على حافة العدم
مضت السيارات الثلاث تشقُّ طريقها مُسرِعة على الأرض الممهَّدة … في السيارة الأولى «أحمد» و«إلهام» ومعهما الكلب «جولد» ساكنًا يَرمق في تأمُّل بحر الرمال البعيد.
والسيارة الثانية يقودها «مصباح» ومعه «زبيدة»، والثالثة … وهي السيارة التي يُمكن توجيهها باللاسلكي، «بو عمير» ومعه «هدى». كانت على يَمينهم المياه الزرقاء للبحر المتوسِّط … وعلى يسارهم الصحراء … وكان الجو مُنعشًا قد ملأته رائحة البحر … وكانت وجهتُهم مدينة العقيلة على الساحل … وكان مقدرًا أن يَصلوا إليها في الظهيرة ليَرتاحوا ويتناولوا غذاءهم ويستقُوا بعض المعلومات قبل التوغُّل في الصحراء.
وكان كل واحد وزميلته يتبادلان حديثًا قصيرًا، ثم يعودان إلى الصمت … فقد كانوا جميعًا يُفكِّرون في هذه القوة الخفية التي تَربض وسط الصحراء … في نقطة العدم التي لم يَعُد منها أحد … وكانت «إلهام» بالذات … وهي المسئولة عن التموين تُفكِّر في المياه … هل ما معهم يَكفي؟! إنَّ العدو الأول في رحلات الصحراء هو العطش، وكم مِن مرةٍ هزَم هذا العدو رُوَّاد الصحراء!
انقضت الساعات مُملَّة متشابهة … لم يكن يقطع مللَها إلا موسيقى خفيفة كانت تَنطلِق من راديوهات السيارات … وبعض السيارات المارَّة عائدة من جوف الصحراء إلى بنغازي.
وكما قدروا … وصلُوا العقيلة قرب الظهر … فأراحوا السيارات، ورفعوا أغطية المحركات … ونزلوا إلى مطعم قريب فتناولوا غداءهم … وملأت «إلهام» خزانات المياه التي نقصت … ثم ارتاحوا ساعة، وبدءوا جولتهم في المدينة يسألون عن الرحلات التي سبقتْهم … ولم يسمعوا إلا شائعات لا تُصدَّق عن الذين لم يعُودوا … بعض الناس قالوا إنَّ الرمال المتحرِّكة ابتلعتْهم … وبعضهم زعم وجود وحوش خرافية تستطيع أن تَبتلع سيارات بأكملها.
بل ذهبت بعض الشائعات إلى الحديث عن عفاريت الصحراء … وقدرتهم الخرافية … ولم يكن بين هذه الأحاديث كلها ما يُمكِن أن يُفسِّر علميًّا … اختفاء كل هذه السيارات وكل هؤلاء الأشخاص الذين ذهبوا ولم يعودوا مُطلقًا …
ولم يجد الشياطين شيئًا يقولونه … إلا أن القوة الخفية في نقطة العدم ما زالت مجهولة … وأنهم يتحدون شيئًا مجهولًا لا يعرفه أحد.
وعادت السيارات الثلاث تَطوي الأرض مُتوغِّلة في الصحراء، وقد غاب البحر الأزرق ولم يَعُد هناك سوى بحر الرمال الأصفر … لا تقطعه على مدى البصر سوى بعض التلال الحجرية التي تبدو من بعيد كأشباح ضخمة يُغلِّفها لهيب الصحراء المحرق … وكان «مصباح» الليبي قد تولى قيادة السيارة الأولى في هذه الرحلة؛ فقد كان بالطبع أكثر خبرةً بالصحراء من «أحمد».
ومضَت الساعات دون حادث يُذكَر … وفجأة دوَّى طلق ناري بدَّد الصمت المُوحِش … وكان واضحًا أن مصدر الصوت من العربة الثالثة التي يقودها «بو عمير» وتوقَّفَت العربات الثلاث … وأسرع «بو عمير» يقفز من سيارته صائحًا: لا شيء هناك … لقد شاهدتُ سحلية ضخمة من سحالي الصحراء … فجرَّبتُ فيها مسدَّسي الجديد.
ونزل بقية الشياطين … ولم يُعاتِب «أحمد» «بو عمير»؛ فقد كانوا جميعًا يعرفون هوايته في إطلاق النار … ودقَّة تصويبه، وكثيرًا ما كان سلاحه مُنقذًا في أوقات الشدة.
وأشار «بو عمير» إلى مكانٍ قريب، واتَّجهت الأنظار كلها إلى حيث أشار، كانت هناك سِحلية ضخمة ترقد على الأرض وهي تتحرَّك مكانها لا تستطيع الزحف … واقتربوا منها … وكانت الرصاصة قد أصابتْها في الرأس تمامًا … فلم يَطُل نزعها الأخير … واستسلمَت للسكون الأبدي.
قال «مصباح»: هذه المنطقة من الصحراء تسكُنها السحالي الضخمة، وبعض الزواحف المجهولة … وطبعًا تعمر بالحيات والثعابين … ولا بدَّ أن «إلهام» قد أعدَّت بعض الإسعافات المضادة.
ردَّت «إلهام»: طبعًا … معي أنواع من الأمصال لهذا الغرض!
وكان الكلب «جولد» قد استهوتْه الصحراء المُترامية فأخذ يَجري هنا وهناك … فقد كان مُتضايقًا من الجلسة الطويلة المُجهِدة في السيارة … وكذلك كان الأصدقاء … فانتهزوا جميعًا الفرصة … وطلبوا من «إلهام» شيئًا مثلجًا يَروي عطشهم … فقالت «إلهام» وهي تُوزِّع عليهم عصير الليمون المثلَّج: قد تكون هذه آخر قطرة من المثلَّجات … فالشمس الحامية ستُذيب الثلج الذي معنا رغم أنه في ثلاجات صغيرة.
قال «مصباح»: لقد ملأتُ بعض الزمزميات لهذا الغرض ووضعتُها في مقدمة سيارتي، وهي مكوَّنة من إناء من الزنك يُحيطه اللباد، فإذا ما ابتلَّ اللباد فإن تعريضَه للهواء يُؤدِّي إلى تبريد الماء … وهي أفضل وسيلة لتبريد المياه في الصحراء.
ابتسمت «إلهام» قائلة: إنَّ هذا لم يَغِب عنِّي … وأمام كل سيارة ثلاث زمزميات لهذا الغرض.
أمضَوا بضع دقائق واقفين، وقاموا ببعض الحركات الرياضية لتمرين أعضائهم المتيبِّسة من الجلسة الطويلة في السيارة ثم استأنَفُوا السير.
هبط المساء على الصحراء الواسعة … وهبَّت ريح باردة أخذت تَتزايد تدريجيًّا حتى إذا ما غابت الشمس خلف الأفق كانت قد أصبحت عاصفة عاتية … وتحدَّث «مصباح» لا سلكيًّا إلى «أحمد» و«بو عمير» واتفقوا على أن يتوقَّفوا، ويقضوا الليل في أقرب مكان يُمكن أن يقيَهم عصف الريح البارد … وظل «مصباح» يقود القافلة حتى وجد تلًّا حجريًّا عاليًا فدار حوله حيث يُصبح في الجانب المضاد لهبوب الريح ثم توقف، وتوقَّفَت خلفه السيارتان.
كان الشياطين خبراء في نصب الخيام، فأقاموا خيمتَين في أقل من ساعة، إحداهما ﻟ «أحمد» و«بو عمير» و«مصباح»، والثانية ﻟ «هدى» و«إلهام» و«زبيدة» … وقامت الفتيات الثلاث بإشعال بوتاجاز صغير وضعْن عليه طعام العشاء، بينما اجتمع الشبان الثلاثة يتحدَّثون.
قال «مصباح»: بعد ساعة من المسير سنَصل إلى جبال «تيبستي» وهي تَنحدِر جنوبًا حتى كومو، وهي آخر مدينة ليبية على الحدود بين ليبيا وجمهورية النيجر … وأعتقد أن نقطة العدم كما حدَّدها رقم «صفر» على الخريطة تقع في هذه المنطقة … ولا بد أننا سنجد بعض المعلومات هناك عن القوافل التي تلاشت.
«بو عمير»: أرجو ألا تكون مجرَّد إشاعات كما سمعنا في العقيلة.
«مصباح»: إنَّ العقيلة بعيدة جدًّا عن مسرح الأحداث، ولكن لا بد أن نجد أخبارًا معقولة في كومو، فإذا لم نجد فعلَينا أن نذهب إلى وزو، وهي آخر مدينة ليبية على الحدود بين ليبيا وجمهورية تشاد، فإذا لم نجد أخبارًا في المدينتَين … فعلينا أن نقتحم منطقة العدم … ومركزها كما أرى على الخريطة نقطة بين الدول الثلاث. ليبيا، وتشاد والنيجر … أم سنعود؟!
أحمد: إنَّ مهمتنا محدود بجمع المعلومات فقط … ولكن …
بو عمير: ولكن طبعًا إذا وجدنا سبيلًا إلى كشف الحقيقة في منطقة العدم، فلن نتردَّد في اقتحام أي شيء!
أحمد: بالتأكيد!
هبط الظلام تمامًا على الصحراء الواسعة … وساد صمت ثقيل لا يقطعه سوى هبوب رياح بارِدة وانضمَّت الفتيات الثلاث ولم يتحدَّث أحد … وبعد لحظاتٍ قالت «إلهام» وهي تَفرد خريطة المنطقة أمامها: أعتقد أننا في بداية جبال تيبستي، وحسب معلومات رقم «صفر»؛ فنحن على مقربة من مكان القبيلة الأولى التي اختفَت … ولعلَّ من المُمكن غدًا صباحًا أن نَبحث عن آثارها.
بو عمير: لقد انقضَت مدة طويلة جدًّا على اختفاء هذه القبيلة … ولا أظنُّ أننا سنجد شيئًا!
إلهام: إنَّ وجود قبيلة في هذا المكان المُجدب البعيد يعني وجود عين ماءٍ قريبة، فإذا عثرنا عليه فقد نجد حوله ما يَعني شيئًا.
أحمد: سنبحث غدًا صباحًا في حدود ثلاث ساعات فقط. فإذا لم نجد شيئًا يستحق الانتظار انطلقنا غربًا إلى كومو.
وقامت «زبيدة» و«هدى» فأحضَرَتا العشاء، وانهمك الشياطين الستة في الأكل بعد أن وضعوا ﻟ «جولد» كفايته من الطعام … وبعد أن انتهوا منه قال «أحمد»: سنُقسِّم الحراسة على ثلاثة أقسام. الفتيات الثلاث من الآن حتى العاشرة، ثم «مصباح» و«بو عمير» … وسأتولَّى نوبة حراسة الفجر.
وقام الشبَّان الثلاثة إلى النوم … كانت رحلة السيارات الطويلة قد أتعبتْهم إلى حدٍّ ما … وسرعان ما استغرقُوا في النوم.
قالت «هدى»: إنني أحسُّ برغبة في النوم … وأعتقد أن الحراسة لا مُبرِّر لها … فليس في هذه المنطقة ما يُخشى منه … ويكفي أن «جولد» مستيقظ.
زمجر «جولد» بهدوء مُعلنًا عن موافقته … وكأنه كان يؤكِّد قدرته على الحراسة وحده.
ولكن «إلهام» قالت: يُمكنكِ أن تنامي أنتِ يا «هدى»… سأبقى مُستيقِظة.
أضافت «إلهام» بعد لحظات: وكذلك أنتِ يا «زبيدة» في إمكانك أن تنامي.
قامت «هدى» للنوم … ولكن «زبيدة» رفضت وقالت: سأبقى معكِ … على الأقل نتحدَّث معًا.
كانتا تجلسان في ظلِّ التلِّ الذي اختاروه ليُقيموا الخيمتَين بجواره … واستندَتا على الصخور السوداء وأرسلتا البصر إلى بعيد … ومضى بعض الوقت، وفجأة زمجر «جولد» ووقف يُدير رأسه رافعًا أنفه إلى السماء يتشمَّم رائحةً مجهولة … وبعد لحظات وقف شعره وأخذ يدور مكانه في اهتياج … وربتت «إلهام» على ظهره محاولةً تهدئته، ولكنه استمرَّ يُشمشم ويدور … وأحسَّت «إلهام» أن شيئًا يَستثير «جولد» … ولكن الكلب الضخم استمرَّ يُبدي قلقه وتوتُّره.
مدَّت «إلهام» يدها إلى بندقية سريعة الطلقات … وأعدتْها للإطلاق … كانت متأكِّدة أن «جولد» قد اشتمَّ خطرًا قريبًا … ووقفَت … وتحرَّك «جولد» فتحرَّكت خلفه. ودارت معه حول التل. وفي الظلام الكثيف الذي لا تُضيئه سوى النجوم البعيدة شاهدَت شبحًا مُتحرِّكًا في الظلام على مَبعدة … كان الشبح شيئًا مخيفًا ضخمًا يتحرَّك في بطء ويهتزُّ إلى الأمام والخلف في مشيتِه … وتذكَّرَت «إلهام» وحوش الصحراء المُنقرِضة، وتوقَّعَت أن ترى ديناصورًا ضخمًا يُطلق اللهب من فمه، ووضعت البندقية في كتفها، ووضعت إصبعها على الزناد … وانطلق «جولد» فجأةً جاريًا في اتجاه الشبح … وتردَّدت «إلهام» في إطلاق الرصاص؛ فقد اقترب الشبح الضخم … وتبيَّنَت أنه رجل يَركب جملًا كبيرًا.
أخذ «جولد» ينبح بعمقٍ ووحشية … وبدأ الجمل يجري بسرعة متجهًا ناحية «إلهام» … وجاءت «زبيدة» على نباح الكلب تَحمل بندقية هي الأخرى واقترب الجمل وراكبه … وصرخت إلهام: «جولد»! اهدأ!
وامتثل الكلب الضخم، واقترب الجمل حتى أصبح على بُعد أمتار من مكانِ الفتاتَين، وقالت «إلهام»: قف عندك!
وتوقَّف الجمل مكانه … وأخرجت «زبيدة» بطاريتها وأطلقت شعاعًا قويًّا من الضوء شمل الجمل وراكبه … كان جملًا ضخمًا من جمال الصحراء القوية … على سنامه المرتفع تربع رجل طويل القامة في ملابس بيضاء … وقد أخفى وجهه وراء لثام أبيض فلم يبقَ ظاهرًا منه سوى عينيه.
توقف الرجل لحظات، ثم تقدم غير مبالٍ بالسلاح الموجَّه ضده، ثم لكز الجمل في خاصرته فأناخ … وهبط الرجل بهدوء … وسوَّى ثيابه بعناية … ثم تقدم من «إلهام» و«زبيدة» … كان طويلًا أكثر من المعتاد … عريض المنكبين وبدا خلف لثامه وفي ملابسه البيضاء كأنه بطلٌ أسطوري من عالم آخر … وظلَّ يتقدم حتى وقف أمام الفتاتين ثم رفع يده بالتحية وقال: عليكما السلام، ولتُبارككما السماء.