الرجل الملثم
ردَّت «إلهام» السلام، ولكنها ظلَّت ترفع بندقيتها … وتقدَّم الرجل دون خوفٍ وقال: هل من طعام؟
ردَّت «إلهام»: من أنت؟
رد الرجل: عميد بن شعبان.
إلهام: ماذا تريد؟
الرجل: طعامًا وشرابًا!
فكَّرت «إلهام» لحظات ثم قالت: تفضَّل!
وتقدم الرجل حتى تجاوز «إلهام»، ثم اختار مكانًا سوَّى رماله بقدمه، ثم جلس، واستدارت «إلهام» إليه، واعترتْها رعشة وهي تلمَح عينَيه تبرُقان في الظلام … وكانت «زبيدة» قد ذهبت فأيقظت «أحمد» الذي خرج مسرعًا ليجد الرجل جالسًا كالتمثال الأبيض في ظلام الصحراء والصخور والليل.
تقدَّم «أحمد» فألقى السلام على الرجل، وجلس بجواره بعد أن تحدث مع «إلهام» بسرعة، وبينما انصرفت «إلهام» و«زبيدة» لإعداد الطعام … قال «أحمد»: سمعتُ أن اسمك «عميد بن شعبان»، وأنك جئت طلبًا للطعام والشراب.
قال الرجل: هذا صحيح.
أحمد: من أين أقبلت؟
عميد: من مكان بعيد.
أحمد: من أين بالتحديد؟
عميد: من الهوجار … بعيدًا في جنوب الجزائر.
أحمد: وماذا أبعدك عن مواطنك؟
عميد: إني تاجر … ولي مصالح مُتعدِّدة في أماكن مختلفة.
وسكت الرجل لحظات ثم قال: لقد عرفتُموني … ولكن من أنتم؟
لم يجبه «أحمد» على الفور … ثم قال بعد لحظات: نحن مجموعة من الشباب جئنا للسياحة في هذه المنطقة ولصيد الغزلان.
رد «عميد» على الفور: ولكن ليس هنا شيء يستحقُّ الرؤية … الصحراء والجبال ومناطق الصيد بعيدة عن هنا!
أحمد: ربما تكون الخرائط قد ضلَّلتنا … فأين هي أقرب قرية إلى هذا المكان؟
عميد: قرية وزو أو كومو … كلاهما على مسافة.
أحمد: لعلك تدلُّنا على أقصر طريق إلى إحداهما.
عميد: إن شاء الله!
قدمت «إلهام» و«زبيدة» الطعام إلى الضيف، فأقبل عليه بهدوء … ولاحظ «أحمد» أنه لا يأكل أكل الجائع … وانتهى الرجل من طعامه سريعًا، ثم شربَ الشاي، ثم قام إلى جَمله فأطعمه، ثم عاد واستأذن الأصدقاء ونام.
طلب «أحمد» من «زبيدة» و«إلهام» أن تناما … وجلس وبين يدَيه بندقية سريعة الطلقات يرقب الرجل النائم ويُفكِّر … وكان «جولد» يَجلس بين قدمَيه هادئًا، ومضى الوقت و«أحمد» يضع شتى الاحتمالات عن شخصية الرجل … إنه قوي … واثقٌ من نفسِه، فيه شيء غامض … هل هو عدو؟! هل هو صديق؟! وإذا كان عدوًّا، فلماذا؟! هل له علاقة بهذه القوة الخفية التي أخفَتْ إلى الأبد رجالًا وسيارات وأجهزة دون أن تترك أثرًا؟! وهل يكون مصيرهم مثل كل هؤلاء الذين حضروا إلى منطقة العدم ولم يُغادرُوها أبدًا؟!
مرَّت الساعات، وازداد البرد، فأحضر «أحمد» بطانية تغطَّى بها هو والكلب «جولد» ولم يبقَ باديًا منهما سوى رأسَيهما … وتجاوَزت الساعة الثالثة صباحًا و«أحمد» جالس مكانه … وفكر أن يوقظ «بو عمير» و«مصباح» … ولكنه فضَّل أن يبقى ساهرًا … وظل الرجل نائمًا حتى بدأت أشعة الشمس تتسلَّل إلى الأفق، فاستيقظ وعلى ضوء النهار الوليد، تأمَّله «أحمد» وازداد اقتناعًا أن خلف هذا الرجل سرًّا يُخفيه وأنه ليس تاجرًا كما يدَّعي … وإلا فأين ما يُتاجر فيه؟
وتبادَلا تحيَّة الصباح، وأيقظ «أحمد» بقية الشياطين … كانت مُفاجأةً ﻟ «هدى» و«بو عمير» و«مصباح» وجود الرجل الغريب، وقال «مصباح» مُحدثًا الشياطين بينما الرجل يتناول إفطاره وحده: إنه من الطوارق … وهم البدو الملثَّمون فقط في هذه الصحراء … فمن تقاليدهم أن يَتلثَّم الرجل وتُسفِر المرأة عن وجهها، وهم مُقاتلون أشدَّاء.
أحمد: لقد لاحظت على الضوء أنه يَحمِل مسدَّسًا وخنجرًا … وهناك بندقية حديثة مع حاجياته على الجمل.
مصباح: إنه ليس رجلًا عاديًّا على كل حال … فثيابه من قماشٍ ثمين، وكسوة الجمل غالية … وربما كان أميرًا من أمراء الطوارق!
أحمد: ألا نستطيع أن نطلب منه كشف اللثام عن وجهه؟
مصباح: لا يمكن … إن من يكشف اللثام عن وجهه من رجال الطوارق يُقتل على الفور … إنه عارٌ لا يمحوه إلا الدم!
وانضمَّ الطارقيُّ إليهم، وعلى ضوء الشمس التي سطعت بدَت عيناه اللامعتان القاسيتان … وسمرة بشرته وغزارة شعر حاجبَيه … وقال الطارقي مشيرًا إلى اتجاه الغرب: سأسبقُكُم على الجمل … واتبعوني … إن سرعة سياراتكم في الرمال لن تَزيد عن سرعة الجمل كثيرًا … وشكرًا على ضيافتكم الكريمة …
وقفز إلى جمله في رشاقة وانطلق قبل أن يتلقَّى من الشياطين ردًّا … وأشار «أحمد» إلى زملائه، وجلسوا في شكل حلقة يتحدَّثون فقال «أحمد»: أعتقد أنكم تشاركونني الإحساس أن حكاية «عميد بن شعبان» عن نفسه وعن تجارته ليست عادية … والآن هل نتبعه أو لا نتبعه؟
كان أول المتحدثين «بو عمير» الذي قال: إذا كان لهذا الطارقي «عميد بن شعبان» علاقة بما يحدث في منطقة العدم … فهذه فرصتُنا لنَعرف شيئًا عنها … وإنني أقترح أن نتبعه على الفور!
بدا حديث «بو عمير» معقولًا … فلم يتحدَّث أحد بعدَه … بل قاموا جميعًا ففكوا الخيمتَين وسرعان ما كانوا يتبعون «عميد» الذي بدا من بعيد كأنه طيف من الأطياف … استمرَّ السير ساعات، وقد قربت المسافة بين السيارات والجمل السريع … وقد كان على الشياطين أن يَدُوروا حول كثبان الرمال الكثيرة، بينما كان يتجاوزُها مسرعًا … وأحسَّت «إلهام» المسئولة عن التموين بقلق وهي تنظر إلى عدادات الوقود؛ فقد كان مقدرًا أن تكفيَهم حتى الوصول إلى إحدى القريتين حيث يوجد الوقود في محطة رجال حرس الحدود … ولكن … هكذا قالت «إلهام» لنفسها: إذا استمرَّ السير بين الكثبان الرملية واللف والدوران بينها، فسوف يَنفد الوقود قبل أن يصلوا إلى حيث يريدون … وفكَّرت أن من الأفضل الاكتفاء بسيارتَين … ونقل الوقود من السيارة الثالثة … ولكنَّها كتمت مخاوفها حتى ترى ما سيحدث في الساعات القادمة.
ارتفعت الشمس إلى وسط السماء … واشتدَّت الحرارة، ومضى «عميد بن شعبان» بجمله لا يتوقف والسيارات الثلاث تتبعه حتى أشرفت الساعة على الثالثة بعد الظهر … وتوقَّف «عميد» عند قاعدة جبل … وعرف الشياطين أنهم وصلوا إلى بداية سلسلة جبال تيبستي … ولحقوا بالطارقي الأبيض الذي وقف بجوار جملِه … قال «عميد» عندما توقفت السيارات بجواره: سنرتاح ساعتَين ثم نُعاود المسير.
قال «أحمد»: ولكن تستطيع السيارات عبور هذه الجبال.
عميد: هناك دروب ممهَّدة في الجبال لا يَعرفها سواي … وسوف أدلُّكم عليها؛ فهي تُوفِّر نصف الطريق.
بعد ساعة تقريبًا كان الغداء جاهزًا … والتفَّ الجميع حوله … ولا تدري «إلهام» لماذا أحسَّت أن «عميد» يرمقها بتأمُّل … وأحسَّت برعدة تسري في جسمها عندما التقت عيناها بعينيه … ولكنها بدت ثابتة تمامًا وهي تتحدَّث معه … لقد اتفق الشياطين بالنظرات والإشارات أن يُناقشوا «عميد» في معلوماته عن دائرة العدم والقوافل التي لا تعود.
قالت «إلهام»: لقد سمعنا عن أحداث غريبة تحدث في هذه المنطقة … هل سمعتَ عنها يا سيد «عميد»؟
مرةً أخرى لمعت في عينَي الطارقي هذه النظرة الباردة النفَّاذة التي يخفيها خلف قناع من الحزن وقال: نعم!
كانت إجابته مفاجأةً للشياطين … فقد توقَّعُوا جميعًا أن يُنكِر معرفته بها … وتدخل «أحمد» قائلًا: … هذه القبائل التي اختفت … والقوافل التي لا تعود؟
مرة أخرى رد «عميد» بنفس الكلمة: نعم.
وساد الصمت لحظات والأيدي ذاهبة عائدة بالطعام، وتَظاهر الشياطين بأنهم اكتفَوا بهذه الإجابة المختصَرة، ولكن «هدى» أضافت: لقد سمعنا أنها من عمل الجن والشياطين.
رد «عميد»: عِلمُ ذلك عند ربي … لا أحد يعرف.
زبيدة: ألم تُقابل هذه القوافل قبل أن تَختفيَ كما قابلتَنا؟
كان السؤال مفاجئًا، ويَحمل معنًى خاصًّا، ولكن الطارقي لم يُبدِ أيَّ اكتراث … وقال: قابلتُ بعضهم بالصدفة.
كانت إجاباته مختصَرة حاسمة، ولكن «مصباح» سأل: هل سنَجد معلومات أكثر في كومو؟!
عميد: ربما!
وساد الصمت وأدرك الشياطين أنَّ «عميد» لن يقول أكثر مما قال … فاختار كلٌّ منهم مكانًا للراحة … بينما أخرج «عميد» غليونه البدوي الطويل واتَّكأ على صخرة، وأخذ يُدخِّن في صمت.
نظر «أحمد» في ساعته … كانت قد انقضت ساعتان منذ توقفوا للراحة … ولدهشة «أحمد» الشديدة وجد الطارقي المتَّشح بالبياض يقف فجأةً معلنًا بداية الرحيل … لقد حسب الوقت بالضبط دون أن يحمل ساعة … وكان «أحمد» يعرف أن هؤلاء البدو يَحسبون الزمن بالشمس … وأنهم لا يُخطئون.
بدأت الرحلة داخل جبال تيبستي الموحشة، المكوَّنة من البازلت الأسود والجرانيت الوردي، وقد بدَت في وديانها البيضاء آثارُ سيول الأمطار … كان الشياطين مُتنبِّهين تمامًا إلى أنَّ «عميد» قد يقودهم إلى فخ … لهذا رسموا خطتهم على ترك آثار واضحة يعودون عن طريقها … إذا فكر الطارقي الملثَّم أن يَخدعهم. كان «أحمد» أكثرهم إدراكًا للمخاطر التي قد يتعرَّضون لها … ولكن المخاطر لم تكن الشيء الذي يُثني الشياطين عن عزمهم … ولكن عندما بدأت الجبال يَتزايد ارتفاعها أشار «أحمد» إلى «إلهام» أن تتَّصل لا سلكيًّا بالمقر السرِّي للشياطين لإبلاغ رقم «صفر» بمكانهم … وبالتطورات التي حدثَت.
وتوقفت «إلهام» عند سيارة اللاسلكي ثم بدأت الاتصال … ولكن ما سمعتْه أفزعها … كانت هناك موجة قوية للتشويش قد سُلِّطت على الإرسال، ولم يكن في إمكانها أن تسمع شيئًا إلا صوتًا متصلًا يشبه هدير البحر … وأدركت «إلهام» أن جهازًا قويًّا للتشويش على الاتصالات اللاسلكية قريب منهم، وأنَّ الطارقيَّ «عميد بن شعبان» قد قادهم إلى حيث لا يَتمكَّنون من الاتصال مطلقًا بالعالم الخارجي … وتذكَّرت القوافل السابقة. وكيف انقطع الاتصال بها واختفَت دون أن تترك أثرًا … وتطلَّعت إلى وجه «أحمد» وكان واضحًا أنه أدرك كل شيء.