مقدمة
لن تخرج نظرية تجريبية عن ظاهرة الوعي ببساطةٍ هكذا من البيانات العصبية وحدَها. بل ستكون نتاج أدمغةٍ تصوغ فرضيات تستند إلى علم النفس وعلم الأعصاب وعلم الوراثة والنظرية الحاسوبية وعلم السلوك.
في مقال صدر في عدد يناير عام ٢٠١١ من مجلة «ساينتفك أمريكان»، بعنوان «مائة تريليون وصلة»، ذكر الكاتب العلمي البارز كارل زيمر ما يلي:
لنفترضْ أنَّ لديك خليَّة عصبية واحدة في طبق بِتري، تنبض وحيدةً منعزلة. وأنها من وقتٍ إلى آخر تُصدِر موجة من التيار الكهربي، الذي يسري بطولها. إذا أوصلتَ نبضات كهربائية إلى أحد طرفَي الخلية، فربما تستجيب بزيادة الجهد الكهربائي الصادر عنها. وإذا غمستَ الخلية العصبية وسط مجموعةٍ متنوعة من النواقل العصبية، يُمكنك أن تُغيِّر قوة موجاتها الكهربية وتوقيتها. غير أنَّ الخلية العصبية لا تستطيع فعل الكثير وهي قابعة وحدَها في طبقها. لكن إذا ربطتَ ٣٠٢ خلية عصبية معًا، فستتحول تلك الخلايا إلى جهاز عصبي يستطيع إبقاء دودة الربداء الرشيقة نابضة بالحياة؛ لأنه سيستشعر البيئة المحيطة بها، ويتخذ القرارات، ويُصدر أوامر إلى جسمها. وإذا ربطت مائة مليار خلية عصبية معًا باستخدام مائة تريليون وصلة، فعندئذٍ سيكون لديك دماغ بشري قادر على فعل ما هو أكثر من ذلك بكثير جدًّا.
غير أنَّنا ما زلنا نجهل الكثير عن الكيفية التي تطورت بها عقولنا من مجموعة خلايا عصبية. فما زال علم الأعصاب — رغم كل ما توصَّل إليه — يفتقر إلى المقومات اللازمة للإجابة عن سؤال كهذا. يُكرِّس بعض علماء الأعصاب حياتهم المهنية لدراسة آليات عمل خلايا عصبية مُفرَدة. فيما يختار بعضهم الآخر نطاقًا أوسع، كأنْ يدرسوا الطريقة التي يُشفِّر بها الحصين — وهو عنقود من ملايين الخلايا العصبية — الذكريات. وقد يُقرر علماء آخرون دراسة الدماغ من منظورٍ أوسع وأوسع، كأن يرصدوا كل المناطق التي تنشط عند تنفيذ مهمةٍ مُعينة، كالقراءة أو الشعور بالخوف مثلًا. لكن القليل منهم فقط حاولوا دراسة نطاقات الدماغ العديدة في آن واحد. ويرجع أحد أسباب تردُّد العلماء إلى هول حجم هذا التحدي. فالتفاعل بين بضع خلايا عصبية فقط قد يكون شبكة شديدة التشابك من حلقات التغذية المرتدة. وإذا أضفت مائة مليار خلية عصبية إلى المسألة، فستتحول المهمة إلى صداع هائل.
فبعد سنتَين أو ثلاثٍ من نشر كتاب «بوتقة الوعي»، المُتشعِّب والقائم على علم الأعصاب، بدأتُ أشعر بأنني لم أُسلِّط تركيزًا كافيًا على أشد المسائل إثارةً للاهتمام فيما يتعلق بوجود الإنسان، ألا وهي طبيعة الإرادة الحرة وحقيقتها، ومُمارستنا لها. ولأني أُومِن بأن العلم هو السبيل الوحيد إلى فهم العالَم ونواميسه، أزعجتْني التناقُضات المستعصية التي تبدو كامنة في مسألة الإرادة الحرة. إذ يبدو مُستحيلًا أن تتدخَّل الإرادة الحرة في مُجرَيات عالَمٍ كلُّ أحداثه محكومة بأحداثٍ سابقة. ومن ثَم، فإمَّا أننا موهومون بأننا أحرار، أو أنَّ العالم الذي نعيش فيه قائم على ثنائية «العقل والجسد»، حيث تُوجَد قوًى فاعلة غير مادية، كعقول مُستقلة عن أي أسباب سابقة، يمكن أن تضطلع بدورٍ فارق، وتؤثر في النتائج. يُعَد هذا بمثابة شرخٍ عميق يُهدِّد استيعابنا للمسألة. فالعلم العاجز عن تفسير التجربة الذاتية، والعقل الذي يُضطر إلى اللجوء إلى أوهام تخيُّلية لفهم تلك التجربة، وصلا إلى طريقٍ مسدود؛ والتحدِّي هو العثور على سبيلٍ لعبور ذلك الطريق.
تتمثَّل فكرة الكتاب الرئيسية في توضيح ماهية الاستقلال الوظيفي للدماغ المزوَّد بالعقل. إذ أشرحُ مكوناته الأساسية، وأُحدد الدور الذي تؤدِّيه في إدارة التجربة الحياتية البشرية عن طريق الآلية المُستقلة. وفي النهاية، أرجو أن يكون النموذج الذي أطرحه جديرًا بما قاله عالِم الفيزياء النظرية جون آرتشيبولد ويلر في سياقٍ آخر، حين تساءل قائلًا: «كيف كان للمسألة تفسيرٌ غير ذلك أصلًا؟ كيف كنَّا جميعًا عميانًا هكذا طَوال هذا الوقت؟»
تَجدُر الإشارة إلى أنَّ السعي وراء منظورٍ جامع مُتعدِّد التخصُّصات للمعرفة له أصول عميقة. وكان إرفين شرودنجر، في مقالة بعنوان «ما الحياة؟» نُشِرت في عام ١٩٤٤، هو أول من لفت الانتباه إلى أهميته المُلحَّة للفهم البشري. ومن ثَم، يمكن اعتبار هذا العمل تطبيقًا لنهجه في مجال العلاقة بين العقل والدماغ. وفيما يلي جزءٌ من مقالة شرودنجر:
لقد ورثنا من أجدادنا شوقًا شديدًا للمعرفة الجامعة الموحِّدة. بل إنَّ الاسم الذي يُطلَق على أعلى مؤسسات التعليم (أي الجامعات) بحدِّ ذاته يُذكِّرنا بأنَّ المنظور الجامع الشامل هو فقط الذي يُمنَح التقدير الكامل منذ القِدَم، وعلى مرِّ قرونٍ عديدة. لكنَّ تشعُّب فروع العلوم المتنوِّعة من حيث اتساعُ نطاقها وعُمق تفاصيلها في آخر مائة عام تقريبًا جعلنا نواجِه مأزقًا حقيقيًّا. إذ نشعر بأننا بدأنا الآن للتوِّ في الحصول على موادَّ موثوقةٍ لتجميعها معًا في كيانٍ شامل واحد. ومن ناحية أخرى، صار من المُستحيل أن يُلِم عقل واحد إلمامًا كاملًا بأكثر من تخصصٍ. ولئلَّا يضيع هدفنا الحقيقي إلى الأبد، لا أرى مخرجًا من هذا المأزق سوى أن يتجرَّأ بعض العلماء ويشرعوا في التوليف بين الحقائق والنظريات، حتى وإن كانت معرفتنا ببعضها ناقصة وغير مباشرة، وحتى لو عرَّضْنا أنفسنا للظهور بمظهر الحمقى.
إذا كان الوضع كذلك قبل نحو سبعين عامًا، فلا بد أنَّ المشكلة صارت متفاقمة بشدة في الوقت الحاضر، الذي يشهد تناميًا هائلًا في معرفتنا بمجالات مختلفة — من الفيزياء النووية وتصوير الدماغ، إلى علم الأحياء الجُزَيئي — بينما يضيق فيه نطاق تخصُّصاتنا، أليس كذلك؟ المفاجأة أنَّ المشكلة ليست متفاقمة إلى هذا الحد. فالرؤى المُستمَدة من كل مجالات الأبحاث العلمية تكشف تفاصيل جديدةً في المسائل القديمة، وتُتيح فرصة للإجابة عن أسئلة تتجاوز حدود التخصصات الفردية. ومن ثَم، لا يمكن للتخصُّصات الفردية — سواء علم الأحياء التطوري، أو علم الأعصاب، أو علم اللغويات — أن تتوصَّل، كلٌّ على حدة، إلى الحل الفريد للُّغز البشري، لكن إذا استُخدِمت قاعدة البيانات المُجمَّعة لهذه التخصُّصات استخدامًا حكيمًا، فسيُصبح الوصول إلى الحل أبسطَ بكثير. وقاعدة البيانات المُجمَّعة هذه هي التي مكَّنتني من استنباط تسلسل الأحداث الذي أدى إلى التطوُّر البشري الكبير والمفاجئ، وظهور الوعي التأمُّلي. فالاعتماد على المواد المُستمَدة من هذه التخصُّصات المترابطة، وإن كانت مختلفةً بعضُها عن بعض، يُتيح لنا التوصُّل إلى نموذجٍ يضمُّ الجوانب الذاتية والموضوعية المختلفة في نطاق العلاقة بين العقل والدماغ، فيكشف ترابُطها الخفي. إذ يُحدد النموذجُ الظروفَ التي أدَّت إلى هذا التغير المفاجئ الذي حوَّل الإنسان المُنتصِب إلى إنسانٍ عاقل، وبدأ فصلًا جديدًا من التطوُّر هيمَن عليه ذلك الكيان الناشئ؛ العقل البشري. فالاستقلال الوظيفي للعقل البشري هو الذي يجعلنا نُمسِك بزمام الأمور، ويهَبُنا القدرة على المشاركة في تحديد عواقب أفعالنا، ويُضيف بُعدًا بشريًّا إلى علم الأعصاب.
ذكر عالِم الأعصاب والمؤلِّف أوليفر ساكس ذات مرةٍ أننا ما زلنا لا نعرف حل ثلاثة ألغاز حتى الآن: «كيف بدأ الكون؟» و«كيف بدأت الحياة؟» و«كيف بدأ الوعي؟» ثم أضاف أنَّ أول لُغزَين يمكن التوصُّل إلى حلهما ذات يوم، لكن اللغز الثالث — وهو كيف بدأ الوعي؟ — قد يظل بلا حلٍّ إلى الأبد. وعلى ذِكر اللُّغز الأخير، فإن النموذج الذي أطرحه سيُوضح أنَّ الوعي قد بدأ حتمًا في اللحظةَ التي بدأت فيها الحياة. ذلك لأن الوعي — شأنه شأن الإدراك، الذي يُعَد السمة التي كانت سابقة له في الحيوانات ولا تنطوي على تفكير — هو المصدر المعلوماتي للاستجابة السلوكية لدى الدماغ. بعبارةٍ أخرى، الوعي ليس «صفة»، ولا «مبدأً كونيًّا»، ولا «ترتيبًا للدارات العصبية» مُكتسب حديثًا، بل هو عنصر لا غِنى عنه في آلية عمل النظام الحي. ومن المرجَّح كذلك أنَّ الحياة، أي اللُّغز الثاني، كان من المُقدَّر لها حتمًا أن تنشأ وتتطوَّر لحظةَ بدأ الكون، وبدأت عملية تعقيده. بذلك يتبقَّى لنا اللُّغز الأول لنتفكَّر في حلِّه، غير أنَّ توضيح لغز العلاقة بين العقل والدماغ سيجعل المسألة أسهلَ علينا ممَّا كانت قبلُ، حين كان كل المتاح لدينا مجرد خرافات.
أعتمد في متن هذا الكتاب على كتابي السابق، وعلى رؤى أناسٍ آخرين وكتاباتهم. إذ أملكُ تحت تصرُّفي مخزونًا معرفيًّا ثريًّا لا يَنضب، وهذه نعمة أمتنُّ لها. يَكمُن سر إيجاز الكتاب في أنه لا يتناول سوى النقاط الضرورية. إنه مُبسَّط إلى أقصى حدٍّ يسمح به تعقيد الموضوع. يتمثَّل أساسُه المنطقي في نهج شرودنجر، ويكمُن إثبات صحته في دقة النموذج المقترَح. ويهدف الكتاب إلى إظهار ترابُطات كلِّ قِطع الأحجيَّة اللازمة لحلِّ اللغز، والأطروحة الواردة فيه تؤكِّدها كل التخصُّصات التي يرتكز عليها. دعني أؤكد مرةً أخرى أن النموذج ليس اختراعًا، بل اكتشاف. إذ يعتمد على الروابط بين التخصُّصات المُتعددة التي لا تتصدَّر اهتمام الأوساط الأكاديمية دائمًا، لكنها — إذا جُمعت معًا — تكشف عن منظورٍ واحد يُلقي الضوء حتى على موضوعاتٍ خلافية بين أهل التخصُّص، كطبيعة اكتساب اللغة الأولى لدى الأطفال مثلًا. وترديدًا لتعليق فريد هويل (١٩٨٣) الذي يصف الكون بأنه «حلْقة مُحكَمة يعتمد وجود كل شيءٍ فيها على كل الأشياء الأخرى»، فإن الكائن البشري أيضًا — بكل تعقيده — نظام مُتماسك بإحكام. ورحلة وصوله إلى حالته الحاليَّة قصة رائعة، وهذا ما يدور حوله الكتاب.
الوعي ليس «صفة»، ولا «مبدأً كونيًّا»، ولا «ترتيبًا للدارات العصبية» مكتسب حديثًا، بل هو عنصر لا غِنى عنه في آلية عمل النظام الحي.
نُوجِز فيما يلي الخطة التي ينتهجها الكتاب. النموذج الذي أطرحه عبارة عن منظورٍ واحد ذي جوانب متشابكة، يؤكِّد بعضها بعضًا. وفي ضوء هذا النموذج، سأُغيِّر كلمةً واحدة فقط في ملاحظة دانيال دينيت (١٩٩١) الفارقة التي حثَّتني على البحث عن إجاباتٍ تتجاوز الفهم التقليدي:
ألغاز العقل موجودة منذ فترة طويلة، ولم نُحرِز في فَهمها سوى تقدُّمٍ ضئيل جدًّا، لدرجة أننا نُرجِّح وجود شيءٍ ما نُسلِّم كلنا بأنه بديهي، لكنه ليس كذلك.
الكلمة التي سأُغيرها في هذه الجملة المُحفِّزة للفكر هي كلمة «شيء»؛ لأنَّ معظم الأشياء التي نُسلِّم بأنها بديهية ليست صحيحةً إطلاقًا، كما سنرى. وأخص منها ما يلي:
-
الوعي البشري — على خلاف الإدراك — ليس ظاهرة تتَّسِم بالوحدة، بل نتاج عملية مركَّبة (انظر الفصل الثاني).
-
العقل ليس كيانًا عابرًا، ولا نسخةً مُطوَّرة من وظيفةٍ دماغية، بل نظام عصبي مُحدَّد بوضوح ومعتمِد على اللغة في الدماغ الواعي (انظر الفصل الثامن).
-
اللغة ليست نظامًا لتواصُل الحيوانات، بل استجابة دماغية (مستقلة) مقتصرة على البشر، وهذه الاستجابة يُوجِّه النظامُ بها نفسَه، ويكوِّن تفكيره الواعي (انظر الفصلين الثالث والرابع).
-
التراكيب اللغوية٤ ليست صفةً متأصِّلة في اللغة، لكنها تُحدَّد وَفق مصفوفة العالَم الحقيقي الزمانية المكانية والسببية، التي تُعَد اللغة مقيَّدة بالتعبير عنها (انظر الفصلَين الخامس والسابع).
-
لا يكمُن سر التطور الكبير من الإنسان المُنتصب إلى الإنسان العاقل في ازدياد حجم الدماغ، بل يرجع إلى إعادة تنظيمٍ في دماغ الرضيع البشري جعلَه يحتفظ بسماتٍ طفولية حتى مرحلة البلوغ، ويتَّسِم بالمرونة العصبية. وعملية إعادة التنظيم هذه هي التي أعطت مناطقَ الكلام القُدراتِ الحركيةَ، ومكَّنت الدماغ من إدارة نفسه (انظر الفصل الثالث).
-
شعورنا بالإرادة الحرة ليس نِتاج امتلاكنا لكيانٍ فاعل مُسبِّب وغير مُسبَّب، بل نتاج إدراكنا الواعي للدور الفاعل للعقل البشري في صُنع القرارات في جذع الدماغ٥ (انظر الفصل العاشر).
-
الذات ليست بناءً اجتماعيًّا ولا كيانًا فاعلًا يسكن داخل الجسد، لكنها شعور بالقدرة الخلَّاقة أو الفاعلة يولِّده الحسُّ العميق٦ بالكلام أو التفكير (انظر الفصل الحادي عشر).
-
وأخيرًا، أُشدِّد في الفصل الثالث عشر على أنَّ النظام الكوني الذي أنتَجَنا — أي المُتفردة التي توسَّعت٧ — يُجبِرنا على البحث عن إجاباتٍ كامنة بداخلِه.
هكذا أوردتُ لكم الخطة التي سيسير عليها الكتاب. وأودُّ الإشارة هنا إلى ما ذكرَتْه عالمة الأنثروبولوجيا الشهيرة مارجريت ميد في زيارتها الأخيرة إلى أستراليا، حين سُئلت عن رأيها في كتاب رائجٍ آنذاك كان يتناول التأثير الذي سيقع على المجتمع من مُستقبل مزعزَع الاستقرار. لقد أجابت قائلة: «محتوى الكتاب لا يستحقُّ سوى فصلٍ واحد.» والآن بعدما كتبتُ هذا الكتاب غير التقليدي الذي يكتظُّ بالأفكار، ويتناول عددًا كبيرًا من الموضوعات، أتوقَّع أنها لو كانت سُئلت عن رأيها فيه، لقالت: «كل فصلٍ يستحقُّ أن يُفرَد له كتاب.»