الذات بين الحقيقة والخيال
غريب يتحدث إلى دوق ولينجتون: «أنت السيد سميث على ما أعتقد، أليس كذلك؟»
الدوق يرد: «إذا استطعتَ أن تعتقد ذلك يا سيدي، فيمكنك أن تعتقد أي شيء.»
يتَّسم النموذج الذي أقترحه بأنه عبارة عن منظور واحد ذي جوانب مترابطة، يؤكد بعضها بعضًا. ومن دون هذا النموذج، فلن نتمكَّن من تحديد ماهية الوعي والعقل والتطوُّر الكبير الذي أكسبَنا اللغةَ، ومصدر التراكيب اللغوية، والإرادة الحرة، وإدراك الذات، ولن نتمكَّن من توضيح هذه الأشياء.
لقد شرحتُ الوعي ومسائل متعلقة به في الفصل الثاني، حيث شاركتُ جيرالد إيدلمان (١٩٩٢) رأيه الذي قال فيه: «لن يُوجَد عِلم عن الكائن البشري إلى أن يُشرح الوعي بدلالة مصطلحات من علم الأحياء.» وأوضحت ماهية العقل والمُكوِّن البنائي الدماغي الذي يدعمه في الفصل الثامن، وتتبَّعتُ التطور الكبير من الإنسان المنتصب إلى الإنسان العاقل، ثم إلى الاحتفاظ بسماتٍ طفولية، وعرضتُ موجزًا لتطوُّر اللغة وعلاقة التراكيب اللغوية بسياق الواقع في الفصول الرابع والخامس والسابع. وأخيرًا، أوضحت في الفصل السابق أن شعورنا بالإرادة الحرة نابع من إدراك الدور الذي نؤدِّيه في التفاعل بين العقل وجذعِ الدماغ، مصدرِ صنع القرارات. والآن حان الوقت كي نُلقي نظرةً أقرب على الذات ومسائل مرتبطة بها.
إنَّ التجربة التي نُطلق عليها «الذات» ليست بنيةً اجتماعية اعتباطيًّة، وفي الوقت نفسه ليست كيانًا غير مادي، بل هي نتاج طبيعي لممارسة الدماغ المزود باللغة لعمله الروتيني. فحين نتحدث أو نفكر، فإننا نؤدِّي فعلًا ماديًّا قابلًا للقياس تظهر نواتِجه فورًا في الكتابة الداخلية، أي إنها تُسجَّل في وعينا. تنقسِم هذه النواتج إلى صور وأفكار من جهة، والإحساس بذاتٍ تُولِّد هذه الصور والأفكار من جهةٍ أخرى. وسواءٌ ما إذا كنَّا نُفكر أو نتكلَّم بصوتٍ عالٍ، فإذا وُصِّلت أقطاب كهربائية بالأعضاء المسئولة عن الكلام، كاللسان والحنجرة والشفتَين، أو الأصابع واليدَين والذراعَين (في حالة المتحدِّثين بلغة الإشارة)، فستسجل الحس العميق بالنشاط الجاري. وهذا الحس العميق هو الذي يُعطينا الإحساس بالقدرة الخلَّاقة، أي الإحساس ﺑ «ذاتٍ» فاعلة. ومحصلة ذلك أننا، بجانب وعيِنا بما نتحدَّث عنه أو نُفكر فيه، نعي أيضًا أننا نتحدَّث عنه أو نفكر فيه. ويُعَد هذا الوعي بالذات تجربةً حقيقية، وهو الأساس الذي تُبنى عليه شخصياتنا. أمَّا ما ليس حقيقيًّا، فهو التجسيد غير المشروع لتجربتنا الذاتية التي تُحوِّل العملية إلى كيانٍ فاعل داخل النفس. ومع أنَّ ذلك التجسيد يُمثل فهمًا خاطئًا فجًّا، فإنه عامل مؤثر مُهم في أساطير البشرية.
حين ننظر إلى دور الذات، نجد أنه يتزايد ثراءً مع مرور الوقت بفعلِ ملاحظاتنا عن ميولنا وتفضيلاتنا وسِماتنا الشخصية. وفوق ذلك، تترسَّخ هذه الميول والتفضيلات والسِّمات لتكوِّن تركيبةً سلوكية متَّسقة ذات نمطٍ ثابت، تُسمَّى «الشخصية». إذ نتَّخذ تجربة الوعي بالذات أساسًا، ونُضيف إليه السجل التراكمي لسلوكنا الماضي، فينتهي بنا المطاف إلى نموذجٍ دقيق نوعًا ما لشخصيتنا. وبمرور الوقت، يُصبح النموذج أكثر تميزًا وأكثر تفصيلًا وتحصينًا، ويصير قائمًا على مبرراتٍ أقوى، ويزيد تأثيره التوجيهي في عملية صنع القرار في جذع الدماغ. وتتضمَّن آلية عمل ذلك توليد خيارات عقلية تتَّسق مع الشخصية، بحيث تُسهِّل على جذع الدماغ الانتقاء من بين الخيارات المعروضة. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ ستيفن كوسلين، في تقديمه لكتاب «زمن العقل»، للكاتب بنجامين ليبيت (٢٠٠٤)، يصور العلاقة المُستمرة بين الشخصية ووظيفة جذع الدماغ بطريقةٍ موضِّحة جدًّا:
في الحقيقة، تتحكم «شخصية المرء» في كيفية اتخاذه القرارات. واتخاذ قرارٍ مُعين وتجربة عواقبه الفعلية يؤدي بدوره إلى تعديل «شخصية المرء»، وهذا يؤثر بعدئذٍ في كيفية بناء الخيارات والمُبررات والتَّبِعات المتوقَّعة، وفي الكيفية التي يتَّخِذ بها المرء القرارات في المُستقبل. وبذلك فإنَّ قرارات المرء تبني «شخصيته» بمرور الوقت.
ومن ثَم، فإنَّ اعتبار هذا الكيان الوجودي المُتكامل والمَبنيِّ بعنايةٍ مجردَ بناء اجتماعي؛ افتراضٌ خاطئ. وهذا لا يعني خلوَّ هذا الصرح من عناصر مُحدَّدة بعوامل اجتماعية، مثلما يتجلَّى في المواقف والخيارات والعقليات التي تُشكِّلها الثقافة، لكن النمط النهائي للسمات ملموس وشخصي. ووصفُ هذا المنتج بأنه كيانٌ غير حقيقي أو وهمي — كما يَصفه بعض المتحمِّسين — سخيفٌ وغير منطقي مثل الرأي الآخر المناقِض، وهو أن الذات شكلٌ من أشكال الروح، أو الكيانات غير المادية.
حين ننظُر إلى دور الذات، نجد أنه يتزايد ثراءً مع مرور الوقت بفعلِ ملاحظاتنا عن ميولنا وتفضيلاتنا وسِماتنا الشخصية.
إن السؤال عن المسئولية الأخلاقية قائم منذ أمدٍ بعيد. والإجابة عنه ليست صعبة. فالعقل الواعي — القادر على رصد ذاته والتنبؤ بنتائج الأفعال — مسئول عن الخيارات الذهنية التي يُقدِّمها لجذع الدماغ. وهذه الخيارات قد تكون شديدة وطاغية لدرجة ألا يكون لجذع الدماغ خيار سوى الامتثال لها. إذ يعِجُّ التاريخ، وحتى بعض الأحداث الحالية، بمُتعصبين قهرتْ عقلياتُهم جذعَ الدماغ، وجعلتهم يتقبَّلون الاستشهاد والموت. تُشير هذه الأمثلة، وكذلك ما يسمَّى بتجلِّيات الإرادة، بوضوحٍ إلى وجود آليات «لتنفيذ ما يُريده المرء»، ومع أننا لسنا أحرارًا بالمعنى المُطلَق أو الكامل، فإننا مسئولون عن أفعالنا.
وبخصوص بداية الذات الواعية، أي أول ظهور لكيانٍ يُدرك ذاته ويستطيع التفكُّر فيها، يقول أنطونيو داماسيو في كتابه «تأثير الذات على العقل» (٢٠١٠):
ما أروع أن نعرف أين ومتى أثرت الذات القوية على العقل، وبدأت تولِّد الثورة البيولوجية التي تُسمَّى «الثقافة». لكن بالرغم من الجهود البحثية المُستمرة التي يُجريها مَن يُفسِّرون السجلَّات البشرية التي لم يطمسها الزمن، ويؤرِّخونها؛ لا نستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة.
بناءً على البيانات التي توفَّرت لداماسيو، فإن ما يقوله صحيح، لكنه لن يكون صحيحًا إذا أخذنا النموذج الذي أطرحه في الحسبان. صحيح أنَّ سجلات تطوُّر البشر لم تصمد إلى الآن، ولكن من السهل تتبع ظهور «الذات». فقد ظهرت الذات للمرة الأولى وأصبحت تجربةً قابلة للإدراك حينما اكتسب الدماغ الوصول الحركي الإرادي إلى نفسه، من أجل إطلاق الأسماء على الأشياء أولًا، ثم للتحدُّث وتوليد الحسِّ العميق الذي هو جوهر الذات التجريبي. وبذلك كل جوانب معالجة الدماغ التي كانت مطموسةً من قبل صارت قابلةً لتسميتها والتفكير فيها والشعور بها والتعامُل معها بالنظام الفرعي الجديد الذي يستخدم اللغة، ألا وهو العقل. لذا فإن صلة «الذات القوية» التي ذكرها داماسيو بالعقل قديمة قِدَم التطوُّر الكبير المفاجئ الذي أسفر عن اكتساب اللغة، وحوَّل الإدراك في دماغ الحيوان إلى وعيٍ بالذات، وميَّز ظهور الإنسان العاقل.
ثم ينتقل داماسيو إلى التغييرات التي أسفر عنها اكتساب اللغة، ويُعلق عليها بشيءٍ من التفصيل:
للاحتفاظ بسجلات ذاكرة موسَّعة لا تضم المهارات الحركية وحدَها، بل تحتوي كذلك على الوقائع والأحداث، خصوصًا الوقائع والأحداث الشخصية، تلك التي تدعم التركيب البيولوجي للفرد، وشخصيته، وهويته؛ فهذا مرهون بالقُدرة على إعادة إنشاء سجلات ذاكرة في حيِّزٍ داخل الدماغ العامل والتحكم فيها، بالتوازي مع الحيز الإدراكي، وهو مساحة تخزين مُستقلة يمكن للزمن التوقف داخلها، وتحرير القرارات من سطوة الاستجابات الآنية.
غير أنَّ آراء داماسيو عن الوعي ليست بجودةِ سرده لما اكتسبه الدماغ من التطور الكبير الذي أسفر عن استخدام اللغة؛ أي حيز العمل والعقل والوصول إلى الذاكرة والقدرة على التحكم والتنظيم، وكل ذلك بلا إجبار على إبداء استجابةٍ فورية. والتناقُض بين وضوح آرائه عن اللغة والالتباس الذي يشوب آراءه عن الوعي يرجع إلى عدم وجود نموذج قادر على إظهار كيفية ترابط جوانب الدماغ العديدة في تكوين نظامٍ متكامل. ولنقتبِس منه المزيد فيما يلي:
عندما ننظر إلى شجرة الحياة على مَر مدةٍ طويلة، فلا يسعنا سوى أن نلاحظ أن الكائنات الحية تتطوَّر من كائناتٍ بسيطة إلى معقدة. ومن هذا المنطلق، فمن المنطقي أن نسأل متى ظهر الوعي في تاريخ الحياة. وما التأثير الذي أحدثَه في الحياة؟ إذا نظرنا إلى التطور البيولوجي مُعتبرين إيَّاه مسيرة غير متعمدة من أسفل شجرة الحياة نحو أعلاها، فإن الإجابة المنطقية هي أن الوعي ظهر في مرحلةٍ متأخرة جدًّا، عند منطقة عالية من الشجرة.
عند قراءة هذه الفقرة، لا يُمكن أن نعرف ما الذي يقصده داماسيو بمصطلح «الوعي». هل يقصد الوعي بالذات الذي يتفرَّد به البشر، أم يقصد الإدراك غير الواعي بالذات في دماغ الحيوان؟ أيًّا ما كان قصده، فثمة مشكلة؛ وذلك لأنه إذا كان يقصد المعنى الأول، فسيكون ادعاؤه أنَّ «الوعي ظهر في مرحلةٍ متأخرة جدًّا، عند منطقة عالية من الشجرة» غير دقيق. إذ يبدو هنا وكأن داماسيو كان مُترددًا في أن يجعل الوعي الواعي بالذات مقصورًا على الإنسان العاقل وحده، بل أراده أن يشمل الرئيسيات والحيتانيات وحتى بعض أنواع الحيوانات الذكية التي وُجِدت في عصور أقدم في زمن التطوُّر. وهذا يعني أنه ربما يعتقد أن الوعي سمة اكتُسبت تدريجيًّا، وليس ابتكارًا واضحًا ومُحددًا نشأ من آليات عصبية، وعدَّل التوصيلات العصبية في الدماغ البشري، وأعطاه القدرة على التعامُل مع ذاته.
أمَّا إذا كان يقصد الإدراك غير الواعي بالذات لدى الكائنات الأدنى من الإنسان، فستكون عبارة «عند منطقة عالية من الشجرة» أبعد وأبعد عن الصواب. والسبب أن الإدراك — أي التمثيلات الحسية التي يستجيب لها النظام الحركي — لم يأتِ في مرحلةٍ متأخرة في التطوُّر البيولوجي. بل كان موجودًا بالفعل في شكله الأبسط في الكائنات المُتعددة الخلايا حيث كانت معالجة المعلومات مدمجةً ومركزية كي يكون النظام الحركي فعالًا. وكما رأينا في الفصلَين الثاني والثالث، فإنه يمكن تتبُّع ظاهرة الإدراك إلى جذورها التطوُّرية عن طريق الاستجابة التلقائية للبُقَع الحسية في الخلية البدائية، التي كانت «بدائيتها» مُعقدة جدًّا أصلًا.
يتَّضِح هنا أنَّ العجز عن تحديد بداية ظهور الوعي (بصفته مختلفًا عن الإدراك)، وكذلك العجز عن تحديد بداية ظهور «الذات» والعقل (الشكل الذي تتحكَّم به اللغة داخل الدماغ)؛ يُبرِز الحاجة إلى النموذج الذي أطرحه، نموذج يجمع بين علوم الأعصاب وعلم اللغة وعلم الأحياء التطوري في نظامٍ واحد. لا مجال للتشكيك في ضرورة هذا النظام، وأن كل هذه الظواهر مرتبطة ببعضها ارتباطًا وثيقًا، وأن هذا ضروري من أجل فهم العالم.
بالطبع تُوجَد طريقة أخرى لتناول مسألة تحديد بداية ظهور العقل الواعي وتوضيح ماهيته. وهي الفكرة الروحانية التي طرحَها عالم الحفريات اليسوعي الراحل بيير تيار دو شاردان (١٩٥٩). وهي جديرة بالاقتباس لأنها غير مُتعلقة بالموضوع إطلاقًا، وتفتقر إلى معلوماتٍ فعلية، وتحمل رسالة غير مقصودة، لكنها حتمية، تحثُّنا على السعي وراء الحقيقة والتفكير المباشر، وتجنُّب الأوهام الغامضة عند وضع نظرياتٍ عن الوعي، إذ قال:
عند النظر إلى الوراء في مسار تاريخ التطور، نجد أن سمات الوعي تتجلى في صورة طيف من تلميحات متغيرة تاهت أصولها.