في مصيدة التيبستي الموحشة
فجأةً هبَّت ريح عاصفة شملت الجبل الشامخ … وكان «أحمد» قد أطلق نفير السيارة محذرًا السيارتين اللتَين كانتا تتلويان صعودًا خلف «عميد» … ثم أخرج بندقيته وارتكز على ركبته … لقد قرر أن يُصيب «عميد» دون أن يقتله وأن يستجوبه فيما فعل … ولكن الطارقي الأبيض نظر خلفه نظرة خاطفة … ثم انعطف داخل أحد المنحنيات واختفى.
قفز «أحمد» إلى السيارة وخلفه «إلهام» وأطلق للسيارة العنان محاولًا اللحاق بالطارقي الفارِّ … ولحق بالسيارتين ثم تجاوزهما في منطقة وعرة شديدة الخطورة، ثم انثنى حيث اختفى «عميد» … ولكن قبل أن يُدرك طبيعة الطريق اصطدمت السيارة بجدار من الجرانيت واهتزت بشدة، ثم ترنحت متراجعة وكادت تسقط من ارتفاع مئات الأمتار … ولكن «أحمد» استطاع السيطرة عليها وإيقافها … وعندما نزل هو و«إلهام» أدركا أن السيارة أصابها عطب شديد لا يُمكن إصلاحه … وكان صوت الصدمة القوية قد انفجر في الصمت، وردَّدته جدران الجبال الجرانيتية.
وصل «بو عمير» و«زبيدة» … ثم «مصباح» و«هدى» … وترجَّل الأربعة … وكان «أحمد» و«إلهام» يتحدثان، كان «أحمد» يُريد أن يتبع الطارقي جريًا على قدمَيه … وكانت «إلهام» تُحاول إثناءه عن عزمه … وعندما وصل بقية الشياطين تقرَّر بسرعة أن يجري «أحمد» و«بو عمير» معًا خلف «عميد» … وهكذا انطلقا مسرعَين فوق الأرض الصخرية الوعرة ومعهما «جولد» … كان الكلب يتشمَّم الطريق ويجري وهما خلفه … ومضت نصف ساعة في مطاردة الرجل الذي اختفى دون أن يَريا له أثرًا … وإن كان الكلب «جولد» يمضي مسرعًا بين الدروب الصخرية، ثم ينثني لينتظر «أحمد» و«بو عمير».
كانت الريح قد اشتدَّت وتجمَّعت السحب السوداء وغطت الجبال حتى بدَت كملاءة سوداء … ثم انفجر غضب السماء في سيل من الأمطار الغزيرة التي لم يشهد الشياطين مثلها أبدًا … واضطر «أحمد» و«بو عمير» و«جولد» أن يأووا إلى كهف. وكانت المياه تسقط أمامهم كالشلالات تجرف في طريقها كل شيء … وتصور «أحمد» مكان السيارات … وأدرك أن خطرًا رهيبًا يَحيق بهم في هذا المكان … فمن المؤكَّد أن هذا السيل المتدفِّق يمكنه أن يجرف السيارات الثلاث إلى قاع الجبل.
استمر السيل المتدفِّق حتى هبط الليل دون أن يتمكن «بو عمير» و«أحمد» و«جولد» من مغادرة المغارة التي أووا إليها، وقال «أحمد»: إننا سنضطر للبقاء في المغارة إلى الصباح، فمن العبث الخروج الآن تحت هذا السيل الفظيع.
وهكذا بدأ الليل الطويل البارد … و«أحمد» و«بو عمير» جالسَين على الأرض وقد أسندا ظهريهما إلى الجدار الصخري … والأفكار السوداء تمرُّ برأسَيهما المتعبَين … لقد استطاع الطارقي «عميد» أن يجرَّهم جميعًا إلى فخِّ الجبال السوداء … وأكملت الطبيعة المهمَّة فعزلتهم عن بعضهم … بالمطر الدافق والليل الأسود.
انقطع المطر حوالي منتصف الليل … وساد الجبال والوديان صمت عميق موحش وخُيِّل ﻟ «أحمد» و«بو عمير» أنهما سمعا في ذلك الوقت صوت صراع بعيد … كان شخصان يتصارعان على الصخور … قال «بو عمير»: هيا نخرج!
رد «أحمد»: إن الأرض زلقة … وأخشى أن نسقط من هذا الارتفاع الشاهق.
بو عمير: إني أسمع صوت عراك بعيد.
أحمد: وأنا أيضًا.
بو عمير: إذن هيا بنا.
كان «جولد» يقف بباب المغارة وقد رفَع أذنَيه كالرادار … وبدا مهتاجًا … فما كاد يرى «أحمد» و«بو عمير» يستعدَّان لمغادرة المكان حتى اندفع إلى الأمام … وعندما خرج «أحمد» و«بو عمير» فوجئا بأن السماء قد صفَت … ولم يَعُد هناك أثر للسحاب الأسود … وعلى ضوء النجوم البعيدة كانت الصخور تلمع بعد أن غسلتْها مياه المطر الدافقة، وأخذا يتنقَّلان بحذر بين الصخور، يتبعان «جولد» الذي كان يسبقهما بمسافة واسعة.
استمرا يسيران حتى دارا حول قمة الجبل الذي كانا قد وصلا إليه. وبدأ الطريق الهابط إلى الوادي حيث كانت السيارات … ولم يكن في إمكانهما أن يَريا ما حدث لها … وإن كان «أحمد» واثقًا أن السيول المتدفقة قد جرفتها … وقد تحقَّقت مخاوفُه عندما وصَلا إلى حيث كانت السيارات فلم يجدوا أثرًا لها.
وضع «بو عمير» يده على فمِه ثم أطلق صيحة عالية تردَّدت في طيات الوادي الصامت وبعد أن سكت الصدى … تردَّدت صيحة أخرى على يمينَيهما … ثم سمعا صوت طلقة رصاص وعواء كلب وعاد الصمت من جديد … وعاد «بو عمير» يُطلق صيحة ثانية … وترددت الصيحة وسكنت ثم جاءت صرخة ثانية من نفس المكان.
فقال «بو عمير»: الصيحة من هذا الاتجاه.
وأشار بيده، فاتجها مسرعين … وكان «جولد» قد اختفى تمامًا عن ناظرَيهما … كانا يسيران ببطء شديد، ثم دارا حول صخرية عالية. وشاهدا ضوءًا يدور بين الصخور … قال «أحمد»: إنها بطارية أحد الشياطين.
لم يكن مع «أحمد» و«بو عمير» بطارية … فعاود «بو عمير» إطلاق صيحاته ليدلَّ على اتجاههما … وأخذت المسافة تضيق تدريجيًّا حتى التقى الشياطين جميعًا عند حافَة أحد الوديان الذي تحوَّل بفعل السيول إلى بحيرة من الماء.
كان في اللقاء مفاجأةٌ غير متوقَّعة للطرفين … فلم تكن «إلهام» موجودة … وكان «أحمد» أسبق المتحدثين فقال: أين «إلهام»؟
ردت «زبيدة» بقلق: لقد ظننا أنها لحقت بكما!
أحمد: أبدًا!
زبيدة: لقد حاولت أن تتبعَكُما بسيارة اللاسلكي … وانحرفت بين صخرتين كبيرتين واختفت، وبعدها لم نرها وظننا أنها لحقت بكما.
بو عمير: هل أنتم الذين أطلقتم الرصاص منذ نحو نصف ساعة؟
مصباح: لا … لم نُطلق رصاصًا، لقد ظننا أنكم أنتم!
بو عمير: هذا ما ظننته … فقد كان صوت الطلقة مختلفًا عن النوع الذي نستخدمه.
هدى: لا بد أنه الطارقي «عميد بن شعبان».
بو عمير: ربما.
وساد الصمت وقال «أحمد»: إن «جولد» هو الآخر قد اختفى!
بو عمير: لقد سبَقَنا بمسافة كبيرة … وقد سمعت عواءه بعد طلقة الرصاص ولعله أصيب.
أحمد: والسيارة الباقية؟!
مصباح: لقد جرفتها السيول إلى بطن الوادي.
أحمد: لقد فقدنا السيارات الثلاث … واختفت «إلهام» و«جولد» … إنها نتيجة محزنة!
ساد الصمت لحظات ثم قال «أحمد»: سندخل إحدى المغارات للحديث وقضاء الليل حتى يطلع النهار.
هدى: في هذا الجانب مغارة كبيرة، كنا قد لجأنا إليها.
وفي صمت حزين ساروا حتى دخلوا المغارة، وبعد أن حدَّدوا أماكن جلوسهم على ضوء البطاريات … أطفئوها … وساد الظلام … والصمت … وغرقَ كلٌّ منهم في أفكاره وخواطره … كانوا جميعًا منزعجين على غياب «إلهام» … وبالطبع كان أكثرهم انزعاجًا «أحمد»؛ لقد كانت «إلهام» بالنسبة له أكثر من زميلة في فريق الشياطين اﻟ ١٣ … كانت حبيبة قلبِه … وكان يعرف أنها كبقية الشياطين فتاة شُجاعة ومغامرة من الدرجة الأولى لا يسهل التغلب عليها … ولكنه اعترف بينه وبين نفسه أن الظروف التي يمرون بها من أغرب الظروف … فهم يُحاولون اكتشاف قوة خفية لا أحد يعرف عنها شيئًا … وفجأة قفز إلى ذهنه ما جرى للاسلكي … إن التشويش على الإرسال اللاسلكي يحتاج إلى أجهزة عِلمية متقدِّمة جدًّا … إذن فهذه القوة الخفية التي تربض في قلب هذه الصحراء القاحلة قوة متحضِّرة … تديرها شخصيات علمية … ولكن ماذا تفعل هذه الشخصيات في هذا المكان؟!
وقطع «أحمد» الصمت … فنقل أفكاره إلى بقية الشياطين وقالت «زبيدة»: لا تنس يا «أحمد» أن معلومات رقم «صفر» كانت تتضمَّن أن العلماء يؤكدون وجود مواد مشعة في هذه المنطقة … ربما يورانيوم مثلًا وهو المادة الأساسية التي تُصنع منها القنابل الذرية.
أحمد: هل تَعنين بهذا أن وراء هذه القوة الخفية دولة كبرى؟!
زبيدة: هذا مُمكن جدًّا!
أحمد: ولكن كيف لم تتمكَّن مخابرات الدول الأخرى من تتبُّع آثار هذه القوة وكشف حقيقتها؟!
هدى: من الواضح أن هذه القوَّة الخَفية تَختفي وراء أستارٍ كثيفة لا يُمكن لأحدٍ التسلُّل إلى أسرارها … بدليل أنَّ كل محاولة للكشف عنها انتهت ليس بالفشل فقط … ولكن بالاختِفاء تمامًا.
بو عمير: هل اختفَتِ القوافل والسيارات كما نختفي نحن الآن؟
كانت هذه الفكرة تدور في رءوس الشياطين الخمسة … إنهم فعلًا يمكن أن يَختفُوا إلى الأبد في دهاليز وكهوف جبال تيبستي الموحشة دون أن يعثر عليهم أحد … وتتلاشى محاولة أخرى من المحاولات التي بذلها العالم لاكتشاف حقيقة هذه القوة الخفية التي اختارت مجالًا لنشاطها الصحراء الكبرى … أكبر صحراء في العالم … حيث ما زالت أكبر مساحة منها بلا اكتشاف.
هدى: وهل الطارقي «عميد بن شعبان» يعمل مع هذه القوة؟ … إنه شيء مدهش أن تستعين هذه القوة المتحضِّرة بهذا الطارقي الخشن لتنفيذ خططها!
أحمد: لا تنسَي يا «هدى» أننا حتى الآن لم نتأكد من شخصية «عميد» الغامضة … وفي نفس الوقت لقد نجح هذا الرجل في تضليلنا، وقد أدخلنا فخ جبال تيبستي ببساطة شديدة.
مصباح: والآن … ما هي خطتنا القادمة؟!
أحمد: إن أول ما سنفعله في الصباح هو أن نَنقسم إلى فرقتين، فرقة منَّا تُحاول إنقاذ بعض المهمات والأطعمة من السيارات الثلاث … وقد تَستطيع أن تُصلح إحدى السيارات، وسترأس أنت هذه الفرقة يا «مصباح» ومعك «بو عمير» و«هدى»، أما أنا و«زبيدة» فسوف نبدأ البحث عن «إلهام» و«جولد».
بو عمير: إن اختفاء «إلهام» شيء غريب! ولكن الأغرب منه اختفاء «جولد». وإني أعتقد أنه أصيب بطلقة رصاص … فقد سمعتُ عُواءه بعد الطلقة مباشرةً، ومعنى ذلك أن «عميد بن شعبان» قريب منَّا.
أحمد: إنَّني أريد أن أضيف شيئًا آخر … إنَّ «عميد» ليس وحده في منطقة الجبال الآن … إن هناك مُساعدين له … ولا أدري ما هي خطتهم بالنسبة لنا … ولكن تفكيري يقودني إلى احتمال مُخيف.
وصمَتَ «أحمد» لحظات، ثم قال: إننا قد نُخطَف جميعًا كما خُطفت «إلهام» … واحدًا إثر آخر!
قالت «زبيدة» بجزع: هل تعتقد أن «إلهام» خُطفت؟! كنت أظن أنها مُختفية في مكان قريب … وسنعثُر عليها في الصباح.
أحمد: قلبي يُحدثني أنها خُطفت … فلم تخفَ عنِّي نظرات «عميد» إليها عندما كنا نتناول غداءنا.