وفاة المعتمد على الله وقبره
ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات وخلده يتردد بين النكبات والعثرات ونفسه تتقسم بالأشجان والحسرات إلى أن شفته منيته وجاءته بها أمنيته، فدفن بأغمات وأريح من تلك الأزمات.
ورفعت مكارم الأخلاق وكسدت نفائس الأعلاق، وصار أمره عبرة في عصره، وصاب أندى عبرة في مصره.
وبعد أيام وافاه أبو بكر بن عبد الصمد شاعره المتصل به المتوصل إلى المنى بسببه، فلما كان يوم العيد وانتشر الناس ضحى وظهر كل متوارٍ وضحى قام على قبره عند انفصالهم من مصلاهم واختيالهم بزينتهم وحلاهم، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه وخرَّ على تربه ولثمه:
وهي قصيدة أطال إنشادها وبنى بها اللواعج وشادها، فانحشر الناس إليه وأحفلوا وبكوا لبكائه وأعولوا وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج، مديمين البكاء والعجيج.
ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم، وأقرحوا مآقيهم بفيض شئونهم، وهذه نهاية كل عيش، وغاية كل ملك وجيش، والأيام لا تدع حيًّا، ولا تألو كل نشر طيًّا، تطرق رزاياها كل سمع، وتفرِّق مناياها كل جمع، وتصمي كل ذي أمر ونهي، وترمي كل مشيد بوهي، ومن قبله طوت النعمان بن الشقيقة، ولوت مجازها في تلك الحقيقة.»
•••
قال غير واحد: من النادر الغريب أنه نودي على جنازته: «الصلاة على الغريب» بعد عظم سلطانه وسعة أوطانه وكثرة صقالبه وحبشانه وعظم أمره وشأنه، واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام الذين لهم في الأدب حصة، ولقضية المعتمد في صدورهم غصة … إلخ.
وخاتمة هذه الحوادث الدامية وتلك القصة الباكية أبيات أوصى المعتمد أن تُكتب على قبره:
قصة المعتمد مأساة لا تحتاج إلى افتنان ناثر، وقصيدة حزينة لا تفتقر إلى مبالغة شاعر.
ولا ريب أنها سارت في أهل عصره وسرت إلى العصور من بعده، وبقي قبره مزار الأدباء ومقصد العلماء.
فهذا لسان الدين بن الخطيب وزير الأندلس وعالمها وأديبها الذي ألف المقري كتابه الواسع لتاريخ الأندلس ولسيرته فسماه «نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب»، وناهيك بهذا نباهة شأن وعِظم مكانة.
لسان الدين هذا يزور قبر المعتمد بعد ٢٧٣ سنة من وفاته وينشد عنده شعرًا.
وقفت على قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغمات في حركة راحة أعملتها إلى الجهات المراكشية باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار سنة ٧٦١ﻫ، وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض وقد حُفت به سدرة وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته مولاة رميك، وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتهما، فأنشدت في الحال:
وقد زرت أنا قبر المعتمد بمدينة أغمات سنة ١٠١٠ﻫ، ورأيت فيه مثل ما ذكره لسان الدين رحمه الله تعالى، فسبحان من لا يبيد ملكه، لا إله إلا هو.
فهذا عالم مؤرخ يزور قبر المعتمد بعد وفاته بأكثرَ من خمسة قرون، وأحسب أن زيارة قبر المعتمد سارت سُنة الأدباء والعلماء منذ مات في القرن الخامس الهجري إلى عصر المقري القرن الحادي عشر، ولعلها استمرت من بعدُ عصورًا أخرى.