التهيئة المعرفية: تَخلُّق اللغة
بتوصيف اللغة البشرية حسب بِنيتها، دائمًا ما يُعامِل اللغويون الوحدات المتناهية الصغر في كلامِنا — سواء الكلمات ذاتها أو المفاهيم التي تُعبر عنها — كما لو كانت موجودة بالفعل، أو جاهزة سلفًا قبل الكلام.
بالرجوع إلى نقطة البداية، نُريد أن نعرف كيف كان شكل اللغة الأولية التي تكوَّنت من أسماء وأفعال، وما الضغوط التكيُّفية التي أدَّت إلى تطوُّرها. ليس من الصعب استنباط ظروف تلك المرحلة المبكرة. فاللُّغة التي أمكنَ توليدها حينذاك لا يُمكن أن تكون أفضلَ من مجرد أداة كليلة يكتنِفها الغموض. وهذا لأنَّ آلية الثبات، التي كانت مصدر المفردات الأولية، لا يُمكن أن تكون قد أنشأت غير مخزونٍ محدود من الأسماء والأفعال التي تُشير إلى أشياء، كرجلٍ وشجرة وطائر ونيران وكلب، أو أفعال، مثل أكَل وجرى ونام وقتل. وهذا المخزون يستحيل أن يكون قد ولَّد سوى «كلامٍ طرزاني» مُقتضَب، غير واضح، خالٍ من القواعد النحوية، على غرار «رجل أكل» و«كلب نام».
لم يكن من المُمكن إيصال المعنى المقصود كاملًا؛ لأنَّ الأسماء والأفعال وحدَها لا توصِّل سوى الخطوط العريضة الأساسية للرسالة. كذلك لم يكن مُمكنًا حتى مجرد التفكير في إضافة كلماتٍ توضيحية أو مُحدِّدة للأحداث أو المكان أو الأسلوب أو الزمن. فمن دون القُدرة على طرح أسئلة بمَن أو أين أو لماذا أو متى أو ما أو ماذا أو كيف، لا يمكن تنقيح الكلام، ويستحيل تحقيق التواصُل الحقيقي ومشاركة المعلومات.
لكن على الرغم من أوجُه القصور المذكورة، فإن مجرد القدرة على التسمية، بل والتسمية حسب الرغبة كان تحسُّنًا ملحوظًا عما كان قبلُ. وكذلك أرسى أساسًا بالِغ الأهمية للتطوُّرات التي تلَتْه. فالقدرة على تحويل الانتباه فيما بين السِّمات البارزة (سواء أكانت هذه السمات حسِّية أم مُتولدة ذاتيًّا) جعلت الدماغ فاعلًا مؤثرًا في إدارة الذات، حتى وإن لم يكن يُتقن ذلك في البداية. وكذلك حفَّزَت النموَّ العصبيَّ في دماغ الرضيع، وكان هذا النمو ضروريًّا للحفاظ على هذه المُمارسة وتوسيعها.
وتأكيدًا لأهمية هذه النقطة، قال إيريك لينيبرج (١٩٦٧):
التغيير الأساسي الذي يحدُث بوضوح مع نموِّ الدماغ يكمُن في حدوث الترابُط بين الخلايا. إذ تنمو من أجسام الخلايا نتوءات بارزة، أي محاور عصبية وزوائد شجرية، لتُكوِّن في النهاية شبكةً كثيفة ذات فروعٍ مُترابطة فيما بينها. وفي واقع الأمر، تظهر الآلاف من هذه التشعُّبات في كلِّ خليةٍ عصبية، وتُكمِل إنشاء توصيلات النظام العصبية.
المُهم أنَّ نشوء هذه التفرُّعات يُمثِّل استجابة الدماغ لمطلب تنفيذ مهامَّ مُعينة. ولذا يعتمد مقدار هذا التفرع الإضافي على الاستخدام. إذ يُعطِي صاحبَ الدماغ شيئًا أشبَهَ بأفضليةٍ مُرجِّحة، ويُمكن أن يؤدي إلى اختلافات ملحوظة في الكفاءة بين دماغٍ وآخر، حتى لو كان الدماغان متشابهَين تمامًا في البداية.
إذن، فكيف تطوَّر «الكلام الطرزاني» إلى لغةٍ مركَّبة واضحة، وكيف تولَّدت الصفات والظروف والكلمات الوظيفية التي كانت مُفيدة في إنشاء التراكيب النحوية؟ تكمُن الإجابة في تعرُّض المُدرَكات المرتبطة بكلماتٍ تعرضًا مُتكررًا مكثفًا للفحص الجبهي في الدماغ، ما أدَّى إلى استخلاص العناصر البارزة التي كانت مُدمَجة في هذه المُدرَكات. فالمُدرَكات المرتبطة بكلمات (أي: أسماء وأفعال) كانت كياناتٍ مُركبة أمكن تقسيمها إلى العناصر التي تتكوَّن منها. ومع تعرُّض هذه المُدرَكات المرتبطة بكلماتٍ للفحص الجبهي مئات المرات، إن لم يكن آلاف المرات، كان حتميًّا أن يؤدِّي ذلك إلى تمييز فئاتٍ من السِّمات البارزة، كاللَّون وحدود الشكل الخارجية والتبايُن والملمس والشكل والزاوية والوضعية والحالة المزاجية والنية والأسلوب والنمَط وغير ذلك الكثير.
وفور استخلاص هذه الفئات، أمكن وسمُها وإضافتها إلى قائمة المفردات المتوسِّعة في شكل صفاتٍ وظروفٍ تُستخدَم لتوضيح الأسماء والأفعال، حتى تُطابِق التوصيفات المطلوبة. ولتوضيح أنَّ فئات الكلمات المُستخلَصة حديثًا هذه ثانوية ومُشتقة، تذكَّرْ أنها تكون بلا معنًى من دون الأسماء أو الأفعال. فكي نصف شيئًا بأنه «طويل» أو «غاضب» أو «سريع»، يلزمنا اسمٌ لنُطلِق عليه هذه الصفة التوضيحية، تمامًا كما نقول إن «الابتسامة العريضة» ليس لها معنًى من دون القط تشيشاير. وفَور وَسْم الشيء أو الفعل بكلمات (أي: تسميته)، كانت الذراع الحركية لمناطق الكلام تجعله متداوَلًا بصفةٍ مُتكررة، وعندئذٍ يبدأ ظهور المكوِّنات البارزة المدمَجة. لاحِظ هنا أنه مثلما تُستخرج الثوابت المتكررة في المجموعات الإحصائية من عينةٍ مكوَّنة من عدة حالات، فإن العناصر الثابتة المدمجة في كيانات أو أحداثٍ مفردة يمكن استخلاصها بتكرار فحصِ عينةٍ مكونة من حالةٍ واحدة. وتتجلَّى فائدة فحص الحدث الواحد على الأخصِّ حينما تحدُث تغيرات نسبية. وهذا، على سبيل المثال، ما يحدُث عند رصد بياناتٍ بارزة عن تعبيرات الوجه تُسفِر عن تراكُبات زاخِرة بالمعلومات، مثل التغيرات التي يُمكن استنتاجها في الحالة المزاجية أو النية استنادًا إلى التعبيرات الأساسية البادية على الوجه.
هذه المهمة تُنجزها كواشف للسِّمات البارزة في أثناء تصفية مخرجات الفحص الدماغي، ودعمًا للرأي القائل بأنَّ هذه هي الطريقة التي اكتسب بها الإنسان العاقل الأول قائمة المفردات الثانوية التي تضمُّ الصفات والظروف، وأدمجها في اللغة، يقول كولين بليكمور (١٩٧٨):
ومن ثَم، نرى حاليًّا أنَّ التحليل البصري يحدُث في شكلِ استخراجٍ انتقائي لمكوِّنات بارزة، أو نقاطٍ ذات محتوًى زاخر بالمعلومات على الصورة الكاملة التي تراها الشبكية. إنه عبارة عن تحليل المشهد المرئي، ليس إلى أي وصفٍ هندسيٍّ بسيط، بل إلى إحداثيات فضاء مُخصَّص للسمات البارزة، ذي محاور عديدة مسجلة في مناطق مختلفة ومستقلة من الدماغ.
الصورة واضحة. فمثلما كانت المفردات الأولية نتاجًا لآلية الثبات، فإن المفردات الثانوية استُخلِصت من المادة الأولية عبر التحليل البصري. ثم استُخدِمت الصفات والظروف والكلمات الوظيفية المُستخرَجة التي نشأت بهذه الطريقة لتوليد لغةٍ بشرية مُركبة واضحة.
تُشير البيانات المُتاحة إلى وجود نموذجٍ ذي مرحلتَين لتطوُّر اللغة. يوضح النموذج سبب استحالة نشوء المُفردات الثانوية (بما في ذلك الكلمات الوظيفية) من دون المادة الأولية المكوَّنة من الأسماء والأفعال. يرجع السبب إلى أن اكتشاف السِّمات المدمجة واستخلاصها لا يمكن أن يكون قد بدأ إلا بعد ترسيخ المادة الأولية وبدْء فحصها. وبمجرد أن جمع الدماغ ما يكفي من المكوِّنات الأساسية والفرعية ليُركِّبها معًا ويصوغها في عبارات، أصبح لدَيه أداة لغوية تحت تصرُّفه. وبترتيب تلك العناصر بطرقٍ ذات مقصدٍ مُعيَّن، تمكَّن الدماغ من توليد تمثيلاتٍ لغوية تُعبِّر بدقةٍ عن الطابع الزماني المكاني والسببي للعالم الذي يكمُن فيه.
ينبغي هنا مراعاة نقطة مهمة. فعلى عكس الرأي التقليدي القائل إن اللغة هي المصدر الذي ولَّد التراكيب اللغوية النحوية، فإنَّ ما ولَّد هذه التراكيبَ هو قالب الواقع، أو شكل العالم، الذي كان على اللغة الناشئة أن تُعبِّر عنه. بعبارةٍ أخرى، فشكل ارتباط الأشياء والأحداث في العالَم هو الذي يُحدِّد ما الذي يجب أن توصِّله اللغة — أيُّ لغة — وما الذي يجب أن تُقنِّنه قواعدها النحوية، وإلا ستكون وسيلة تواصل فاشلة. وهذا يفسر لماذا لا تُوجَد لغة فاشلة أو ناقصة، ولماذا تتحول اللغة الهجينة المُبسَّطة إلى لغةٍ مولَّدة متطورة في غضون جيل واحد، وتتطوَّر اللغة المُولدة إلى لغةٍ تامة النمو في وقتٍ قصير. وبالطبع يُمكن التعبير عن أحوال العالم بعدة طرق، لكن قالب الواقع، أي مصدر التراكيب اللغوية، ثابت لا يتغيَّر.
وحالَما اكتُسبت الذراع الحركية للكلام، وأرست آليةُ الثبات مجموعة متواضعة من الأسماء والأفعال، كان نموُّ اللغة عمليةً لاجينية انبثقت من الداخل لتتوغَّل في أنحاء البيئتين البشرية والمادية على حدٍّ سواء، وتتوافق مع مُتطلباتهما. وهذه العملية كانت موجَّهة بآليات تغذية مُرتدة وتأكيداتٍ بيئية. إذ يتأكد سيناريو تطوُّر اللغة على مرحلتَين عندما تتراجع مهارة الكلام نتيجة الإصابة بآفة أو مرض، وتضيع طبقاتها الوظيفية — أو مراحلها — بترتيبٍ عكس ترتيب اكتسابها، بحيث تكون الأسماء، التي تُعَد أولَّ مكوِّن أساسي فيها، هي آخِر شيء يُفقَد منها.
ودعمًا للأطروحة التي تفترض التطور المرحلي للُّغة، قال بيكرتون (١٩٩٥):
يبدو التاريخ اللغوي لسلالة أسلاف البشر مُنقسمًا إلى مرحلتَين؛ كانت المرحلة الأولى مفردات من غير تراكيب لغوية، والمرحلة الثانية ظهرت فيها آليات مُثمرة كثيرة، لتُنشئ التراكيب اللغوية النحوية كما نعرفها اليوم. وإذا كان هذا الاستنتاج صحيحًا، فسيُصبح البحث عن سوابق للتراكيب اللغوية لدى أسلاف البشر مَضيعة للوقت؛ لأنَّ التراكيب اللغوية يَستحيل أن تكون قد نشأت إلَّا بعد توفُّر مجموعةٍ كبيرة من المفردات التي يُمكن تنظيم وحداتها في تراكيب معقدة … يبدو أنه لا يُوجَد بديل ملائم يحلُّ محلَّ استنتاج أن التراكيب اللغوية لها ركيزة عصبية مُحددة أُرسِيت في مرحلةٍ ما قبل الخمسين ألف سنة الماضية، والأرجح أن هذا الإرساء حدث حينما ظهر الإنسان ذو البِنية التشريحية الحديثة بصفته نوعًا منفصلًا.
أصاب بيكرتون كبد الحقيقة، مع أنه لم يذكر ما هي «الآليات المثمرة الكثيرة» أو «الركيزة العصبية المُحددة» المعنية بتوليد التراكيب اللغوية. ولمعرفة ما هما، ننتقل إلى إنشاء التوصيلات الحركية في مناطق الكلام في الدماغ المرِن عصبيًّا لدى الرضيع البشري، أي التطور الكبير المفاجئ الذي أعطاه القُدرة على معالجة حصيلة المفردات، وتوليد التراكيب اللغوية حينما اكتسب كلماتٍ وظيفيةً وصفات توضيحية من خلال اكتشاف السمات البارزة.
فور اكتمال المكونات الضرورية، كانت اللغة نتيجةً حتمية. وكان الإطار الطبيعي لبنائها هو الجملة، وهي الشكل الموسَّع للمدرَكات. إذ أتاحت الحيز الزمني للإضافات التوضيحية التي تصف الاسم وتحدِّد سماته وأفعاله وسياقه. فالقدرة على التسمية، أي التلفُّظ بكلمة «كلب» مثلًا ولفت الانتباه إليها، يُمكِّن الدماغ من تحديد عدة أشياء عن الكلب. إذ يمكن أن تُحدد من هو صاحب الكلب، ونوع الكلب، وما الذي يفعله، وأين، ولماذا، وكيف، وما هي النتيجة. وتُعَد الجملة مثاليةً لتحقيق توافق جيدٍ بين التجربة غير اللفظية (المُدرَكات الحسية كالمناظر، والأصوات، وما إلى ذلك)، وتَمثيلها اللغوي. وإضافة بضع كلمات توضيحية إلى المزيج الدلالي يزيد من دقة اللغة، أي طريقة مُعالجة المعلومات والتعبير عنها. إذا لُفظت الكلمات في التواصُل مع الآخرين أصبحت «كلامًا»، وإذا جالت في خاطر المرء أصبحت «فكرًا». وبفضل التحكُّم الحركي للآلية المُستقلة في المُدرَكات، يتمكن الدماغ من إدارة نفسه، كما يستطيع معرفة أنه مصدر التجربة عن طريق الحسِّ العميق الذي يُولِّده نشاط الدماغ.
القدرة على التسمية، أي التلفظ بكلمة «كلب» مثلًا ولفت الانتباه إليها، يمكِّن الدماغ من تحديد عدة أشياء عن الكلب.
وكما رأينا، فإنَّ بناء اللغة بطريقة تراكميةٍ لاجينيةٍ تضمَّن استخلاصَ سمات ثانوية ووسائل صياغتها بوضوح. وبذلك، فإنَّ توصُّلنا إلى السمات الثانوية هو الذي أوقعَنا في الكهف الزاخر بالكنوز التواصُلية على غرار «كهف علاء الدين»، ومنحنا القدرة على إنشاء التراكيب اللغوية، التي تُعَد بمثابة مفتاح اللغة. وبعدما كنَّا عاجزين حتى عن طرح أسئلةٍ بمَن، وأين، ولماذا، ومتى، وما، وماذا، وكيف، صِرنا نستطيع الإجابة عنها، وأمكننا استخدام لغةٍ واضحة بدلًا من «الكلام الطرزاني». إن القدرة على الجمع بين المُدرَكات والكلمات لتكوين جُمل وتعديلها «في أثناء الحديث»، يجعل توصيل المعلومات مُمكنًا، ويجعل إفهام المعنى عمليةً مثمرة ومُجدية.
باختصار، فالبنية التحتية التطورية للُّغة الحية مَنجَم زاخر بمعلومات عن نشأتها التدريجية، والركيزة العصبية المسئولة عنها. ومن السهل تحديد الخطوات الفردية التي حوَّلت الإنسان المُنتصب إلى إنسانٍ عاقل. فقد كان الاستعداد الذي وُجِد لدى الدماغ ذي المرونة العصبية بفضل الاحتفاظ بسماتٍ طفولية هو الحالة المُنتقاة، وليست لغة حيوانية. وهذا ما أدى إلى اكتساب الذراع الحركية التي أتاحت تسمية الأشياء إراديًّا، بالإضافة إلى إعادة تداولها في الكلام، واستخلاص السمات الثانوية المدمجة فيها بفعل الفحص الجبهي. بعدئذٍ استُخدمت هذه السمات في عمليات التعبير التي منحتنا اللغة، بالإضافة إلى القدرة على مطابقة تمثيلاتها اللفظية بقالب الواقع الزماني المكاني والسببي للعالم. وهكذا توافرت كل العناصر المطلوبة؛ تسلسل الأحداث الذي أعطى الدماغ الآلية المستقلة لمراقبة نفسه، وتوليد القدرة على الاختيار، التي تُسهم، كما سنرى، بدور مُهم في الاستقلال الوظيفي المتمثل في الإرادة الحرة في عالم حتمي.
في هذا الفصل، عرضتُ موجزًا لتطور اللغة على مرحلتَين، والعملية التي تطوَّرت بها القدرة على تسمية الأشياء حتى صارت أداةً مركبة تُستخدَم لنطق كلامٍ واضح. أما في الفصل التالي، وقبل أن أتابع تقدُّم هذه الأداة في سياق التطور، فسأتناول الجهاز العصبي الذي هو مفتاح قُدرتنا على التفكير. وعلى الرغم من الأهمية الكبرى لهذا الجهاز، فإنه مَخفيٌّ عن الأنظار. يعود السبب في ذلك إلى انغماس هذا الجهاز في جَلَبة المُعالجة التي يُجريها الدماغ العامل، والنمذجة الحالية تتطلَّب بعض الدقة لاكتشافه.