبع يمكنك، إذا أردت. كيف حال ساقك الآن؟»
«إنها أفضل — تتعافى بشكل جيد. بالنسبة إلى ساقي، أعتقد أنني سأصبح لائقًا للعودة إلى عملي مرةً أخرى في غضون عَشَرة أيام. إنها ذراعي التي أنا منزعج بشأنها قليلًا. قال الطبيب: إن أحد الأعصاب قد تلف. أستطيع رفعها بصعوبة.» وتابع: «ليس لديكِ أي فكرة، كيف تتعارض ساقٌ مجبورة وذراع معلَّقة مع الاحتياجات البسيطة في الحياة اليومية للفرد. لا أستطيع ركوب الخيل، ولا أستطيع لعب الجولف أو البلياردو»، وختم كلامه بتنهيدةٍ قائلًا: «وبالنسبة إلى شخصٍ غير ذكيٍّ مثلي لا توجد طرقٌ أخرى كثيرة لتمضية الوقت.»
احتجَّت قائلة: «لماذا تقول إنك غير ذكي؟ لم يكن من الممكن أن تنجح في العسكرية لو أنك كذلك.»
فقال: «أوه! أنا أعرف كل الأمور العسكرية، بمعنًى آخر، أعرف وظيفتي جيدًا، وبالطبع أنا جيدٌ إلى حدٍّ ما في اللغات، لكن هذه هي كل مهاراتي. ليس لدي أيُّ ذكاء مثل صديقك طومسون، على سبيل المثال.»
قالت ببرود قليلًا: «الميجور طومسون ذكي للغاية، على ما أعتقد.»
أضاف جرانيت مع تجهُّم طفيف: «وميال لفرض رقابته قليلًا، مع الأسف. أفترض أنه يظنُّني شخصًا ثرثارًا، لكنني لا أستطيع أن أفهم حقًّا سبب انتقاده لأخيكِ في الليلة الماضية لمجرد أنه كان يُرضي فضولًا معقولًا للغاية من جانبي. ليس الأمر كما لو أنني لستُ ضابطًا. فالجيش والبحرية هما الشيء نفسُه، بأي حال من الأحوال، ويسعدنا دائمًا أن نُعطي أحدَ أفراد البحرية معلومة حول كيفية تقدمنا.»
وافقت على ذلك قائلة: «لم أستطع حقًّا فَهْم الميجور طومسون أنا نفسي.»
فقال: «هل لي أن أسأل — إن كنتِ لا تُمانعين؟ هل أنت مخطوبة له منذ مدة طويلة؟»
نظرَت بعيدًا للحظة. وأبْدَت نبرتُها، عندما أجابت، بعضَ الانزعاج الطفيف من السؤال.
«نحو ثلاثة أشهر.»
ركل الكابتن جرانيت حَصاةً بعيدًا عن المسار أمامه بقدمه السليمة.
وقال بنبرةٍ محسوبة: «لا بد أنه جرَّاحٌ بارعٌ حسبما أظن. ويبدو أيضًا أن أعصابه فولاذية، ويتميَّز بمهارات الجراحين. لأقول لكِ الحقيقة، رغم ذلك، إنه يُخيفني نوعًا ما. لا أعتقد أن لديه الكثير من التعاطف مع شخصٍ من نوعي.»
أصبحت أكثر تساهلًا وابتسمَت ابتسامة طفيفة وهي تنظر إليه.
وسألت بتأمل: «أتساءل ما هو نوعك؟»
قال معترفًا، مع تنهيدة: «واضحٌ للغاية، مع الأسف. فأنا أحب وظيفتي العسكرية في الجيش، بالطبع، وأخجل من التفكير في مدى حرصي السابق على اللعب، وكنت سأظل كذلك إذا سنحَت لي الفرصة. بخلاف ذلك، أنا لا أقرأ كثيرًا، ولا أهوى الموسيقى، ولا أشغل نفسي بما سيحدث في المستقبل. وهناك الآلافُ مثلي». وتابع بتفكيرٍ عميق: «نحن لا نُلحق أي ضرر بالعالم، ولكني لا أفترض أننا نفعل الكثير من الأشياء الجيدة.»
احتجَّت قائلة: «لا تكن سخيفًا. لسبب واحد، إنه لأمرٌ رائع أنك جندي متميز. أنت بالضبط ما يحتاج إليه البلد اليوم. لكن بصرف النظر عن ذلك أنا متأكدة تمامًا من أنك شخص ذكي.»
غمغم قائلًا: «حقًّا؟ ربما كان ما أفتقده هو الحافز.»
ظلا صامتَين لبضع لحظات. ثم شرعا في التحدث بخفَّةٍ أكثر. حيث تحدثا عن الكلاب والخيول، وعن أصدقائهما المشتركين، وارتباطاتهما في الأيام القليلة المقبلة. ولم يذكرا طومسون ولو مرةً واحدة. ثم توقفت جيرالدين للتحدث إلى بعض الأصدقاء. ومال جرانيت على عصاه في الخلفية وهو يراقبها. كانت ترتدي تاييرًا مفصَّلًا حسب الطلب، وقبعة صغيرة، تهدَّلَت من تحتها خصلات صغيرة من الشعر الذهبي وانفصلَت بطريقةٍ غير مرتبة لكنها جذابة. وكسا خدَّيها لونٌ وردي رقيق، وكانت حركات وخطوط جسدها كلها حرة ورشيقةً بشكل رائع. وبينما كانت تتحدث إلى أصدقائها، بدَت عيناها وكأنهما قد فقدتا جديتهما. كان شبابها قد أعاد تأكيدَ نفسه — شبابها وصحتها البدنية الرائعة. أخذ يُراقبها بحماس، وبدا بعضُ الظل وكأنه يمرُّ من فوق وجهه — ظِلُّ معاناته أو ألمه. بدا هو، أيضًا، كما لو أنه أصبح أصغرَ سنًّا. أبسط وأروع فرحة في الحياة كانت تُثير إعجابه. وأخيرًا ودعت صديقاتها وأتت تبتسم له.
وصاحت: «أنا آسفة للغاية لأنني استبقيتُك كلَّ هذا الوقت! لقد أخبرتني الليدي آن بالوقت للتو ففوجئت. فقد قصدت السَّير هنا لمدة ساعةٍ ونحن هنا منذ ساعتَيْن. أَوْقِف هذه السيارة الأجرة من أجلي، إذا سمحت. ليس لديَّ وقتٌ حتى للسير عائدة إلى المنزل.»
أركَبَها السيارة الأجرة ثم أطلق صفيرًا للكلاب، التي سارعت جميعًا وراءها.
قال بسرور، وهما يتصافحان: «شكرًا جزيلًا لرعاية شخصٍ عاجز يعرج. يجب ألَّا تتذمري من الوقت. فأنت تقومين بواجبكِ تجاه البلد، كما تعلمين.»
وقد تجنَّب بلباقةٍ أي ذكر لمقابلة تجمعهما مستقبلًا، وكافَأتْه هي بتحيةٍ صغيرة من يدها عبر نافذة السيارة. ثم غادر هو نفسُه الحديقةَ في الوقت ذاتِه، وتمشَّى عبر بيكاديللي حتى شارع ساكفيل وصعد إلى شقته. فتقدَّم خادمُه من الغرفة الداخلية لمقابلته، وأخذ قبعته وعصاه.
«هل من رسائل هاتفية، يا جارفيس؟»
«لا شيء يا سيدي.»
تحرك جرانيت نحو الكرسي المريح. لكنه توقَّف قبل أن يصل إليه. إذ كان باب إحدى الخزائن في الدولاب الجانبيِّ نصفَ مفتوح. فقطب جبينه.
وسأل باقتضابٍ قليلًا: «ألم أخبرك، يا جارفيس، أنني أريد أن تظل تلك الخزائنُ مغلقة؟»
حدق الرجل في الدولاب باندهاش.
وقال: «أنا آسفٌ جدًّا يا سيدي. أعتقد بالتأكيد أنني قد أغلقته الليلة الماضية.»
وفتحها جرانيت على مِصراعَيها ونظر إلى الداخل. كانت نظرته الأولى غير مبالية بما فيه الكفاية، ثم تغير تعبيره. إذ حدق وهو غير مصدقٍ في مجموعةٍ صغيرةٍ من الزجاجات واستدار بسرعة.
«هل نقلت أيَّ شيءٍ من هنا؟»
جاءه الرد السريع: «كلا بالتأكيد، يا سيدي.»
أغلق جرانيت الخِزانة ببطء. ثم سار إلى النافذة للحظة، ويداه خلف ظهره.
وسأل: «هل جاء أي شخص إلى هنا هذا الصباح، يا جارفيس؟»
«رجلٌ من أجل الغسيل، يا سيدي، وشخص ليختبر المصابيح الكهربائية.»
«هل تركتَ أيًّا منهما وحده في الغرفة على الإطلاق؟»
«لقد ظل رجل المصابيح هنا لبضع دقائق، يا سيدي.»
تبادل السيد والخادم نظراتٍ سريعة. وبدا الأخير شاحبًا ومتوترًا.
وسأل: «هل هناك شيءٌ مفقود يا سيدي؟»
رد جرانيت: «أجل! هل لاحظتَ السيد الذي زارنا مساء أمس … الجراح الميجور طومسون؟»
«أجل، يا سيدي!»
«ألم ترَه منذ ذلك الحين؟ ألم يأتِ إلى هنا؟»
«بلى، يا سيدي!»
وقف جرانيت، للحظة، وهو يُفكر. بينما ظل الخادم بلا حَراك. كان الصمت في الغرفة يُنذِر بالسوء؛ وكذلك، أيضًا، كانت نظرة القلق الغريبة في وجهَي الرجلين.
وفي النهاية قال سيده: «يا جارفيس، تذكر هذا. أنا لا أتصيد الأخطاء. وأنا أعلم أنك حريصٌ بشكل دائم. ولكن بدءًا من هذه الليلة كن يقظًا أكثر من أيِّ وقت مضى. هناك لاعب جديد في اللعبة. ربما هو لم يشكَّ فينا بعدُ لكنه سيفعل. هل تفهم، يا جارفيس؟»
«بكل وضوح، يا سيدي.»
انسحب الرجل بهدوء. وسار جرانيت مرةً أخرى إلى النافذة. ونظر نحو المارة بالأسفل بضع دقائق لكنه لم يرَ شيئًا. وراحت أفكارٌ تُنذر بالخطر تتجمَّع في ذهنه. كان يسير على طول طريق الرعب، وفي نهايته وقف رجل ينتظر. لقد رأى نفسه يقترب أكثر فأكثرَ من المقابلة ويكاد اسمه ينطلق عبر شفتيه، اسم الرجل الذي يكرهه.