المعتمد في أغمات
وبين مدينة أغمات ومراكش ثلاثة فراسخ وهي في سفح جبل هناك، كانت أغمات كبرى مدن الإقليم قبل إنشاء مدينة مراكش، وفقدت مكانتها وقَل عمرانها حينما أنشئت مراكش سنة ٤٥٤ﻫ.
وقد استولى عليها المرابطون سنة ٤٤٩ﻫ، ونفوا إليها المعتمد سنة ٤٨٤ﻫ، وبها أطلال مدرسة قديمة ومقابر كثيرة، وقبر المعتمد هناك.
وهي اليوم مزارع وبساتين واسعة كثيرة الثمار، عذبة المياه وارفة الظلال.
بقي البطل ابن عباد في أغمات أربع سنوات حتى أنقذته المنية من هذه البلية، وقد ضيق عليه وأثقلت القيود على رجليه حين ثار ابنه عبد الجبار في الأندلس، وقد جزع المعتمد لهذا وتوقع أن يؤخذ بجريرة ابنه أو يخشى فراره من معتقله.
وأقام بالعدوة برهة لا يُروَّع له سرب وإن لم يكن آمنًا، ولا يثور له كرب وإن كان في ضلوعه كامنًا، إلى أن ثار أحد بنيه بأركش.
وله في أسره وبؤسه وعض الأداهم في رجليه ومنظر بناته في الأطمار عليهن الذلة بعد العزة وهن يغزلن ليحصلن القوت. له في هذه المرائي الأليمة والأحوال الحزينة، أشعار ترقق القلوب القاسية، وتسيل العيون الجامدة، وإليك طرفًا منها:
قال يذكر قصوره التي أشاد بناءها وافتن في تزيينها، وعمَر بالسرور أرجاءها، وحمد في ظل النعيم صباحها ومساءها:
وقال:
ودخل عليه بناته يوم عيد وقد حالت حالهن وذوت نضرتهن — وكن قد اضطررن إلى الغزل لتحصيل قوتهن، وقيل: غزلن لصاحب شرطة كان في خدمة أبيهن — عيد بأية حال عدت يا عيد. فقال المعتمد:
ودخل عليه ابنه أبو هاشم، هذا الصبي الذي ذكره حين احتدام القتال في موقعة الزلاقة، فقال كما تقدم:
دخل أبو هاشم على أبيه أسيرًا سجينًا «والقيود قد عضت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود» فقال:
ومما قاله في التوجع من أسره وقيده:
وقال:
ومر عليه في موضع اعتقاله سرب قطا لم يقلق لها جَناح ولا تعلق بها من الأيام جُناح، ولا عاقها عن أفراخها الأشراك، ولا أعوزها البَشام ولا الأراك، وهي تمرح في الجو وتسرح في مواقع النوِّ، فتنكَّد بما هو فيه من الوثاق وما دون أحبته من الرقباء والأغلاق، وما يقاسيه من كَبله، ويعانيه من وجده وخبله، وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيم عهدنه، وحبور حضرنه وشهدنه، فقال:
وسُجن جماعة من أهل فاس في أغمات فرغبوا إلى السجان أن ييسر لهم لقاء المعتمد وكان يتسلى بمجالستهم ويستريح إلى محادثتهم إلى أن أُطلقوا من سجنهم فدخلوا عليه يودعونه، فقال:
انظر كيف رقت نفسه، وتمنى لكل خلق أن يعيش حرًّا سعيدًا، فهو يغبط القطا على حريتها ويدعو لها أن يعصمها الله في فراخها، وهو يغبط من خُلي سبيلهم، ويدعو لهم أن تدوم لهم السعادة التي حُرمها، ويسألهم الدعاء للخلاص من هذا البلاء.
وتأمل في هذه الأبيات التي أنشأها حين طلب إليه رجل أن يزوده بشيء من شعره:
ويروي الفتح بن خاقان أن المعتمد لما بلغته ثورة ابنه عبد الجبار جزع وأشفق أن يؤخذ بجريرة ولده، ولكن أخبار هذه الثورة فيما يبدو أعادت إلى نفسه ذكرى القوة والسلطان، وأثارت فيه كوامن العزة والإقدام، ولوَّحت له بأمل ضئيل من خلاصه ورجوع ملكه إليه.
ثم أطرق ورفع رأسه وقد تهللت أَسِرَّته، وظللته مسرته، ورأيته قد استجمع، وتشوف إلى السماء وتطلع، فعلمت أنه رجا عودة إلى سلطانه، وأوبة إلى أوطانه، فما كان إلا بمقدار ما تنداح دائرة، أو تلتفت مقلة حائرة حتى قال:
تأمل نفثات البطولة المصفدة، والعزة المقيدة، والهمة الحبيسة، والسيرة الماجدة، يحدها السجن، ويضيق عليها الأسر.
وليس بعيدًا أن يكون الرجل على شدة محنته، وعظم نكبته، قد أسرَّ في نفسه أملًا وأضمر في الحادثات رجاء، كما قال:
وكان شعراؤه يبعثون في نفسه الأمل كما قال ابن اللبانة:
وقال في محبسه:
وقد أجمل وصف الدنيا بعد أن عرف صروفها، وتقلبت على عينيه خطوبها في هذه الأبيات:
على أن المعتمد بن عباد ملك إشبيلية وقرطبة وبطل الزلاقة وأسير أغمات، كان يلجأ في مصيبته إلى الرحمن، ويجد في الإيمان به كل سلوان، ويتعزى ويتصبر، ويعلل النفس بالقضاء والقدر، ويتسلى بصروف الدهر وغِيَرِه، وخطوبه وعِبَرِه … اقرأ قوله:
ويقول:
(١) عيشة المعتمد في أغمات
مر بنا ما مر من أحوال المعتمد في شقائه وبؤسه، وما لقي من غِيَرِ الأيام في نكبته ومحنته، وحسب القارئ ما مر به، ولكن لعل قارئًا يسأل كيف كانت عيشة المعتمد؟ لا ريب أنها كانت عيشة ضنكًا، ولكن ما كان مبلغها من الضيق والحرمان؟
مر بنا أن المعتمد سأل حواء بنت تاشفين خِباء فاعتذرت إليه أن ليس عندها خباء، ومر بنا أن بناته غزلن للقوت، وأن ابنًا له عمل في حانوت صائغ ومرَّ به ابن اللبانة فأنشأ قصيدته الباكية التي أثبتُّ آنفًا.
وفعل أمير المسلمين بهم أفعالًا لم يسلكها أحد ممن كان قبله، ولا يفعلها أحد ممن يأتي بعده؛ إلا من رضي لنفسه بهذه الرذيلة؛ وذلك أنه سجنهم فلم يُجْرِ عليهم ما يقوم بهم، حتى كان بنات المعتمد يغزلن للناس بأجرة ينفقنها على أنفسهن، وذكر ذلك المعتمد في أبيات تَرِدُ عند ذكر وفاته، فأبان أمير المسلمين بهذا الفعل عن صِغر نفس ولؤم قدرة.
كل هذه الأخبار تدل على بؤس المعتمد وضيق عيشته، ولكنا نجد في الأخبار كذلك أنه أعطى الحصري الشاعر حين قصده في طنجة وهو في طريقه إلى المنفى، وأنه أرسل إلى ابن اللبانة حين أزمع السفر من أغمات هدية ذات قيمة فاعتذر ابن اللبانة وردها، ونقرأ كذلك أن ابن حمديس الشاعر زاره فحجبه الخادم وأنشأ المعتمد أبياتًا يعتذر فيها لابن حمديس ويذكر غباوة خدمه وجهلهم بعد أن كان خدمه ما كانوا وهو في ملكه ودولته.
والجمع بين هذه الأخبار المختلفة أن الرجل عاش في شقاء وبؤس وضيق، لا ريب في هذا، ولا يبعد أن بعض أقاربه أو أصهاره أو أنصاره الذين سلموا من النكبة أمدوه بما يقيم أوده، ويحفظ كرامته؛ وقد قصده الشعراء ووفوا له في شدته وكربته فليس بعيدًا أن يكون غيرهم قصده أو أرسل إليه ما يخفف عنه شدة الأسر، وقسوة الفاقة، فصلحت حاله أحيانًا، ولا أقول: إن المعتمد ادخر بعض جواهره ونفائسه فأنفق منها، فلو كان عنده بقية من الأعلاق ما غزلت بناته للناس ولا نفخ ابنه في كير صائغ.
(٢) أخلاق المعتمد
وكان فيه من الفضائل الذاتية ما لا يكاد يحصى؛ كالشجاعة والسخاء والحياء والنزاهة، إلى ما يناسب هذه الأخلاق الشريفة، وفي الجملة فلا أعلم خصلة تُحمد في رجل إلا وقد وهبه الله منها أوفر قسم، وضرب له فيها بأوفى سهم.
وإذا عدت حسنات الأندلس من لدن فتحها إلى هذا الوقت فالمعتمد هذا إحداها؛ بل أكبرها.
وإن يكن في هذا القول غلوٌّ فهو دليل على مكانة المعتمد عند المؤرخين في عصره والعصور التالية، ويتبين من الفصول السابقة كثير من أخلاق المعتمد بن عباد، فالقارئ يرى سيرته في نعيمه وبؤسه، تبين عن أخلاقٍ كريمةٍ وشمائلَ شريفةٍ.
- (١)
لا ريب أن المعتمد كان أميرًا جوادًا يرتاح إلى الجود، ويلذ العطاء، ويتوسل إلى مواساة أصحابه وقصَّاده وسائل شتى، ويفتنَّ في الإحسان إليهم كما يقول أبو الطيب في أبي شجاع فاتك:
لطَّفت رأيك في بري وتكرمتيإن الكريم على العلياء يحتالولهذا قصده الشعراء والكتَّاب من كل صوب.
ولم تفارقه الأريحة للعطاء، والسماح بالمال في أيام بؤسه وفقره، وهو أحوج إلى ما في يده، فقد أعطى الحصري الشاعر حين لقيه في طنجة وهو أسير يسار به إلى معتقله، وأرسل إلى شاعره الوفي أبي بكر الواني هبة حين زاره في أغمات فردها الشاعر.
فقد صدق المعتمد حين قال عن نفسه:
وقد حننت إلى ما اعتدتُ من كرمحنين أرض إلى مستأخِر المطروقد تناهت يدي عن كأسها غضبومجَّت الأذن أيضًا نغمة الوترحتى أملَّك هذي ما تجود بهوأسمع الحمد بالأخرى على الأثرفهاتها خِلَعًا أُرضي السماح بهامحفوفة في أكف الشرب بالبِدَر - (٢)
وكان المعتمد على الله شجاعًا مقدامًا، يخوض المعارك ويقدم على الأهوال، أبيًّا يؤثر الموت على الهوان.
وحسبنا بلاؤه في موقعة الزلاقة، وبسالته في الدفاع عن إشبيلية، وخروجه حاسرًا حين فجأه العدو في بلده، وهي الحال التي وصفها في الأبيات:
إن تستلب مني الدنياملكي وتسلمني الجموعفالقلب بين ضلوعهلم تُسلم القلب الضلوعوقد تقدمت الأبيات.
- (٣)
وكان حسن المعاشرة، لين العريكة، يكرم أصحابه، ويتواضع لهم.
وقد تقدمت سيرته مع أصحابه في مخاطبتهم مخاطبة الأصدقاء لا الرعية، ومداعبتهم، والتلطف معهم.
وحسبنا قصائده في ابن زيدون، وقد أمر المعتضد أن يرفع مجلس المعتمد على مجلس ابن زيدون فكتب المعتمد:
أيها المنحط عني مجلسًاوله في النفس أعلى مجلسبفؤادي لك حب يقتضيأن تُرى تحمل فوق الأرؤسوهكذا تجده فيما كتب لشعرائه وأصدقائه وقُصَّاده.
وسيأتي اعتذاره لابن حمديس حينما زاره في أغمات فقال له الخادم: إن المعتمد ليس في الدار. وما كان بينه وبين ابن اللبانة من شعر هناك، وإن يُقل: هذه حاله في أسره وبؤسه أقل بل هذا كان ديدنه وهو في سلطانه ودولته. فما كذب المعتمد حين قال لابن عمار:
متى تلقني تلقَ الذي قد بلوتهصفوحًا عن الجاني رءوفًا على الصحبسأوليك مني ما عهدت من الرضاوأصفح عما كان، إن كان، من ذنبفما أشعَر الرحمن قلبي قسوةولا صار نسيان الأذمة من شعبيوأما قتله ابن عمار فهو خلاف ما عهد أصحاب المعتمد منه، ورجوه عنده، وله سبب ذكرته فيما تقدم في الكلام عن ابن عمار، ولا يقتل المعتمد صاحبه بعد غلوه في محبته ومودته إلا لأمر أخرج المعتمد عن طبعه، وحمله على قتل صديقه بيده.
- (٤)
وكان وفيًّا لأصحابه، وحسبنا ما قدمنا في حديث ابن زيدون، وقد صدق المعتمد في قوله جوابًا لمن أغروه بالفتك به:
أنَّى رجوتم غدر من جرَّبتمُمنه الوفاء وظلم من لا يظلمأنا ذاكمُ لا البغيُ يُثمر غرسُهعندي ولا مبنى الصنيعة يُثلَم - (٥)
وكان المعتمد صبورًا، نزل به من الكوارث ما تحدث به الناس قرونًا وما زالوا يتحدثون به ويرثون لمن نزلت به هذه المصائب، ونجد المعتمد على ما أصابه وأصاب بنيه وبناته ذا طبع شاعر ينظم الشعر في طريقه إلى المنفى، يذكر شعراء طنجة الذين ألحفوا في سؤاله، ويعاتب الحصري على أنه لم يجب عن شعره، ويجيب ابن حمديس وابن اللبانة عما ينظمان له من أبيات، ويرثي بنيه، ويصف بناته في الأسر والذل، ويذكر عض القيود بساقيه، ويودِّع السجناء من أهل فاس حين أُطلقوا من السجن، وهلم جرًّا.
ولا ينظم الشعر في هذه الأحوال، إلا صابر على بلواه، جَلد فيما دهاه، يقول أبو الطيب:
ولكن حمى الشعر إلا القليلهمٌّ حمى النوم إلا غرارًاويقول المعري:
ولكن القريض له مغانٍوأولاها به الفكر الخليوإن قيل: إن الحزن والجزع أنطقاه بالشعر، فبعض هذا الشعر ينطق به الحزن والجزع ولكن بعضه كمحاورة الشعراء لا يدل على حزن وجزع بل على تعزٍّ وتجلد.
- (٦)
وكان ابن عباد يتعرف أحوال رعيته، ويلاطفهم ويمازحهم.
اقرأ هاتين القصتين كما رواهما نفح الطيب:مر المعتمد يومًا مع وزيره ابن عمار بباب شيخ كبير كثير التندير والفكاهة يمزج ذلك بإغراق يضحك الثكلى، فقال لابن عمار: تعالَ نضرب على هذا الشيخ الساقط بابه حتى نضحك معه. فضربا عليه الباب.
فقال: من هذا؟ فقال ابن عباد: إنسان يرغب أن تُصلح له الفتيلة. فقال: لو ضرب ابن عباد بابي في هذا الوقت ما فتحت له. فقال: فإني ابن عباد. فقال: مصفوع ألف صفعة.
فضحك ابن عباد حتى سقط على الأرض وقال لوزيره: امضِ بنا قبل أن يتعدى الصفع من القول إلى الفعل، فهذا شيخ ركيك.
ولما كان من غد تلك الليلة وجه له ألف درهم، وقال لموصلها: قل له: هذه من الألف صفعة التي كانت البارحة.
والقصة الثانية:كان في زمان المعتمد السارق المشهور بالبازي الأشهب، وكان له في السرقة كل غريبة، وكان مسلطًا على أهل البادية، وبلغ من سرقته أنه سرق وهو مصلوب؛ لأن ابن عباد أمر بصلبه على ممر أهل البادية لينظروا إليه، فبينما هو على خشبته على تلك الحال؛ إذ جاءت إليه زوجته وبناته، وجعلن يبكين حوله ويقلن: لمن تتركنا؟! نضيع بعدك. وإذا ببدوي على بغل وتحته حمل ثياب وأسياب، فصاح عليه: يا سيدي، انظر في أية حالة أنا، ولي عندك حاجة فيها فائدة لي ولك. قال: وما هي؟ قال: انظر إلى تلك البئر، لما أرهقني الشرط رميت فيها مائة دينار، فعسى تحتال في إخراجها، وهذه زوجتي وبناتي يمسكن بغلك، خلال ما تخرجها، فعمد البدوي إلى حبل ودلى نفسه في البئر، بعد ما اتفق معه على أن يأخذ النصف منها.
فلما حصل أسفل البئر قطعت زوجة السارق الحبل وبقي حائرًا يصيح، وأخذت ما كان على البغل مع بناتها وفرَّت به …
ورُفعت هذه القصة إلى ابن عباد فتعجب منها وأمر بإحضار البازي الأشهب وقال له: كيف فعلت هذا مع أنك في قبضة الهلكة؟ فقال له: يا سيدي، لو علمت قدر لذتي في السرقة خليت ملكك واشتغلت بها! فلعنه وضحك منه ثم قال له:
إن سرَّحتك وأحسنت إليك، وأجريت عليك رزقًا يقلك؛ أتتوب من هذه الصنعة الذميمة؟
فقال: يا مولاي، وكيف لا أقبل التوبة وهي تخلصني من القتل؟
فعاهده وقدمه على رجال أنجاد، وصار من جملة حراس أحواز المدينة.
هاتان قصتان لهما دلالتهما على صلة الرجل برعيته، ومعرفة أحوالهم، وتفكهه معهم.