خطر في كل مكان
ظلَّ «جولد» يتقدم وهو يمسك بمِقوَد الجمل حتى وصل إلى الشياطين. وتقدَّم «بو عمير» منه وأخذ يُربِّت على ظهره، بينما أسرعت «هدى» بإعداد وجبة دسمة له … وكان ذهن «أحمد» يعمل بسرعة رهيبة … إن فكرة استخدام الجمال الثلاثة في دخول الواحة المفقودة فكرة مُمتازة على ما فيها من مخاطر … بل هذه فعلًا الطريقة الوحيدة … فقد كان من الواضح أن «عميد بن شعبان» لن يتحدَّث … ولن يقول لهم عن طريق المدخل السرِّي للواحة المُختفي بين الجبال.
طلب «أحمد» من «بو عمير» أن يشدَّ وثاق «عميد» ويُخفيَه عن الأعين ثم يُجرِّدَه من ثيابه، ثم طلب من «مصباح» أن يُسرعَ بإحضار ثياب الطارقيَّين الآخرين.
لقد حدَّد الفكرة في ذهنه، سيلبسون ملابس الطوارق الثلاثة ويَدخُلون الواحة … وبعد ساعة كان «أحمد» و«بو عمير» و«مصباح» قد لبسوا ملابس الطوارق البيضاء وتلثَّموا مثلهم تمامًا، حتى إن «إلهام» قالت: لم يبقَ إلا أن تُحاوِلُوا أسرنا لتكونوا من الطوارق الحقيقيين.
رد «أحمد»: إنني أسيرك يا «إلهام» … فكيف آسِرُكِ؟!
ابتسمت «إلهام» وقالت: أتمنَّى أن تعودُوا ظافرين!
أحمد: سنضع علامات على طريقنا … وعسى ألا ينزل السيل مرةً أخرى.
وحمل الشياطين أسلحتهم. ومعها كمية من الديناميت والقنابل اليدوية، ثم أطلقوا أَعِنَّة الجمال فمضَت في طريقها … بينما انهمكت الفتيات الثلاث في إعداد السيارة الثالثة.
مضت الجمال الثلاثة تهتزُّ أمامًا وخلفًا … وقد كانت تجربة جديدة بالنسبة ﻟ «أحمد» حتى أحسَّ بعد نصف ساعة أنه مُتعَب وأن معدته قد انقلبت، ولكنه تمالك نفسه … بينما كان «مصباح» و«بو عمير» يمضيان دون مشقة … فقد كانت لهما تجارب في ركوب الجمال … مضت الجمال تشقُّ طريقها بين الصخور والجبال ببراعة … وكان واضحًا أنها تعرف طريقها جيدًا … ومضت الساعات … حتى ظنَّ «أحمد» أن الجمال قد تكون ضلَّت طريقها؛ فقد كان حديث «عميد» إلى «إلهام» يؤكد أن الواحة المفقودة قريبة.
وفجأةً ظهر في وسط الجبال القاحلة شريط من الأشجار … وأدرك الثلاثة أنهم اقتربوا … ثم شاهدوا شلالًا من المياه يتدفَّق من أعلى الجبل.
ولدهشتهم الشديدة وجدوا الجمال الثلاثة تقترب من الشلال حتى أصبحت بجوار جانبه الأيمن، وزاد تناثُر المياه … واشتد صوت الشلال حتى أصبح يصمُّ الآذان، ولكن الجمال الثلاثة مضت حتى أصبحت بجوار مسقط الشلال تمامًا، ثم دخلت خلف المياه، ووجد الشياطين الثلاثة أنفسهم في نفق طويل قد أضاءته أضواء مُختفية في الصخور … وأدركوا أنهم دخلوا الواحة المفقودة فعلًا!
مضت الجمال في النفق الذي كان يتعرَّج كالثعبان … وبدأت تشيع فيه رائحة برتقال قريب … وأمسك كلٌّ منهم بمسدسه تحت ثيابه الواسعة واستعدُّوا للاحتمالات القادمة … وبدا ضوء النهار من فتحة النفق البعيدة … ثم اجتازت الجمال الثلاثة مدخل النفق المُضاء … ووجد الثلاثة أنفسهم في مدخل حديقة رائعة … انتشرت فيها أشجار الفاكهة الكثيفة …
كانت اللحظات القادمة هي أخطر اللحظات …
ماذا عليهم أن يفعلوا بعد ذلك؟ هل تقف الجمال في مكان معيَّن أم عليهم أن يقودوها هم؟ وإلى أين؟
كانت أسئلة كثيرة بلا إجابة … وزاد توتُّر أعصابهم عندما لم يقابلوا أي شخص … ثم اجتازت الجمال الحديقة التي كانت ترويها عشرات من النافورات الصناعية … ثم وجدوا جدارًا من الصخر يرتفع نحو ثلاثة أمتار … وفي جانبٍ منه بابٌ من الخشب المصفَّح بالحديد … وظهر لأول مرة رجل في ثياب الطوارق فوق برج من أبراج السور … وأخذ يَرمقُهم من بعيد وقد ظهر أمامه مِدفَع رشَّاش … يمكن أن يَحصدهم في ثانية واحدة … ولكن الرجل غابَ عن مكانه … ثم شاهَدُوا الباب الضخم يُفتَح … وعرفوا أنه هو الذي يتولى عملية الفتح والإغلاق.
اجتازوا الباب ودخلوا … لقد أصبحوا الآن في قلب الخطر … الحظ وحده وشجاعتهم يمكن أن يقودا خطواتهم … وكانت مفاجأةً لهم أن وقعت عيونهم على مدينة حديثة … الشوارع مرصوفة بالطوب … والمنازل مبنية في أحضان الجبل الشاهق الذي كان يُحيط بالواحة من جميع الجهات ويُخفيها عن العالَم تمامًا.
وفي وسط الشارع الرئيسي الذي يشقُّ الواحة كان هناك مبنًى ضخمٌ مُرتفِع مُشيَّد من المعدن اللامع … وعلى سقفه شيء يُشبه الطبق الواسع … تبلغ استدارته أكثر من مائة متر … ولم يكن هذا هو المبنى الوحيد على هذا الأسلوب … فبعده تكرَّر المشهد … المبنى المعدني اللامع والطبق الكبير … وعلى الفور فكَّر «أحمد» أن هذا المكان يَستخدِم الطاقة الشمسية كمُولِّد للطاقة …
ومضت الجِمال تشقُّ طريقها … ومن المدهش أنها بدأت تَجري أسرع مما كانت خلال الطريق … وأدرك «أحمد» أنها جائعة … وأنها تعرف المكان الذي ستقف عنده …
وظهر بعض المارَّة هنا وهناك … كانت النساء سافرات بلا أي شيء يُغطِّي وجوههن … بينما كان الرجال مُلثَّمين تمامًا … ولكن عندما اقتربوا من المبنى المعدني ظهر رجل يسير وهو يرتدي الملابس الأوروبية … وعلى رأسه قبَّعة من القش تَقيه حرارة الشمس اللافحة.
كانت الجمال تجري، وكان على الشياطين الثلاثة أن يأخُذُوا قرارًا هل ينزلون الآن؟! أم ينتظرون حتى تتوقف الجمال … وقرَّر «أحمد» أن يتوقفوا في أول مكان يقلُّ فيه المارة الذين لم يكونوا على كل حالٍ إلا بضع عشرات … وبين المبنى المعدني الأول والثاني كان المكان فارغًا … وأشار «أحمد» الذي كان في المقدمة إلى «مصباح» و«بو عمير» فتوقَّفا … لم يكن «أحمد» يعرف كيف يطلب من الجمل أن يَبرك … ولكن «مصباح» و«بو عمير» كانا قد نزلا، وأقبلا مُسرعَين. وقال «مصباح» ﻟ «أحمد»: الكزْه في خاصرته.
وضرب «أحمد» الجمل بكعب حذائه بجوار فخذه، وسرعان ما توقف الجمل، ثم نزل على ركبتيه الأماميتَين أولًا ثم أتبعهما بالخلفيتَين … ونزل «أحمد» … كان مرهقًا جدًّا من أثر الاهتزاز حتى أحسَّ أنه لا يستطيع الوقوف على قدمَيه … لم يكد الشياطين الثلاثة ينزلون حتى انطلقت الجمال تجري … وقال «أحمد»: من الواضح أنها تعرف طريقها.
مصباح: إنه عالَم غريب!
بو عمير: قطعة من الحضارة في الصحراء … ثم هذه المباني العجيبة التي تُشبه الأطباق!
أحمد: إنها أجهزة لاستخدام أشعة الشمس في توليد الطاقة …
مصباح: ما هي خطوتنا القادمة؟
أحمد: إنه سؤال من الصعب الإجابة عليه … إن سكان هذه الواحة كما يتَّضح من المنازل لا يقلُّون عن خمسمائة عدا هذه الأبنية المعدنية، ونحن لا نَستطيع أن نتصدَّى لكل هؤلاء!
مصباح: هل نَنسحِب عائدين؟!
أحمد: حتى هذا لم يَعُد مُمكنًا!
بو عمير: تعالوا نسير حتى لا نَلفِت إلينا الأنظار.
ومشوا في الشارع الرئيسي … كانت هناك فيلات فاخرة مبنية على الجانبَين … ولاحظ الشياطين أنها تختلف عن المساكن المبنية على سفوح الجبال المحيطة بالواحة.
وقال «مصباح»: إنَّ الواضح أنها منازل حكومة هذه الواحة!
ضحك «أحمد» رغمًا عنه وقال: حكومة؟! … قُلِ العصابة التي تحكم الواحة.
وفجأةً دوَّى نفيرٌ عميق … دوى ثلاث مرات متَّصلة ثم سكَت … ولاحظ الشياطين أن حركةً نشيطة قد بدأتْ تدبُّ في الشوارع … وبدأ عدد كبير من الناس يظهر هنا وهناك، ولاحظ الشياطين الثلاثة أن الناس جميعًا يتَّجهون في اتجاه واحد … وفكَّرُوا … هل يتَّجهون إلى حيث يتجه الناس … أم ماذا يفعلون؟
وفي تلك اللحظة ظهر طفل صغير في ملابس الأعراب المزركشة يَمشي وبجواره كلب صغير … واتجه الكلب إلى الشياطين الثلاثة وأخَذَ يدور حولهم وهو يَنبح … وناداه الصغير ليعود … ولكن الكلب العنيد ظلَّ ينبح … وأدرك الشياطين الثلاثة أن أمرهم قد يُفتضح فأخذوا يُلاطفون الكلب … واقترب الصغير مُعتذرًا وهو ينهر الكلب … ثم وجه حديثه إلى الشياطين الثلاثة قائلًا وهو يبتسم: لعله يدعوكم للذهاب إلى الاجتماع.
قال «أحمد» ملاطفًا الطفل: أي اجتماع؟
رد الطفل بدهشة: ألم تسمعُوا النفير … إنه يدعو جميع الطوارق للاجتماع مع أعوان الدكتور.
تظاهر «أحمد» بالدهشة وقال: إنَّني لم أسمعه.
الولد: لقد أُطلق نفير الاجتماع منذ دقائق قليلة ليَجتمع كل الطوارق فورًا.
أحمد: ولكن لماذا؟
الطفل: سمعت أبي يقول إنَّ ثلاثة من الطوارق دخلوا المدينة ولم يتوجَّهُوا إلى مكتب الأمن لتقديم أنفسهم بعد عودتهم من الخارج … إنَّ الذين يخرجون من الواحة قلائل جدًّا … ولا بد عند عودتهم من الذهاب إلى مكتب الأمن.
وأمسك الطفل بكلبه الصغير وجرَّه بعيدًا … وأدرك الشياطين الثلاثة أنهم في مأزق خطير … فبعد قليل يَنطلق حراس الواحة … بل كل سكان الواحة للبحث عنهم … ولم يكن أمامهم إلا طريقان … إما أن يختفوا في أقرب مبنى حتى لا يَلفِت وجودهم الأنظار … وإما أن ينضمُّوا للذاهبين إلى الاجتماع!
دار هذا الخاطر في رءوسهم جميعًا في نفس الوقت، وقال «بو عمير»: أقترح أن نختبئ فورًا … إن انضمامنا إلى الاجتماع سيَكشف أمرنا بعد أن يُنادُوا الأسماء … ولعلَّ بعض أصدقاء «عميد بن شعبان» سيَعرفونَنا من أول لحظة.
أشار «أحمد» إلى المبنى الرئيسي في المباني المعدنية وقال: سنَدخُل هنا.
وأسرعوا يمشون في اتجاه المبنى … ووجدوا بابًا جانبيًّا مفتوحًا فدخلوا منه ووجدوا أنفسهم في مكتبٍ أنيق … أبوابه من الزجاج السميك … ولم يكن هناك أحدٌ.
أغلقوا الباب خلفهم وأداروا رءوسهم هنا وهناك يفحصون المكان … كان معملًا فخمًا يتوسطه مُولِّد ضخم للطاقة … وكان المكان خاليًا … ومن الواضح أنه يُدار أوتوماتيكيًّا.
فكَّر «أحمد» لحظات ثم قال: سنقوم بوضع عبوات ناسفة في المكان … محدَّدة بمدة ساعة واحدة …
مصباح: وبعدها؟
أحمد: سنُحاول نسف أكبر مجموعة من الآلات لإثارة الفزع في المكان حتى نتمكَّن من الهرب … لقد عرفنا ما يكفي من المعلومات عن الواحة المفقودة … والقوة الخفية … ولعلَّ بعثة أخرى تستطيع إكمال مهمتنا.
ووضع «مصباح» حقيبة الديناميت على الأرض … وبدأ هو و«بو عمير» يُجهِّزون العبوات الناسفة … بينما وقف «أحمد» يَحرسهما … وانتهى الاثنان من تجهيز العبوات الناسفة واتجها إلى المولدات الضخمة … عندما فُتح باب المكتب فجأةً ودخل رجل أشقر يَرتدي الملابس الإفرنكية وعلى عينَيه نظارة سوداء وفي يده مسدَّس شهَرَه في وجوههم.