خلع ملوك الطوائف
روى ابن خلكان بعد ذكر موقعة الزلاقة أن ابن تاشفين عاد في العام الثاني إلى الأندلس وخرج إليه المعتمد وحاصر بعض حصون الفرنج فلم يقدر عليه فرحل عنه، وعبر على غرناطة فخرج إليه صاحبها عبد الله بن بلكين فغدر به يوسف ودخل البلد ودخل قصر عبد الله فوجد فيه من الأموال والذخائر ما لا يُحصى ولا يُعدُّ، وأنه عاد إلى مراكش وفي نيته أن يستولى على الأندلس، وأنه جهز الجيوش وسار إلى سبتة فأرسل قائده سير بن أبي بكر ففعل ما فعل بملوك الطوائف.
وليست الروايات واضحة في عَود يوسف إلى الأندلس، ولا يتفق الذين رووا أنه عاد إليها على سنة هذه العودة، وليس هذا الخلاف ذا خطر فيما نحن بصدده من سيرة المعتمد بن عباد.
وفي نفح الطيب أن سير بن أبي بكر قائد المرابطين في الأندلس أرسل إلى السلطان يوسف يخبره بإيثار ملوك الطوائف الدعة واللهو واحتمال المرابطين العناء في جهاد العدو، وسأله رأيه في هؤلاء الملوك، فكتب إليه أن يأمرهم بالنقلة والرحيل إلى أرض العُدوة، فمن فعل فذاك، ومن أبى فحاصِره وقاتِله ولا تنفس عليه، ومما قاله: «ولتبدأ بمن والى الثغور ولا تتعرض للمعتمد بن عباد إلا بعد استيلائك على البلاد، وكل بلد أخذته فولِّ فيه أميرًا من عساكرك.»
شرع قائد المرابطين ينزل الملوك من معاقلهم ويخرجهم من ديارهم طوعًا أو كرهًا حتى أدال منهم جميعًا، فكتب إلى ابن تاشفين يسأله أمره في ابن عباد فأمره أن يعرض عليه النقلة إلى بر العدوة في أهله وعشيرته، فإن أبى فليقاتله ويأخذه قسرًا كما فعل بنظرائه.
فأول ما ابتدأ به من ملوك الأندلس بنو هود، وكانوا بروطة — وهي قلعة منيعة من عاصمات الذُّرى، وماؤها ينبع من أعلاها، وفيها من الأقوات والذخائر المختلفات ما لا تفنيه الأزمان — فحاصرهم فلم يقدر عليها، ورحل عنها، وجنَّد أجنادًا على هيئة الفرنج وزيِّهم، وأمرهم أن يقصدوها ويغيروا عليها، وكمن هو وأصحابه بقرب منها.
ثم نازل بني طاهر بشرق الأندلس، فأسلموا له البلاد ولحقوا ببر العُدوة، ثم نازل بني صُمادح بالمرية، ولها قلعة حصينة فحاصرهم وضيق بهم، ولما علم ابن صمادح الغلب أَسِفَ ومات غمًّّا، فأخذ القلعة واستولى على المرية وجميع أعمالها.
ثم قصد بَطَلْيوس، وكان بها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس — المتقدم ذكره — فحاصره وأخذه واستولى على جميع أعماله وماله.
ولم يَبْقَ له إلا المعتمد بن عباد فكتب للسلطان يوسف يعرفه بما فعل ويسأله مرسومه في ابن عباد، فكتب إليه يأمره أن يعرض عليه النقلة لبر العدوة بجميع الأهل والعشيرة، فإن رضي وإلا فحَاصِرْه وخُذْه وأرسِلْ به كسائر أصحابه.
فواجهه وعرفه بما رسم به السلطان يوسف، وسأله الجواب، فلم يجب بنفي ولا إثبات.
ثم إنه نازل إشبيلية وحاصره بها وألح عليه، فأقام الحصار شهرًا ودخل البلد قهرًا.
ويقول المراكشي في المعجب: إن الفتنة بدأت في شوال سنة ٤٨٣ﻫ، حين أخذ المرابطون جزيرة طريف دون مقدمة ظاهرة، ثم زحفوا إلى قرطبة فدافع عنها المأمون بن المعتمد إلى أن قُتل في صفر سنة ٤٨٤ﻫ.
وسيأتي أن أخذ إشبيلية كان في رجب سنة ٤٨٤ﻫ، ويأتي كذلك في أخبار الراضي بن المعتمد أن جيشًا توجه إليه وهو في رُندة فهزمه وقتله، وكان هذا بعد الاستيلاء على إشبيلية.
لم أجد فيما اطلعت فيه من كتب، تفصيل ما كان بين ابن عباد وابن تاشفين من مراسلة، ثم قطيعة، وعداوة، وحرب.
فأزلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته وظاهرته فساطيطه ومظلاته، بعد ما نثرت حصونه وقلاعه … وهو ساهٍ بروض ونسيم، لاهٍ براح ومحيا وسيم، زاهٍ بفتاة تنادمه، ناهٍ عن هدم أنس هو هادمه.
لا نصدق أن المعتمد أحدق به الخطر وهو في لعبه ولهوه، فإن عاقلًا لا يفعل هذا، فضلًا عن المعتمد الهمام الحازم الشجاع بطل موقعة الزلاقة الذي أحس خطر الفرنج فألَّب عليهم ملوك الأندلس واستنجد المرابطين من المغرب.
لا نصدق أن المعتمد بن عباد أحيط به وهو بين الخمر والنساء، ولا ريب أن الرجل دافع عن ملكه وُسْع شجاعته وقدرته، حتى ألجئ إلى مدينته ثم إلى قصره، وقد خانه رجاله فسُقط في يده، وحسب أنه يستعصم في قصره إلى أن يحتال لأمره فلحقته الخيانة فيه، فخرج مُعْجلًا عن درعه يلقى العدو في غلالة.
لم يكن المعتمد كما صورته أسجاع الفتح بن خاقان، بل كان كما قال فيه ابن حمديس:
وهذا يذكِّر بقول أبي الطيب في سيف الدولة وملوك مصر والعراق في عصره:
وقوله:
وكذلك يقول ابن حمديس في المعتمد:
والمعتمد يقول في أبيات أرسلها إلى ابن حمديس حين زاره في أغمات:
فما أحسب المعتمد كان من اللهو والترف بحيث يصفه الفتح بن خاقان.
وروى صاحب نفح الطيب أنه ما جهر بشرب الخمر منذ ولي الملك.
إن طائفة من أصحاب المعتمد خامرت عليه، فأُعلم باعتقادها، وكُشِفَ له عن مرادها، وحُضَّ على هتك حُرَمِها، وأغرِي بسفك دمها، فأبى ذلك مجده الأثيل، ومذهبه الجميل، وما خصه الله — تعالى — به من حسن اليقين، وصحة الدين إلى أن أمكنتهم الغرة فانتصروا ببغاث مستنسر وقاموا بجمع غير مستبصر، فبرز من قصره متلافيًا لأمره، عليه غلالة ترفُّ على جسده، وسيفه يتلظى في يده …
يوافق ابن اللبانة غيره على أن جماعة من أصحاب المعتمد خانته وأنه فوجئ في قصره فخرج في غير عُدَّة، ولعل المعتمد لم يعرض لهذه الجماعة بشر حين نمى أمرها إليه؛ خيفة اختلاف الكلمة وافتراق الجماعة في وقت الشدة.
ولا نجد في كلام ابن اللبانة ذِكر لهو المعتمد وغفلته والنذر تحيط به، وهو قول باطل سجع به الفتح كسجع الكهان.
ويوافق الفتح ابن اللبانة على غدر جماعة من أصحاب المعتمد وعلى أن أعداءه فجئوه داخلين من أحد أبواب القصر، فخرج إليهم على غير عدة فهزمهم وأغلق الباب واعتصم بالقصر، ويسمِّي الباب بابَ الفرج ويقول: إن الداخلين كانوا من المرابطين.
وحين اشتد حصاره، وعجز عن المدافعة أنصاره، ودلَّس عليه وُلاته، وكثرت أدواؤه وعلاته، فُتح باب الفرج، وقد لفَح شُواظ الهرج، فدخلت عليه من المرابطين زمرة، واشتعلت من التغلب جمرة، تأجج اضطرامها، وسهل بها إيقاد الفتنة وإضرامها، وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسرًا من مفاضته، جامحًا كالمهر قبل رياضته، فلحق أوائلهم عند الباب المذكور، وقد انتشروا في جنباته، وظهروا على البلد من أكثر جهاته، وسيفه في يده يتلمظ للطُّلَى والهام، ويعد بانفراج ذلك الاستبهام، فرماه أحد الداخلين برمح تخطاه وجاوز مَطاه، فبادره بضربة أذهبت نفسه وأغربت شمسه، ولقي ثانيًا فضربه وقصمه وخاض حشا ذلك الداء وحسمه، فأجلوا عنه وولوا فرارًا منه، فأمر بالباب فَسُدَّ وبُنى منه ما هُدَّ.
ثم انصرف وقد أراح نفسه وشفاها وأبعد الله عنه الملامة ونفاها، وفي ذلك يقول عندما خُلع، وأودع من المكروه ما أودع:
ثم انصرف وقد أيقن بانتهاء حاله، وذهاب ملكه وارتحاله. وعاد إلى القصر واستمسك فيه يومه وليلته مانعًا لحوزته، دافعًا للذل عن عزته، وقد عزم على أفظع أمر، قائلًا: بيدي لا بيد عمرو. ثم صرفه تُقاه عما نواه (يعني أنه همَّ بالانتحار) فنزل من القصر بالقسر إلى قبضة الأسر، فقيد للحين، وحان له يومُ شرٍّ ما ظن أنه يحين …
ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعد ما ضاق منهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حُشروا بضفتي الوادي، وبكوا بدموع كالغوادي، فساروا والنَّوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم.
ويقول المراكشي: إن دخول جماعة من الباب ودفع المعتمد إياهم كان الثلاثاء منتصف رجب. ويقول: إن الجيوش دهمت المدينة عصر ذلك اليوم من البر ومن الوادي، ودام القتال أيامًا إلى أن جاء قائد المرابطين سير بن أبي بكر بن تاشفين، بعساكر متظاهرة، وحشود من الرعية متوافرة، والناس في خلال هذه الأيام قد خامرهم الجزع، وخالط قلوبهم الهلع، يقطعون السُّبُل سباحة، ويعبرون النهر سياحة، ويتولَّجون مجاري الأقذار، ويترامون من شرفات الأسوار؛ حرصًا على الحياة، والموفون بالعهد المقيمون على صريح الود ثابتون إلى أن كان يوم الأحد لإحدى وعشرين ليلة خلت من رجب من السنة المذكورة، وهذا يوم الكائنة العظمى والطامة الكبرى، فيه حُمَّ الأمر الواقع، واتسع الخرق على الراقع.
ويستمر المراكشي بعد وصفه ناقلًا كلام الفتح الذي تقدم.
وأجبر على مخاطبة ابنه المعتد بالله والراضي بالله، وكانا بمعقلين من معاقل الأندلس المشهورة لو شاءا أن يمتنعا بها لم يصل أحد إليهما، أحد الحصنين يسمى رُندة والآخر مارتلة، فكتب رحمه الله وكتبت السيدة الكبرى أمهما مستعطفَين مسترحمَين معلمين أن دم الكل منهم مسترهن بثبوتهما، فأنفا من الذل، وأبيا وضع يديهما في يد أحد من الناس بعد أبيهما، ثم عطفتهما عواطف الرحمة، ونظرا في حقوق أبويهما المقترنة بحق الله — عز وجل — فتمسك كل منهما بدينه ونبذ دنياه، ونزلا من الحصنين بعد عهود مبرمة ومواثيق محكمة، فأما المعتد بالله فإن القائد الواصل إليه قبض عند نزوله على كل ما كان يملكه، وأما الراضي بالله فعند خروجه من قصره قُتل غيلة وأخفي جسده.
والأبيات التي رواها الفتح فيما تقدم يزيد عليها المراكشي في روايته ثلاثة أبيات قبلها:
ووقف الشاعر الوفي أبو بكر بن اللبانة الذي أخلص لصاحبه في محنته، كما نعم بعطاياه في دولته، وقف الشاعر الوفي يرى القيامة ويشهد الحشر فقال:
إلى أن يقول:
سارت السفن بالمعتمد وآله وأتباعه في نهر الوادي الكبير، ثم في بحر الظلمات؛ حتى أرست على ساحل المغرب.
ولم يكن عند المعتمد في ذلك اليوم ما زُوّد به فيما بلغني أكثر من ستة وثلاثين مثقالًا، فطبع عليها، وكتب معها بقطعة شعر يعتذر من قلتها سقطت من حفظي، ووجه بها إليه، فلم يجاوبه على القطعة على سهولة الشعر على خاطره، وخفته عليه — كان هذا الرجل، أعني الحصري الأعمى، أسرع الناس في الشعر خاطرًا إلا أنه كان قليل الجيد منه — فحرَّكه المعتمد على الله على الجواب بقطعة أولها:
ولما اتصل بزعانف الشعراء ومُلحفي أهل الكُدية ما صنع المعتمد رحمه الله مع الحصري تعرضوا له بكل طريق، وقصدوه من كل فج عميق، فقال في ذلك رحمه الله:
وأقام المعتمد بطنجة أيامًا على الحال التي تقدم ذكرها ثم انتقل إلى مدينة مكناسة فأقام بها أشهرًا إلى أن نفذ الأمر بتسييرهم إلى مدينة أغمات.
وفي ديوان المعتمد أنه عتب على ابنه الرشيد عتبًا شديدًا وهما في الطريق من مكناسة إلى أغمات فكتب الرشيد إليه:
فأجاب المعتمد: