الحل في فم «جولد»
على بُعد نحو خمسين مترًا لمحت «إلهام» «أحمد» و«زبيدة» يتسلَّقان الصخور في الطريق إليها. وكانا يَمشيان خطوات ثم يختفيان، ويطلقان الرصاص … وكان «عميد» وزميله الطارقي يُبادلانهما الطلقات … وجرَّت نفسها جانبًا حتى اختفت خلف صخرة بارزة حتى لا تكون هدفًا لطلقات الطارقيَّين … ولاحظت أن «أحمد» يتقدم وتَحميه «زبيدة» … ثم تتقدم «زبيدة» ويحميها «أحمد» … وقالت في نفسها … إنهما مُذاكران جيدًا تعليمات المطاردات بالرصاص كما درساها في المقر السرِّي.
وفجأةً سمعت صوت انهيار فوقها … ثمَّ شاهدت على مسافة قريبة جسدًا متشحًا بالبياض يسقط … وأدركت أن «أحمد» أو «زبيدة» قد أصابه … هل كان «عميد» أم زميله؟! لم يكن في إمكانها أن تعرف.
وتوقف إطلاق الرصاص وسكَت الصدى العنيف … إنَّ الطارقي الباقي قد آثَرَ الفرار … وخرجت من مخبئها … ووجدت نفسها فجأةً أمام «أحمد» … واندفع إليها الشابُّ الوسيم وقد التمعت في عينَيه نظرة حبٍّ هزَّت كيانها … ومدَّت يدَيها إليه وتشابكت الأيدي في عنف عاطفي وجذبها لتقف … ولكنها لم تستطع الوقوف … كانت قدمها تُؤلمُها … وارتكز «أحمد» على ركبتَيه وأخذ رأسها بين ذراعيه … والتصقَ رأسُها بصدرِه … وأحسَّت أنها تريد أن تبكي … فقد شعرت بسعادة أكبر من الفرح. سعادة طاغية … وقد أحاط بهما الصمت الشامل …
قال «أحمد»: ماذا حدث؟
وروت له بسرعة ما جرى بينها وبين «عميد» … والمعلومات القليلة التي حصلت عليها منه … ونسي «أحمد» عواطفه، وعاد للواقع، إنهم مُحاصَرون في وادي الموت بين سلاسل جبال تيبستي الموحشة … وقد أزالت سيول الأمطار العلامات التي كانوا يَعتمدون عليها في العودة … وربما كانوا الآن محاطين بعشرات من الطوارق مُنبثِّين بين الصخور يَستعدُّون للانقضاض عليهم بين لحظة وأخرى.
وربما كانت القوة الخفية تستعدُّ الآن للانقضاض عليهم … وسحب ذراعَيه وأمسك بقدمها الملتوية، وفي هذه اللحظة ظهرت «زبيدة»، وأسرعت تَحتضِن «إلهام»، وترك لها «أحمد» مهمَّة معالجة قدم «إلهام»، ووقف وأخذ ينظر حوله. ورأى الطارقيَّين اللذَين وقَعا، وقرَّر أن يتأكد إذا كان أحدهما «عميد». وأسرع إليهما. لم يكن «عميد» بينهما، ولم يتردَّد «أحمد» … أخذ يُفتِّشهما بدقة لعله يَعثُر معهما على شيء يُنير الطريق في مصيدة جبال تيبستي الموحشة.
كانا مسلَّحَين ووضَعَ كلٌّ منهما في جيبه كمية من الدخان … ولدهشته الشديدة وجد مع كلٍّ منهما أيقونة مستديرة معلَّقة في الرقبة بسلسلة من الذهب الخالص … وفتح «أحمد» إحدى الأيقونتَين … ووجد فيها صورة لسيدة جميلة قد وضَعَت على رأسها تاجًا من الذهب والجواهر … وفتح الأيقونة الأخرى … ووجد نفس الصورة … هل هذه السيدة الملكة هي زعيمة القوة الخفية؟!
وفحص الأيقونتَين فحصًا دقيقًا … ووجد على ظهرها كتابة بلغة لا يَعرفها … وليست بالتأكيد إحدى اللغات اللاتينية … فالأحرف مختلفة … وعاود التفتيش ثانيةً ولكنه لم يجد شيئًا آخر … ولكنه أثناء التفتيش شاهَدَ على ذراع أحد الرجلين وشمًا يُمثِّل نفس السيدة بتاجها الملكي … وعلى ذراع الرجل الآخر وفي نفس المكان وجَدَ نفْس الوشم لنفس الملكة.
عاد «أحمد» إلى الفتاتَين … كانت «زبيدة» قد دلَّكت قدم «إلهام» تدليكًا جيدًا … وربطتها … واستطاعت «إلهام» أن تقف وتسير مع عرج خفيف … وأخذوا يهبطون الوادي للوصول إلى بقية الشياطين.
كان «بو عمير» و«مصباح» و«هدى» قد أخرجوا جميع مواد التموين من السيارات الثلاث وكوَّموها جانبًا … وأخذوا في محاولة إصلاح سيارةٍ واحدةٍ بنقْل قِطَع غيار من السيارتين الأكثر عطبًا …
واستقبل الشياطين الثلاثة «إلهام» بحماسة وفرح، وتبادلوا العناق والقبلات … وتحدثت «زبيدة» عن نتيجة المعركة … وكيف استطاعت هي و«أحمد» اصطياد اثنين من الطوارق … وهرب الثالث.
قال «أحمد»: إنَّ الطارقيَّ الذي هرب هو «عميد بن شعبان».
بو عمير: ولماذا لم تُطاردُوه؟
أحمد: إن المطاردة في هذه الجبال لا نتيجة لها … وربما تكون نتيجتها الوحيدة أن يُصاب أحدنا أو يموت … فهؤلاء الطوارق يعرفون الجبال جيدًا … وفي إمكانهم الاختباء والاختفاء واصطيادنا. ونحن لا نعرف إذا كان «عميد» وحده أم معه آخرون غير اللذَين سقَطا.
مصباح: وما هي خطوتنا التالية؟
أحمد: هذا ما أريد أن نَعقِد اجتماعًا لأجله.
زبيدة: من فضلكم بعد أن نتناول إفطارنا!
وقامت «زبيدة» و«هدى» بإعداد الإفطار … بينما جلست «إلهام» ترتاح … وبعد أن انتهوا من تناول إفطارهم قال «أحمد»: إن المعلومات التي حصلت عليها «إلهام» على ضآلتها ذات أهمية عظمى بالنسبة لنا … ففي مكان ما قريب واحة مفقودة يعيش أهلها حياةً غنية تحت سيطرة القوة الخفية … وهذا ما نستنتجه من حديث «عميد» عن الحياة الجميلة والمجوهرات التي وعد «إلهام» بها. ثانيًا إن هذه الواحة لها مدخل موجود في وسط الجبال وهو مخفيٌّ بمهارة … ثالثًا إن هؤلاء الطوارق يدينون بالولاء لملكة هذه صورتها.
ومدَّ «أحمد» يده بالأيقونتَين اللتين عثر عليهما مع الطارقيَّين … وأخذ الشياطين يتأمَّلون الصورة في دهشة.
وعاد «أحمد» يقول: إننا مُعرَّضون لمخاطر كثيرة … منها ألا نستطيع الخروج من هذا الوادي الذي تُحاصرُه الجبال، وتنفد مواد التموين … ونموت جوعًا … ومنها أن يُحاصرَنا طوارق أكثر منا عددًا حتى تنفد ذخيرتنا …
وسكت «أحمد» لحظات ثم قال: وهناك الخطر الأكبر … وهو القوة الخفية التي أعتقد أنها قوة علمية هائلة … فنحن لم ننسَ أن هناك جهازَ تشويش يجعل استخدام اللاسلكي غير مُمكن … وهذا يعني وجود أدوات عِلمية متطوِّرة … هي التي تجعل القوة الخفية قادرةً على السيطرة على هذه المنطقة من العالم، وتمنع أيَّ جهود أو محاولات تُبذَل للكشف عنها.
كان الشياطين الستة يجلسون قرب مجموعة من الصخور الوردية … وبجوارهم نبعُ ماء تكوَّن من مياه الأمطار … كانت «هدى» تنظر في صفحة المياه … وكان «أحمد» يستعدُّ لاستئناف حديثه عندما قالت «هدى» فجأةً ولكن بصوت هادئ: لا تتحرَّكوا من أماكنكم!
بدت الدهشة الشديدة على وجوه الشياطين الخمسة … ولكنهم بقوا ساكنين … ومضت «هدى» تقول: إنني أرى على صفحة المياه شخصًا يتحرَّك من بعيد … إنه شبحٌ أبيض.
قال «بو عمير»: أحد الطوارق؟
هدى: إنه فوق رءوسنا تمامًا … وهو يَحمل بندقية.
أحمد: لا أظن أنه سيطلق الرصاص … لأنه قد يُصيب واحدًا منا، ثم نصطاده نحن … إنه سيحاول إرهابنا … دعُوه يُحاول فهو لا يعرفنا.
ولم ينتهِ «أحمد» من كلامه حتى سمعوا صوت «عميد» يقول: ارفعُوا أيديَكم جميعًا! … إن أيَّ حركة معناها قتل واحد منكم.
قال «أحمد»: ارفعوا الأيدي.
وارتفعت اثنتا عشرة يدًا إلى فوق … وأخذ الطارقيُّ الطويل القامة يَقترب وهو يسدد بندقيته السريعة الطلقات إليهم … وعندما وقف كانت «هدى» أقرب الشياطين إليه، وفكرت بسرعة، ورفعت عينَيها إلى «أحمد»، ولكن نظرة تحذير لها جعلتْها توقف تنفيذ ما فكَّرت فيه.
قال «عميد» بصوت عميق: لقد قضيتُم على اثنين من زملائي … وتلك جريمة لا يُمكن غفرانها … إنكم مقضيٌّ عليكم بالفناء … سواء اليوم أو غدًا، فلم يدخل وادي الموت شخصٌ وخرَج منه … وقد سبقكم كثيرون.
كان هذا أول تصريح من «عميد» بحقيقة ما جرى لمَن سبَقَهم من بعثات.
وقال «عميد»: تعالَي هنا!
كان يوجه حديثه إلى «إلهام» ومضى يقول، وهو يضَع يده على الجرح الذي في وجهه: لقد خدعتِني مرةً ولن تخدعيني مرة أخرى!
وتقدمت «إلهام» بهدوء، ومدَّ الطارقي يده الطليقة وجذبها بعنف، وأدرك الشياطين ما ستفعله «إلهام» فانطرحوا أرضًا على الفور … لأنَّ «إلهام» تظاهرَت أن الجذبة قد أفقدتها التوازن وسقطت فوق «عميد» فاختلَّ توازنه هو الآخر … وفي اللحظة التالية كانت «هدى» قد طارت في الهواء وضربت الطارقيَّ الجريح بقدمها في رأسه ضربة قاسية ردَّد الصمت صداها كأنها طلقة مكتومة …
وسقط الرجل على الأرض وهو يُطلق الرصاص … ولكن في اللحظة التالية كان أسيرًا بين أيدي الشياطين الذين انتزعوا منه البندقية، وأحاطوا به.
أمسك «أحمد» البندقية يتأمَّلها … كانت من نوعٍ مُمتاز لم يَسبق له أن رآه.
وقال «أحمد» موجهًا حديثه إلى «عميد»: هل أنتم الذين تصنَعُون هذه البنادق؟!
رد «عميد» بصوت غاضبٍ يقطر حقدًا: لا تُحاول أن تَحصل منِّي على أية معلومات.
أحمد: لعلَّ من الأفضل لك أن تدلَّنا على الطريق إلى واحتكم المجهولة!
ابتسم «عميد» وهو يتحسَّس وجهه الجريح وقال في تصميم: ذلك شيء لن يحدث أبدًا.
ساد الصمت بعد هذا الحوار القصير … وكانت عيون الشياطين تتأمَّل الطارقيَّ وهو يقف ينفضُ عن ثيابه ما علقَ بها من رمال … وعاود «أحمد» المحاوَلة قائلًا: إننا لسْنا مثل مَن سبَقنا من البعثات … ومن الأفضل لك أن تتكلَّم … لقد فشلتَ أنت وزميلاك في القضاء علينا.
عميد: سيأتي غيرنا … فمَوعِد عودتنا إلى الواحة قد اقترب … وما لم نَعُد في موعدنا فسوف يَخرُجون للبحث عنَّا … وستكون معهم أسلحة أشدُّ فتكًا … وسيكونون أكثر منكم بكثير … إنني أنصحكم بالاستِسلام الآن … وأعدكم أن آخذكم جميعًا إلى الواحة … وأترك للقيادة حرية التصرف معكم.
كان عرضًا مُغريًا … وبدأت عيون الشياطين تَلتقي في محاولة للتفاهم … وكان واضحًا أنهم ميَّالون إلى قبول العرض … ولكن شيئًا في نفس «أحمد» صدَّه عن القبول … إنهم بفرض أن «عميد» يَصدُقُهم القول سيدخلون إلى الواحة بلا أسلحة … ولعلَّهم يتمكَّنون من معرفة كل شيء عن القوة الخفية … ولكن ما الفائدة؟ … إنهم لن يَخرُجوا من الواحة مرةً أخرى إذا ظلُّوا أحياء … وستبقى القوة الخفية لغزًا بلا حلٍّ في نظر العالم الخارجي.
وفي هذه اللحظة حصل شيء مدهش … شاهد الشياطين الكلب «جولد» يُقبل مترنحًا من حيث تركه «أحمد» و«زبيدة» في الصباح … وكان يمسك بفمه حبلًا طويلًا في نهايته جمل مربوط … وبعدَه مباشرةً ظهر جملان آخران يَسيران خلف الجمل الذي يشدُّه الكلب «جولد».
وقال «مصباح» بانفعال: نستطيع الآن أن نعرف طريق الواحة.
نظر إليه الشياطين فاستطرد «مصباح» الحديث قائلًا: إنَّ الجمال بالتأكيد تعرف طريقها إلى الواحة.
ولمعَت الفكرة في أذهان الشياطين جميعًا … وتوتَّر وجه «عميد» بالغضب …