على حافة الفهم
أما بشأن الإيمان، فتوجد أشياء واضحة وضوح الشمس في كبِد السماء، لكن الناس يُفضِّلون أن يُغمِضوا أعيُنهم عنها.
لنُلخِّصْ ما يهدف إليه هذا الكتاب، وهو بناء نموذج يفسر ظهور عقل الإنسان وآلية عمله المُستقلة (الحرة). ولكي نعرف ما سنصطدِم به من دون هذا النموذج، فإني أقتبس الفقرة الافتتاحية في مقالٍ بقلَم عالِم الأعصاب كريستوف كوخ بعنوان «العثور على الإرادة الحرة» (٢٠١٢):
في زاويةٍ نائية من الكون، وعلى كوكبٍ أزرق صغير يدور بفعل الجاذبية حول شمسٍ رتيبة في المناطق الخارجية من مجرة درب التبانة، ظهرت كائنات من الطين البدائي، وخاضت صراعًا ملحميًّا على مرِّ دهورٍ طويلة من أجل البقاء. وبالرغم من كل الأدلة التي تثبت العكس، فإنَّ هذه المخلوقات التي تمشي على قدمَين اعتقدت أنها تحظى بامتيازات استثنائية، وأنها تحتلُّ مكانةً فريدة في عالَمٍ يضم تريليونات النجوم. ولأنها كائنات مغرورة، اعتقدت أنها هي الوحيدة، دون ما سواها من الكائنات، التي تستطيع الإفلات من قانون السببية الصارم الذي يحكُم كل شيء. وارتأت أنها تقدر على ذلك بفضل شيء تُسميه الإرادة الحرة، التي تُتيح لها فعل أشياء من دون أي سببٍ مادي.
هل تتصرَّف بحُرية حقًّا؟ إن مسألة الإرادة الحرة ليست مجرد مزحةٍ فلسفية، بل إنها تشغل تفكير الناس وتُثير اهتمامهم أكثر من معظم المسائل الميتافيزيقية الأخرى. إنها حجر الأساس لمفاهيم المُجتمع عن المسئولية والثناء واللوم. وهي في الأصل متعلقة بمدى تَحكُّمِك في حياتك.
من وجهة نظر النموذج الذي أطرحه، هذه الرؤية ليس لها مُسوِّغ منطقي. وذلك لأنَّ الإرادة الحرة — أو بالأحرى الاستقلال الوظيفي — تحققت لدى «المخلوقات التي تمشي على قدمَين» أصلًا بفضل «قانون السببية الصارم» ذاته الذي يُفترَض أنَّ «الكائنات المغرورة» أفلتت منه. بل إنَّ «قانون السببية الصارم» هو الذي أسفر — بتقسيم السلسلة السببية التي كانت موجودة قبل نشأة الحياة — عن نشوء الحياة وميلاد العقل وإشراكه في إدارة شئونه. لذا اسمحوا لي بأن أعرض نُبذةً موجزة عن كيفية حدوث ذلك، ووصولنا إلى ما نحن عليه الآن.
بدأ التطوُّر الكبير الذي أدى إلى ظهور الإنسان العاقل باكتساب القدرة على الاحتفاظ بسماتٍ طفولية، الذي منح الدماغ مرونةً عصبية في عمرٍ مثالي لإدخال الوسيلة الصوتية في التفاعل بين الأشخاص. وقد أسفر ذلك عن ربط مناطق الكلام بالقشرة الحركية، وأدَّى إلى ترسيخ آلية استجابةٍ جديدة مُستقلة (داخل القشرة الدماغية). وهذه الآلية المُستقلة هي التي مكَّنت الدماغ من الوصول إلى مُدركاته والتعامُل معها داخليًّا، وإدارة شئونه.
فالآلية المُستقلة تُولِّد اللغة، واللغة تَخلُق لدى الكائن الحي إحساسًا بذاتٍ أو قدرة فاعلة، وهو ما يُعَد جزءًا لا يتجزأ من القدرة على الوعي بالذات. ونتيجةً لاكتساب اللغة، دائمًا ما تكون تجربة الإدراك البشري مكونةً من شقَّين. إذ تتألف ممَّا نُدركه وإحساسنا بأننا نُدركه. وهو ما يؤدي إلى تذبذب الانتباه بين الشقَّين، وهذه آلية مُبتكرة تُتيح التركيز (أي: تسليط الاهتمام على الموضوع) في «حيز العمل الشامل». وبفضل حيز العمل الشامل، أُتيحت لدماغ الإنسان مُهلة زمنية مُمتدة تُمكِّنه من جمع المعلومات الحسِّية ودمجها في إخراج سلوك أفضل. وهذا تطورٌ فارق نَقَل البشر إلى عالَمٍ من السلوكيات المدروسة الموجهة بالوعي، التي تُمثِّل جانبًا ضروريًّا للاستقلال الوظيفي.
وقد أدَّى التوسع الهائل في قدرات الدماغ البشري والارتقاء بجودته إلى تغيير العلاقة بين قشرة الدماغ وجذعه، الذي يُمثِّل موطن القِيَم البيولوجية وصنع القرارات. فالدماغ الذي يستخدم اللغة، والقادر على التفكير، يولِّد خياراتٍ عقلية لجذع الدماغ في كل موقف. وهذا الإسهام من القشرة الدماغية هو الذي يجعلها تشارك بفاعلية في عملية الانتقاء الداروينية للسلوكيات، وفي تشكيل مصير الكائن. صحيح أنَّ جذع الدماغ ما زال هو الذي يتَّخِذ القرارات، لكن القشرة الدماغية أصبحت قادرةً على ترجيح نتائج مُعينة بالخيارات التي تعرضها، والتحيُّز الذي يَنتُج عن ذلك.
أمَّا العقل البشري، فهو نظام عصبي فرعي في الدماغ. وصحيح أنَّ أداته اللغة، لكن نطاقه وتجربته الإدراكية محكومان بما تستطيع اللغة أن تتوصَّل إليه وتتعامَل معه. والعقل ليس فاعلًا غير مادي، بل كيانٌ ماديٌّ؛ نظامٌ فرعيٌّ يستخدم الدارات العصبية والعمليات الدماغية ذاتها التي يَستخدِمها الإدراك في تسجيل المعلومات المُستمَدة من العالم الخارجي والتعامُل معها.
باختصار، فكل ظواهر تجربة الإدراك البشري تجلياتٌ مُعبِّرة عن النظام يمكن معرفة أصولها، ويستحيل فهمها إلَّا في سياقه. ومن ثَم، فإن «الآلية المستقلة» (أي: دماغنا الثاني الكامن داخل دماغنا)، و«المُكوِّن البنائي الأساسي للعقل»، و«تذبذب الانتباه»، و«إحساسنا بقدرتنا الفاعلة» و«الاستقلال الوظيفي» (الإرادة الحرة) لم تَعُد ألغازًا غير مُترابطة، بل مُنجَزات تَحرُّر الدماغ وانطلاقه في عالم المعرفة والفِكر.
العقلُ ليس فاعلًا غير مادي، بل كيانٌ ماديٌّ؛ نظامٌ فرعيٌّ يستخدم الدارات العصبية والعمليات الدماغية ذاتها التي يَستخدمها الإدراك في تسجيل المعلومات المُستمَدة من العالم الخارجي والتعامل معها.
وهكذا بعدما أُنجِزَت المهمة، وتخلَّصنا من التفسيرات الخاطئة، أصبحنا أحرارًا في البحث عن المكان الصحيح الذي يشغَله العقل الواعي في السيناريو الكوني. وهذا لأنَّ فهمنا للنظام لم يَعُد مشوبًا بانحرافاتٍ جانبية بفعلِ التفسيرات الخاطئة التي نشأت لدَينا ذاتيًّا. إنَّ ظهور الإنسان — الذي بدأ مع ظهور الخلايا البسيطة منذ ٣٫٨ مليارات سنة — إنجاز رائع، انتصار حقَّقتْه الحياة بسباحتها ضد تيار الإنتروبيا. ولكن ماذا عن نشأة الحياة ذاتها، الخلية السُّلفية الأولى، الحدث الذي أسفر عن بداية كل شيء؟ هل كانت نشأتها مصادفة تكاد تضاهي المعجزة، أم كانت حتمية؟ في جَعبتنا براهين كافية تتيح لنا التلميح إلى إجابة، كما سنرى.
سواء ما إذا كان التطوُّر الكبير الذي جعل الخلية الأولى قادرة على الأيض، والتكاثر، قد حدث على سطح الكوكب بتحفيزٍ من الطاقة الشمسية أم في المَنافس المائية الحرارية في أعماق البحار، حيث كانت تُوجَد كميات وفيرة من المعادن اللازمة للمركَّبات العضوية، وظروف مواتية لتكوين الحياة؛ فإن تعقيد الخلية الأولى مذهل. وعن ذلك يقول بول ديفيز في كتابه «المعجزة الخامسة» (١٩٩٨):
الخلية الحية هي النظام الأشد تعقيدًا من بين الأنظمة التي عرَفتْها البشرية بهذا الحجم. فمجموعة جزيئاتها المُتخصِّصة ذاتها — التي لا يوجد مُعظمها إلا في المادة الحية — مُعقدة إلى أقصى حد. إنها تؤدي رقصةً بإتقان ممتاز وتنسيق ذي دقةٍ مُذهلة … ومع ذلك، فلا علامة على أنَّ هذه الرقصة لها مُصمم أو مشرف ذكي، أو قوة باطنية غامضة، أو قدرة فاعلة واعية مُتحكمة فيها.
أمَّا بخصوص الثروة المعلوماتية لدى الخلية، فيذكر ريتشارد دوكينز (١٩٨٦) أنَّ «كل خلية تحتوي على قاعدة بيانات مُشفَّرة رقميًّا، ومحتواها المعلوماتي أكبر من كلِّ مجلدات «الموسوعة البريطانية» الثلاثين مُجتمعة».
يثير ذلك تساؤلًا عن الكيفية التي تولَّد بها هذا التعقيد التنظيمي الفائق؛ لأنه يستحيل أن يكون قد نشأ من تجميعٍ ذاتي كيميائي عشوائي. صحيح أنَّ العلماء تعرَّفوا على جزيئاتٍ ضخمة تحتوي على معلوماتٍ بيولوجية ضرورية لتمهيد الطريق للحياة، لكن من المؤكَّد حتمًا أنَّ التطور الكبير قد حدث عندما «قرَّرت الحياة التحرُّر من أغلال الكيمياء باستخدام وسيلة تحكُّم معلوماتي، كي تُنشئ عالمًا ناشئًا جديدًا من القدرة الفاعلة المُستقلة»، على حدِّ قول ديفيز. يحمل هذا الكلام دلالةً ضمنية مؤثرة جدًّا. إذ يقول ديفيز في كتابه: «يعني ذلك أنَّ قوانين الطبيعة تحمِل بين طَيَّاتها نصًّا ضمنيًّا خفيًّا مشفَّرًا، وهذا النص عبارة عن أمرٍ كوني بإنشاء الحياة، وبأن يتمخَّض من رحِم هذه الحياة نتائجُها الثانوية؛ العقل والمعرفة والفهم.» وكذلك يُشير ضمنيًّا إلى أنَّ «قوانين الكون قد صَممت القدرة على فهمها هي ذاتها». وتعبيرًا عن الفكرة نفسها، يُشير عالم الأحياء البارز كريستيان دو دوف (١٩٩٥) إلى حقيقة أن «الحياة تُعَد تجليًا حتميًّا لخصائص امتزاج المادة»، وأنَّ «الحياة والعقل لم يَظهرا نتيجةً لحوادث عجيبة، بل يُمثِّلان تجليًا طبيعيًّا للمادة متأصِّلًا في نسيج الكون».
وصحيح أنَّ هذه التعليقات على ظهور الحياة قد تبدو لافتة، لكنَّ مرحلة التطور الكوني التي سبقت ظهور الحياة ليست أقلَّ إدهاشًا في اتِّسامها بظروفٍ مواتية لنشوء حياة. بل إنَّ توسُّع المُتفردة، وتحوُّلها إلى هذا الكون الكبير — من دون أي مُدخَلات خارجية أو تصحيحات توجيهية — يُشكِّل مسارًا محددًا للغاية أدَّى إلى التطوُّر الكبير الذي أسفر عن نشوء الحياة. فثوابت الطبيعة وقوانين الفيزياء ومُستويات شدة القوى التي تضمَن استقرار المادة، وثبات كمية الطاقة الشمسية الناتجة، ووفرة الوقود الهيدروجيني على مرِّ دهورٍ من الزمن، علمًا بأنَّ كل ذلك يسري بلا أي انحرافٍ تقريبًا؛ كل هذا يُحير العقل. وما أعجبَ المسافاتِ الكونيةَ الفاصلة الهائلة التي تحمي المناطق الهادئة من المناطق المُضطربة، وخَصِيصةَ الدوران التي تتَّسِم بها كل الكواكب والنجوم لتُبقِيها في مداراتها، وتمنع انهيارها تحت وطأة قوى الجاذبية! تجدُر الإشارة إلى أنَّ هذه الدقة المُذهلة للثوابت الأساسية وقوانين الطبيعة التي تدعم ظهور الحياة وتضمنه، هي التي دفعت عالِم الفلك فريد هويل (١٩٨٣) إلى قوله الشهير: «يبدو الكون كأنه مؤامرة مُدبَّرة سلفًا بإحكام.» وفي سياقٍ مُماثل، قال ديفيز (١٩٩٨)، المبهور هو الآخر بسلسلة الاحتمالات شِبه المستحيلة التي لا بد أنها اجتمعت معًا لتَضمَن حدوث التطوُّر الكبير الذي نقل الكون من مرحلة ما قبل الحياة إلى ظهور الحياة: «القول المبتذَل بأنَّ الحياة متوازنة على حدِّ سكِّينٍ يُعَد استخفافًا صادمًا بعظمة الحياة. فلا يُوجَد في الكون سكِّينٌ يمكن أن يكون بهذه الحدة.»
ومن ثم، يبدو أن كلَّ المؤشرات تُشير إلى أن الحياة ليست «زَبَدًا كيميائيًّا على كوكب متوسط الحجم»، وليست شائبة عَرَضية كما يعتبرها العديد من العلماء، على حدِّ قول ستيفن هوكينج، بل شيء فريد وبالِغ الأهمية. وفيما يلي يوضح دو دوف (١٩٩٥) ما يعنيه هذا التفرد:
إن الادعاء القائل بأن الكائنات الحية كلها تنبثق من سلفٍ مشترك يعتمِد على أدلة دامغة … فجميع الكائنات الحية تتكوَّن من المادة ذاتها، وتُسيِّر حياتها وَفقًا للمبادئ ذاتها، بل إنها مترابطة في الواقع بصِلةِ قرابة. كلها مُنحدِرة من كائن سَلَفي واحد.
وهذا يعني أنه مع أنَّ الحياة تحمِلها وتُمثلها سلسلةٌ لانهائية من الكائنات الحية الموجودة في أي زمن مُعين، فإنَّ الجينوم — أي قاعدة البيانات — ظاهرةٌ كونية واحدة غير منقطعة. الشيء الفريد والمُهم في الحياة أنها تكسر الاحتكار السببي الأحادي الذي كان يحكم العالم قبل ظهورها. وذلك لأنها مصدرُ سببيةٍ ثانية قائمة على المعلومات، وهذه السببية تحملها الكائنات الحية وتنفِّذها. ومن ثم، يُمكنك أن تعتبر أنَّ كل التغييرات التي طرأت في الكون قبل ظهور الحياة، بدايةً من الانفجار العظيم وحتى ظهور الخلية السُّلفية الأولى، جرت بما يتفق مع قوانين الفيزياء. إذ شهدت تلك المرحلة تطورًا متواصلًا للتغييرات بلا وجود أي قدرةٍ فاعلة تؤثر فيها بأي شكلٍ من الأشكال.
أمَّا في ظلِّ الاحتكار السببي الثنائي الجديد المُعزَّز بمشاركة الحياة، فلا تستطيع قوانين الفيزياء وحدَها أن تتنبأ بالتفاعُلات التي تَكون الكائناتُ الحية طرَفًا فيها. وذلك لأن هذه التفاعُلات لم تَعُد محكومةً بقوانين الفيزياء وحدَها، بل صارت محكومة أيضًا بالمعلومات التي تملكها الكائنات المستمرة التطور، والتي يمكن أن تستخدِمها بحكمة. يُعَد هذا تحولًا جِذريًّا، وقد أُتيحَ بفضل القدرات الآلية التي طوَّرها الجينوم. بذلك صار لدَينا نقطة فارقة في التطوُّر الكوني. فقبْلها، كانت سلسلة السببية مُسيَّرة بالقصور الذاتي، على غرار قِطع الدومينو المُتساقطة، في اتجاه تيار الإنتروبيا نحو العشوائية. أمَّا في ظلِّ النظام الجديد، حيث أصبحت الحياة مشارِكة في اتخاذ القرارات، فقد نشأت دوامات معاكسة لاتجاه الإنتروبيا؛ إذ ظهرت بنياتٌ مُنتظمة ومعلومات، وأُضفيت تحسينات إضافية على النظام الذي يُجري التحسين.
بالرجوع إلى نقطة بداية كل شيء، نجد أنه حالما رسَّخت الحياةُ نفسَها في الخلية السلفية الأولى، تولَّى الانتقاءُ الطبيعي زمام الأمور، وأخذ يجعل الكائنات الحية أكثر تنوعًا وتعقيدًا باستمرار. وعبر خطواتٍ متتالية، أدى ذلك إلى اكتساب قدرةٍ مُحسَّنة على معالجة المعلومات مع إدراك عملية اتخاذ القرارات، ثم أسفر في النهاية عن الوعي بالذات والسلوكيات المُوجَّهة نحو غايات مُعينة.
إنَّ اكتساب الكائن الحي القدرة على تسيير حياته بآلية مُستقلة قائمة على المعرفة، وما صاحَب ذلك من قدرة مُسبِّبة، يجعل الحياة فاعلًا مؤثرًا في عملية التطور. لذا قد تجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ الطاقة الديناميكية الحرارية التي تستهلكها الحياة لا تدين بها لأحد. ربما يكون ذلك غريبًا؛ لأنَّ الحياة تتغذى على الطاقة، لكن الغرابة تزول حين نُدرك أنَّ الحياة لا تستهلك سوى نفايات الطاقة. بل إنَّ النسبة التي تمتصُّها الأرض من الإشعاع الشمسي سنويًّا — والتي تبلغ جزءًا من مليارين، وتمثل مصدر طاقةِ ١٥٠ مليار طن من المادة الحية على الكوكب — ليست سوى طاقة تطردها الشمس بعيدًا أصلًا، أي إنَّ الأرض لا تجتذبها خصوصًا من أجل ذلك الغرض. يحمل هذا دلالةً ضمنية واضحة. أنَّ الحياة على هذا الكوكب — وعلى كل الكواكب التي تدِبُّ الحياة على وجهها في الكون (والتي ستبلُغ مليارات الكواكب إذا كانت الحياة متأصِّلة في قوانين الطبيعة) — لا تُقلِّل من مستوى طاقة الكون. ربما يكون هذا مُهمًّا؛ لأنه لو كانت الحياة الذكية على هذا الكوكب وعلى غيره من الكواكب، والتي تملك المعرفة وتملك الدراية بكيفية استخدام هذه المعرفة، تلعب دورًا في قصة الكون، فإنَّ هذا الدور سيكون بالضرورة دورًا إيجابيًا نافعًا، تَمنح فيه بلا مقابل.
يهدف هذا الكتاب إلى توضيح أصولنا البشرية وإثبات مادية العقل وآلية عمله التي تتَّسِم بقدرة مُسبِّبة مستقلة، وبذلك لا يدع مجالًا للتفسيرات القائمة على قوًى إلهية خارقة أو روايات خرافية. إنه يُزيل مجموعة التفسيرات الخاطئة — التقليدية والجديدة على حدٍّ سواء — ليتسنَّى لنا تقييم مكاننا في عملية التطوُّر من منظورٍ موضوعي. والآن، أصبح بإمكان الكائن الحي الواعي، بعدما كُشف الستار عن ماهيته الحقيقية، أن ينظر إلى نفسه في سياق ركيزته التي يقوم عليها، وهي الكون المادي المُذهل المحكوم بقواعد مُعينة. وهذه مهمة صعبة. كذلك فهي تكتب نهاية كل التخمينات التي افتُرضت بلا أساس عن الإرادة الحرة (القدرة المُسبِّبة وغير المُسبَّبة)، وعن الوعي غير المادي والعقل غير المادي. وبذلك، فأنصار التفسيرات الدينية التي لا تهتمُّ بقيود الواقع، شأنهم شأن الخبراء المُتبحِّرين الذين يحاولون شرح الظواهر العقلية بحالات متوازنة بين الترابط الكمي وزوال الترابط الكمي؛ صار أمامهم الآن تفسيرٌ تطوري متَّسق ومعروف الأصل، وعليهم أن يُواجهوه.
وفي هذا الصدد، يقول دو دوف في كتابه: «الحياة أعجب مغامرة استثنائية في الكون المعروف، مغامرة تمخَّضت عن نوعٍ من المخلوقات قادرٍ على إحداث تأثيرٍ حاسم في التطوُّر المستقبلي للعمليات الطبيعية التي وُلِد من رحمها.» فيما يَبلُغ الفيزيائي فريمان دايسون (١٩٨٨) حدًّا أبعد من ذلك، قائلًا:
مع ذلك، لا يُستبعَد أن يكون للحياة دور أكبر مما تخيَّلناه حتى الآن. إذ ربما تنجح الحياة، عكس كل الاحتمالات، في تشكيل الكون لأغراضها الخاصة، وقد لا يكون تصميم الكون غير الحي منفصلًا عن إمكانات الحياة والوعي بالقدْر الذي كان يفترضه أغلب علماء القرن العشرين.
وسواءٌ اتفقنا مع معظم علماء الأحياء والعديد من علماء الفيزياء واعتبرنا ظهور الحياة والوعي نتيجةً حتمية لتطوُّر الكون، أو اختلفنا معهم ونسبناه إلى مصادفةٍ تكاد تضاهي المعجزات؛ فلا بد من توضيح الجوانب الغامضة والمُحيرة للآلية التي تسير بها حياة البشر. فالأوهام الخيالية التي تؤخَذ على أنها حقائق تُقوِّض السعي إلى معرفة العالم، والذاتِ التي تَعرِف. وليس من الإنصاف في حق العملية التي ولَّدت الحياة أن يَئول بنا المطاف — بعد ١٣٫٧ مليار سنة من التطور الكوني، بدايةً من الانفجار العظيم وحتى الآن — إلى خداع ذواتنا. فما تحمِله الحياة من قوًى مُسبِّبة وقدرات مؤثِّرة ومعرفة يُعَد إنجازًا مهمًّا لا يُقدَّر بثمن، وينبغي للجميع أن يهتمَّ بتَبِعات هذا الإنجاز واستخداماته المُحتمَلة.
لقد بدأ كل شيءٍ من المتفردة، وهي تلك النقطة التي كانت تحمل كميةً لانهائية من الطاقة بلا زمانٍ ولا مكان. ثم توسعت المُتفردة، وصارت مُتمثلة في الكون، وفي الحياة، وفينا نحن الذين نحمل الجينوم، أي الأساس المعلوماتي الذي ولَّده التطور قبل نشأة الحياة. هذه النقطة هي أقصى ما يُمكننا معرفته، ولا جدوى من محاولة التوصل إلى ما كان قبلها، حتى ولو في فِكرنا. فكأنَّنا نتخيل أنَّ العقل يستطيع تجاوز حدوده، أي ظروف خلقه والقيود المُحيطة بها. ولأن الفكر كله جزءٌ من المتفردة أصلًا، فإن الحديث عمَّن خَلَق المُتفردة يُعَد خروجًا عن حدود ما يمكن التفكير فيه تفكيرًا منطقيًّا. وحتى لو أمكن ذلك، فسيكون بمثابة تخلٍّ عن موضوع عظيم يمكن دراسته ومحاولة فهمِه مقابل فرضية ممسوخة لسنا مؤهَّلِين للتفكر فيها. إذن، فما الذي يمكن أن نفهمه من ذلك؟ ما الذي يمكن أن نفهمه من الكون — المتفردة التي توسَّعت، ذاك المدى الشاسع الهائل الذي يبتلِعنا داخله — ومن ذواتنا بصفتها جزءًا من مُجرَيات النظام بالكامل؟ نستنتج أننا تجلياتٌ مُعبِّرة عن نظامٍ حي رائع مُذهل خُلق ذاتيًّا ويَخلُق ذاتيًّا، عن وجودٍ لا حدود له. واكتشاف مكاننا ودورنا في هذا النظام مهمةٌ مُغرية، وتحدٍّ وواجب إلزامي.