شاي ورصاص
انقضت ليلة سيئة على الشياطين الخمسة في الكهف البارد … ولم يَكدْ ضوء الفجر ينتشر حتى تسابقوا للخروج … كان الكهف يقع عند منتصف جبلٍ شاهقٍ ويَمتدُّ تحته الطريق الذي كان تسير عليه السيارات … ومن أول نظرة كان واضحًا أنَّ الشياطين فقدوا السيارة الثالثة … فقد كانت محطمة وقد أغرقتْها المياه …
ولم يكن هناك وقتٌ ليضيع … وحسب الاتِّفاق أسرع «مصباح» يتبعه «بو عمير» و«هدى» ينزلون الطريق إلى حيث كانت السيارة الغارقة … بينما اتجه «أحمد» و«زبيدة» إلى فوق حيث كانت السيارة التي يقودها «أحمد» واصطدمت بالصخور … وحيث اختفى الطارقي «عميد بن شعبان».
كان «أحمد» متأكدًا أن «عميد» لم يَبتعد كثيرًا … فلا بد أن العاصفة عوَّقتْه كما عوقتهم وأنه قريب منهم … وإن كان على جمله أسرع منهم خاصةً بعد أن فقدوا السيارات الثلاث.
استطاع «أحمد» أن يتذكَّر الطريق حتى وصل إلى السيارة. وفحَصَها سريعًا، ثم قال موجهًا حديثه ﻟ «زبيدة»: لحسن الحظ من الممكن إصلاحها … لقد تحطَّم جهاز التبريد وانفجرت إحدى العجلات … ولكن يمكن نقل جهاز تبريد آخر من السيارة الغارقة، واستبدال العجلة.
زبيدة: ما رأيك في لقمة سريعة؟!
أحمد: أعدِّي أنت بعض الشطائر بينما أتجوَّل.
وأخرجت «زبيدة» صندوق المواد الغذائية من السيارة وبدأت بسرعة إعداد بعض الشطائر بينما تسلَّق «أحمد» الصخور وأخذ يبحث … وفجأةً سمع صوتًا قريبًا … أشبه بأنَّات شخصٍ جريح … وأرهف «أحمد» سمعَه … كان الصوت يأتي من خلف مجموعة من الصخور المدبَّبة … وسرعان ما كان «أحمد» يقفز خلفها … ولم يكد يستقر على الأرض حتى شاهد الكلب «جولد» … كان مُمددًا على الأرض وقد غرق في مياه الأمطار … واقترب منه «أحمد» مُسرعًا وجرَّه بعيدًا عن المياه … كان «جولد» حيًّا ولكن مصابًا بطلقة نارية في رقبته … وقد نزَف كثيرًا … وبين أنيابه كانت قطعة من ثياب الطارقي البيضاء، وأدرك «أحمد» كل شيء … لقد لحق «جولد» بالرجل واشتبك معه في صراع، انتهى بطلقة الرصاص …
وأحسَّ «أحمد» بغضب شديد على «عميد» … لقد ضلَّلهم واختفت «إلهام» … وأصاب «جولد» … وتمنَّى أن يقابل الطارقي مرةً أخرى ليُصفِّيَ حسابَه معه … وسمع «أحمد» صوت «زبيدة» تُناديه … فناداها … وحضرت مُسرعة … وطلب منها مساعدته على حمل «جولد» سريعًا إلى قربِ السيارة لإجراء الإسعافات اللازمة.
وتعاونا على حمله، كان الكلب ثقيلًا والطريق وعرًا، ولكنهما نجَحا في حمله إلى السيارة، وأسرعت «زبيدة» تقوم بمهمَّتها التي تمرَّنت عليها كثيرًا … الإسعافات … ولم تتردَّد في إجراء عملية للكلب الشجاع بعد تخديره، واستخرجت الرصاصة من عنقه، ثم ربطت الجرح … وأشعلت قرصًا من أقراص السبرتو المُتجمِّد … وهي أقراص قابلة للاشتعال وتُعطي نارًا هادئة لمدة ربع ساعة … وأعدَّت للكلب وجبة ساخنة … وعندما أفاق من أثر المخدِّر وضعتها أمامه.
كان «أحمد» قلقًا … فالوقت يمضي ولا أثر للطارقي، فهل ضاع أثر «إلهام» إلى الأبد؟!
كان يسأل نفسه هذا السؤال بينما كانت «إلهام» في هذه اللحظات قد أفاقت من نومها … ووجدت نفسها جالسة في أحد الكهوف، وأمامها الطارقي «عميد بن شعبان» يُعدُّ إفطارًا.
وتذكرت «إلهام» ما حدث … لقد أسرعت لنجدة «أحمد» بالسيارة، ودخلت بين صخرتَين كبيرتين، وتوقفت السيارة، وفجأةً وجدت الطارقي يقفز من خلف صخرة ثم ينقضُّ عليها قبل أن تتمكَّن من الدفاع عن نفسها ويصيبها بضربة من مسدَّسه على رأسها … وذهبت في غيبوبة وعندما أفاقت وجدت نفسها في هذا الكهف وفيه قُيِّدت وتكوَّمت بجوار جدارٍ صخري … بينما «عميد» يجلس أمامها هادئًا وقد وضع غليونه الطويل بين أسناه وأخذ يُدخِّن في صمت وهو يعدُّ الإفطار.
وبدأ الطارقي بالكلام … فقال لها إنَّ أصدقاءها لن يَخرُجوا مطلقًا من الفخ الذي نصبَه لهم. وحتى إذا تمكَّنوا من الخروج فسوف تتكفَّل القوة الخفية بإبادتهم تمامًا … ولن يعثر لهم أحد على أثر.
وسكت «عميد» قليلًا ثمَّ استطرد الحديث، فقال لها إنه مُعجَب بها لهذا سيأخُذُها معه إلى مقر القوة الخفية، حيث تعيش هناك إلى آخر عمرها دون أن تتمكَّن من العودة إلى العالَم مرةً أخرى.
وكانت «إلهام» تُنصِت إلى حديثه والآلام تَعصِف بها … آلام الجسد في رأسها وفي يدَيها وساقَيها … آلام النفس بعيدًا عن زملائها وعن «أحمد»، وأكثر من كل هذا فشلهم في الكشف عن حقيقة القوة الخفية التي استطاعت فعلًا الانتصار على كلِّ المحاولات التي بُذلَت لكشف أسرارها.
قال «عميد»: هل تُفطِرين؟
كانت جائعة وفكَّرت أن الطعام سيردُّ لها بعض قواها، فهزت رأسها موافقة … وابتسم «عميد» قائلًا: هذا عين العقل، دعكِ من هؤلاء الشباب الذين كانوا معك واتبعيني … سوف نعيش حياة رائعة … ستتمتَّعين بكل شيء تحلُمين به من ثياب ومجوهرات … وستُشاهدين مناظر لم تقَع عليها عينك من قبل!
ولم تردَّ «إلهام» … وتمنَّت لو لم تكن مقيَّدة حتى تُفهم هذا الطارقي مَن هم الشياطين … أطفال! هؤلاء الذين خاضوا المغامرات الرهيبة، وقضَوا على جبابرة الإجرام، أطفال؟!
قال «عميد»: سأفكُّ قيودك … وعِديني ألا تُحاولي الهرب … وعلى كل حال، لعلَّ هذا المسدس الذي لن أتردَّد في إطلاقه يكفي لمنعك من أيِّ محاولة لكشف مكاننا … سوف نَرحل بعد قليل.
وفكَّ قيودَها بيده، وهو يُمسك بالمسدس باليد الأخرى … ووقفت «إلهام» وتمطَّت لتُعيد الدماء إلى أعضائها اليابسة. ثم مدَّت يدها إلى الطعام فتناولته في صمت، وعندما قدَّم لها الطارقي كوب الشاي اعترفت بينها وبين نفسها أنه أمتع كوب شاي تناولتْه في حياتها … أولًا لأنه مصنوع بطريقة مُمتازة … ثانيًا لأنها كانت في أشدِّ الحاجة إليه.
بدأ الاطمئنان يتسرَّب إلى نفس «عميد بن شعبان» عندما شاهد علامات الرضا على وجه «إلهام» … وكانت «إلهام» قد استقرَّت على رأي … أن تُجاريَ «عميد» لعلها تصل إلى معلومات تَستفيد منها لإنقاذ الشياطين … وقد خطر لها والطارقي يفكُّ وثاقها أن تَشتبك معه … وقد كانت الفرصة مهيَّأة … ولكن النتيجة لم تكن مضمونة … فهو مسلَّح جيدًا … خاصة ذلك الخنجر الطويل المُتدلِّي على صدره.
سألته ببساطة: هل المكان الذي سنذهب إليه بعيد؟!
رد «عميد»: لا … في وسط الجبال تقريبًا … هناك مدخلٌ خفيٌّ لا يُمكن اكتشافه يُؤدي إلى مدخل الواحة المفقودة حيث مقر القوة الخفية.
كانت هذه أول معلومة تعرفها «إلهام» عن مقر القوة الخفية … واحة مفقودة!
وتساءلت: لا أفهم ما تقصد بالواحة المفقودة؟!
أخذ «عميد» ينظر إلى «إلهام» في هدوء وعمق … بينما دخان غليونه يتصاعَد في حلقات إلى سقف الكهف، ثم قال: لا داعيَ لأن تعرفي شيئًا عنها … إن من يعرف شيئًا عن الواحة وليس من سُكانها فلا بدَّ أن يموت!
أدركت «إلهام» أنها لن تصل إلى معلومات أكثر من الطارقي … وأخذت تتأمَّل جلسته … ويده اليُمنى تقبض على المسدس … إن المسافة بينها وبينه لا تزيد عن ثلاثة أمتار … وفي إمكانها بقفزة واحدة أن تَشتبك معه … ولكن لا بد من ضمان أن تفوز وتصل إلى زملائها … وإلى «أحمد» … فهذه المعلومات عن الواحة بالنسبة لهم كالعثور على باب الكنز … وقرَّرت أن تَنتظِر فرصة أخرى …
انتهى «عميد بن شعبان» من شرب كوب الشاي … ثم أشعل غليونه مرةً أخرى ومضى يُدخِّن بهدوء … وقالت «إلهام»: متى نخرج؟!
رد «عميد» وهو يُطلق دخان غليونه في تكاسُل: عندما يَحضُر زملائي.
كانت هذه مُفاجأةً ثانية ﻟ «إلهام» … إن ﻟ «عميد» زملاء سيَحضرون واستطرد «عميد» يقول: إننا لن نستطيع أن نعود إلى الواحة إلا بعد أن نتأكَّد من القضاء على هؤلاء الأطفال.
وأحسَّت «إلهام» برعدة في جسدها … ولكنها تمالكَت نفسها … لم يَعُد هناك مجالٌ للتردُّد … يجب المغامرة فورًا قبل القضاء على الشياطين الخمسة … إنها أملهم الوحيد الآن … وبطرف عينها أخذت تنظر حولها … كانت هناك قِطَع من الصخور متناثرة هنا وهناك … واستقر رأيها أن تكون قطعة من هذه الصخور هي سلاحها … إن ما يُهمُّها هو تجريد «عميد» من مسدَّسه … وأن تكون بعيدة عن مدى إطلاقه …
وتظاهَرت أنها تُغيِّر جلستها ومدَّت يدها بجوارها … كانت هناك قطعة من الصخر قريبة من أصابعها … وأخذت تمدُّ أصابعها دون أن تُحرِّك جسمها … وفي نفس الوقت كانت تنظر إلى «عميد» ولاحظت في عينيه نظرةً غريبة … هل عرف ما تُفكِّر فيه؟! هل لاحظ ما تفعله؟! وكانت أصابعها قد قبضت على قطعة الصخر … واستجمعت قوتها ودقَّتها في التصويب، ثم قذفت بقطعة الصخر إلى وجه «عميد»، وارتمَت في نفس الوقت جانبًا، فقد كانت تعرف أنه سيُطلِق النار مباشرةً.
تمَّ كل شيء في ثوانٍ قليلة … أصاب الحجر وجه «عميد» … وأطلق الرصاص، وقفزت «إلهام» جانبًا، ثم وقفت بسرعة البرق وضربت المسدس من يد «عميد» فسقط على الأرض وانحنَت مسرعة لتلتقطَه، ولكن «عميد» رغم المفاجأة والجرح قفز في نفس الوقت مُحاوِلًا منعها من الوصول إلى المسدس.
كانت خطة «إلهام» ألا تلتحم معه؛ فهو بالتأكيد أقوى منها، ولكن وهو بعيد عنها يُمكن مصارعته … وهكذا ضربت المسدس بقدمها فطار بعيدًا في ظلام الكهف، وطوَّحت ذراعها في ضربة قوية أصابت رقبة «عميد» … فتراجع إلى الخلف مذهولًا … وقد انحبسَ الهواء في صدره وأحسَّ أنه سيَنفجِر، ومدَّ يده واستلَّ خنجره، ولكن «إلهام» لم تُمهلْه … ومرةً أخرى طوَّحت بقدمها في ضربة محكمة أصابت يده والخنجر الذي أحسَّت أنه جرَحَها … ولكن الضربة حقَّقت هدفها … وطار الخنجر بعيدًا … وبسرعة البرق اندفعت من الكهف خارجة إلى نور الصباح … وخلفها كان «عميد» يَجري كالمجنون.
جرت «إلهام» مسرعةً … وكم كانت مفاجأةً قاسية لها أن شاهدت رجلين من الطوارق يتقدمان من الكهف مُسرعَين على الأقدام … وأدركت بالطبع أنهما زميلا «عميد» اللذان كان في انتظارهما … وعرفت أنها مُحاصَرة بين الرجلين و«عميد» … وشاهدت بندقية تَرتفع في يد أحدهما … ولم يكن أمامها إلا حلٌّ واحد … كان أمامها صخرة كبيرة مُنحدِرة … لم تجفَّ المياه عليها بعد … وهكذا ودون أي تردُّد ألقَت بنفسها على الصخرة الكبيرة … وانزلقت كالصابونة على جانبها … وظلت تنزلق مندفعة إلى أسفل، وهي تسمع طلقات الرصاص تتبعها وتُصيب الصخر خلفها.
استمرَّت تنزلق دقيقة كاملة … فقد كانت الصخرة عالية … وأخيرًا ارتطمت بالأرض … وأحسَّت بقدمها تَلتوي تحتها … ورفعت رأسها إلى فوق، وشاهدت أحد الطوارق الثلاثة في ملابسه البيضاء يُصوِّب بندقية إلى أسفل ليُطلِق النار عليها.
وفي تلك اللحظة وقد أصبح الموت وشيكًا … سمعت طلقة واحدة … وهوى الطارقي من فوق الصخرة، وسقط يتدحرَج وقد سبقتْه بندقيته …