آلية تُحرِّك الجبال: نتيجة مضاعَفة، وتركيز واحد
التطور هو القدرة الفاعلة الوحيدة في الطبيعة التي تخلق ظواهر جديدة.
أودُّ هنا أن أُبرز الهدية التي حباها التطور للبشرية. فالهدية التي منحَها لنا التطور هي القدرة على التركيز، وتسليط الانتباه حسب الرغبة، وإيلاء الاهتمام، والتفكر، وتجنُّب التشتُّت، على عكس دماغ القردة. إنها الطريق إلى المعرفة، وإلى العلم والاختراع، وإلى فهم العالم و«الذات» التي تفهم ما حولها بذاتها.
تُعَد الطريقة التي توصَّلْنا بها إلى فهم ذواتنا والعالم بمثابة إنجاز استعراضي باهر. ومن ثَم، تخيَّلْ أن الكائن الحي عبارة عن تفاعلات مُعقدة، أو تسلسل هرمي من عمليات التلاعب والتوازن البارعة على غرار ما يفعله مهرجو السيرك. فلا يُوجَد ركود ولا دوام في بنية أو وظيفة. تتَّسِم ركيزة استتباب جسم الإنسان بالتجديد وإعادة البناء. فمن أصل ٢٥ تريليون خلية دم حمراء تدور في الجسم، يُدمَّر ٢٫٥ مليون خلية، وتُبنى من جديد كل ثانية. حتى الهيكل العظمي، الذي يبدو بنية مستقرة، يخضع لإعادة التشكيل والتجديد باستمرار، وفي الوقت ذاته، فجميع أنواع الخلايا لها أعمار مختلفة، ثم تُبدَّل أو تُصان أحيانًا بخلايا تكميلية سريعة الزوال، شأنها شأن بقية هذا الكيان المُتغير باستمرار. وتأتي المواد الخام لهذه المهمة الهائلة من إعادة تدوير العناصر المُغذية وابتلاعها، وهي عملية لا تنتهي أبدًا.
يُعَد التذبذب — الخاضع لتحكُّم عضلي إرادي — آلية عصبية تُمكِّن الدماغ من توجيه الانتباه وتسليطه على السِّمة البارزة التي يختارها. ونتيجةً لذلك، فإن انتباه الإنسان لم يَعُد دميةً مفعولًا بها، بل آلية إرادية يمكن أن يَستخدمها متى شاء لإحداث تأثيرٍ فارق. وفيما يلي طريقة عمل تلك الآلية؛ يتحول الانتباه المُسلَّط على شيءٍ مُدرَك مُعين فورًا إلى الكلمة المرتبطة به. هذا يعني أنه قبل فقدان التركيز على الشيء المُشار إليه (أي الشيء المُدرَك) بوقتٍ كافٍ، يكون التركيز مسلَّطًا بالفعل على الكلمة المصاحِبة له. وكذلك، فقبل أن تتلاشى الكلمة بوقتٍ كافٍ، يعود الانتباه مُجددًا إلى الشيء المُدرَك. وتستمر هذه الاستثارة المتبادَلة ذهابًا وإيابًا ما دام الدماغ يحتاج إليها حتى يتوصَّل إلى الاستجابة المُثلى. ويُعَد هذا التذبذُب الانتباهي مألوفًا جدًّا لدرجة أننا لا نكاد نُلاحظه، فضلًا عن أن نُميِّز الدور الذي يؤدِّيه في منحنا التركيز الثابت من أجل أن يُولِّد الذهن استجاباتٍ معرفية. لكن إذا سمَّينا شيئًا ما، أيَّ شيء، فإننا نبدأ دورة التذبذب فورًا. لذا فحين نُسلِّط انتباهنا على شيءٍ ما، سرعان ما ينتقل إدراكُنا من الشيء نفسه إلى عملية انتباهنا إليه. ولكن سرعان ما تتبدَّل هذه المرحلة أيضًا من الدورة، ونرجع إلى الشيء الذي بدأ التذبذب. ومن ثَم، فالفائدة التي يُحققها ارتعاش الرأرأة للعين هي نفسها التي يُحقِّقها تذبذب الانتباه للدماغ. إذ يُحوِّل المعالجة المتواصِلة، التي تتلقَّى تأثير المُحفزات وتُحوِّله إلى استجابة، إلى تركيزٍ ثابت، وفي الوقت نفسه يُبرز الإحساس بالقُدرة الفاعلة التي دائمًا ما يولِّدها الحسُّ العميق بمرحلة صياغة الكلمات في دورة التذبذب.
وهكذا يُبرِز الابتكار العصبي الموضَّح آنفًا كيف أنَّ العملية المسئولة عن اللغة تولِّد الإحساس بالذات الذي دائمًا ما يُصاحب حالتنا المُتيقِّظة. إذ يُوضح كيف أن الإدراك البسيط — الذي تُعزِّزه المعالجة الداخلية التي يُجريها الدماغ لذاته — يتحول إلى وعيٍ بما يفعله الدماغ، وبأنه يفعله.
يُبرِز الابتكار العصبي الموضَّح آنفًا كيف أنَّ العملية المسئولة عن اللغة تولِّد الإحساس بالذات الذي دائمًا ما يُصاحب حالتنا المتيقِّظة.
ويقول أنطونيو داماسيو (٢٠١٠) موضحًا كيف يستخدم الدماغ القدرة التي اكتسبها حديثًا:
للاحتفاظ بسجلَّات موسَّعة في الذاكرة لا تحوي المهارات الحركية وحدها، بل الوقائع والأحداث أيضًا … فهذه مرهونة بالقُدرة على إعادة إنشاء سجلَّات الذاكرة ومعالجتها في حيِّز عمل داخل الدماغ … أي: مخزن مُستقل غير آنيٍّ، حيث يُمكن تعطيل الوقت مؤقتًا، وتحرير القرارات من استبداد الاستجابة الفورية.
ولأنَّ هذا السلوك لا يظهر إلا في الدماغ البشري الواعي، يُعتقد أن إتاحة ذلك الحيز هي وظيفة الوعي. لكن على عكس هذا الافتراض، يكشف النموذج الذي أطرحُه أن آلية اللغة هي المصدر الذي ولَّد جانبَي العقل كليهما، أي الوعي من جهة، وحيِّز العمل الشامل من جهةٍ أخرى. فالوعي (كما رأينا في الفصل الثاني) هو وظيفة الإحساس بالذات الذي تُولِّده اللغة، أمَّا حيِّز العمل الشامل، فهو الفترة الزمنية المُمتدَّة التي يُحدِثها التذبذب دائمًا. وتزامُن الاثنين هو السبب في الافتراض المعقول — وإن كان خاطئًا — الذي يفترض أن حيز العمل الشامل في دماغ الإنسان يُتاح بفضل الحالة الواعية. ففي الحقيقة، كلاهما نتيجة للعمليات العصبية المسئولة عن الكلام والفكر.
بناءً على ما سبق، أقترح أن التعامُلات العصبية الناشئة من التذبذب تُشكِّل إطارًا واقيًا تدخُل إليه المدرَكات المُسمَّاة بكلماتٍ وتخرج منه، أو تُجزَّأ وتُعدَّل، أو تحوز الانتباه مُجددًا حسبما تتطلَّب عملية التواصل الجارية. هذا بمثابة تطور فارق جعل قدرات الدماغ المعرفية بلا حدود. إذ يُحرر مخزون المُدرَكات المُسماة بكلماتٍ في الدماغ من أجل استخدامها فورًا «بأقل مجهود»، أي أقل بكثيرٍ من مستوى الشدة المطلوب لجذب الانتباه وحدوث الاستجابة الحركية. وفي هذا النظام المُميز، يمكن أن تدخل المُدرَكات إطار الكلام أو تخرج منه، ويمكن إجراء العمليات العقلية، ولا يلزم استخدام الاستنتاجات التي جرى التوصُّل إليها في الحال، بل يمكن تخزينها أو تعديلها أو إلغاؤها. ويُعَد هذا النظام مثاليًّا لعمليات التجربة والخطأ المؤقتة؛ لأن إطار الكلام نفسه هو الذي يُصدر التذبذب الجاذب للانتباه، وليس المحتويات التي يبرزها.
في ضوء ما سبق، فلا عجب في أننا نشعر بالحرية الفكرية عندما نُصمم التجارب الحسية داخل أنفسنا، إن لم يكن ابتكارها بالكامل. فما لدَينا هنا هو مزيج لافت بين آلية التذبذب (أساس قدرتنا على التركيز)، وإطار اللغة المُميز الذي يُحررنا من عبء الاستجابة الفورية الإلزامية. إذ يُمكِّننا التذبذب من التركيز حسب الرغبة، وفي الوقت نفسه يفتح إطارُ اللغة هذه الأداةَ العقلية لاستكشاف العالم الذي يُعَد العقل جزءًا منه بلا حدود أو قيود.
غير أن التعامُل مع التذبذب الانتباهي على أنه آلية عصبية لدمج المدخلات المختلفة في نصفَي الكرة المخيَّة ليس فكرةً جديدة. فروبرت أورنستين (١٩٧٢) مثلًا أشار إلى «احتمالية وجود تبدُّل سريع للانتباه بين أنماط مُتناوبة من الفِكر»، واستنتج مارسيل كينسبورن (١٩٧٨) أنَّ «منطق تسليط الانتباه بتساوٍ متناظر على استثارات مختلفة غير متناظرة يكاد يتطلَّب شيئًا مثل نموذج تذبذب». لكن بالرغم من هذه التعليقات الثاقبة والمُبشِّرة، لم يكن من المُمكن آنذاك تناول التذبذب في سياقٍ عصبي أوسع. ولا عجب في ذلك. إذ كان لا بد من توافر الكثير من الخرائط التفصيلية للدماغ، وتحديد مواضع الوظائف الدماغية قبل أن تتسنَّى معرفة ماهية التفاعلات المُعقدة فيما بينها، كتذبذب الانتباه.
يتَّسِم الدور الذي تؤدِّيه الفصوص الجبهية في استخدام قدرة الدماغ على تسليط الانتباه والتركيز على المُدرَكات البارزة بأهميةٍ بالغة. وأحد أسباب ذلك أنَّ إحلال الإنسان ذي التركيب التشريحي العصري محل إنسان سلالة النياندرتال صاحب الدماغ الكبيرة والجبين المنخفض؛ لا بد أنه تضمَّن تحسينًا في آلية عمل الفص الجبهي، ومن المُهم معرفة ما انطوت عليه هذه الآلية. تكمُن الإجابة عن هذا السؤال في العلاقة الخاصة بين الفص الجبهي وباقي القشرة الدماغية، بل والعلاقة الأهم التي تربطه بجذع الدماغ، الذي تستطيع الفصوص الجبهية حشد نشاطه بصفته مصدر قوة استثارية. المُهم أنَّ هذا الرابط الخاص هو الذي يُتيح التحايل على اعتماد الدماغ على مصادر حسية لإحداث التيقظ، ويُفعِّل قدرة استثارية ذاتية. وهكذا فإنَّ وجود مجموعة من السمات البارزة الحسية والسمات البارزة المتولدة ذاتيًّا أيضًا، بالإضافة إلى وسيلة حركية لتوجيه الانتباه كيفما يشاء المرء، يُمكِّن الدماغ من تجنُّب الاستجابة الآنية (أي الاستجابة الوحيدة التي يقدِر عليها الحيوان)، واختيار بدائل مُستقلة أفضل. وهذا ما يجعل الدماغ البشريَّ متحكمًا في إدارة شئونه وانتقاء مساره السلوكي.
وصحيح أنه بعد التطوُّر الكبير الذي أكسَبَ مناطقَ الكلام توصيلاتٍ عصبيةً حركية، استغرق تطور أداة اللغة وقتًا حتى صارت تُتيح خيارات معرفية أفضل. لكن القدرة على تركيز الانتباه — أي تثبيت التركيز على سِمات بارزة عن طريق التلفُّظ بالكلمات التي تُعبر عنها — كانت نقطة انطلاق واعدة. فقد مكَّنت أسلافنا البشر البدائيين من تسليط انتباههم على مُدرَكاتٍ مُعينة بدلًا من تشتُّته، وإدراك العالَم بوضوح أكبر، والإحساس بقُدرتهم الفاعلة. وهذه كانت حوافز قوية للاستمرار في مُمارسة اللغة الأولية الوليدة، حتى تطوَّر «الكلام الطرزاني» الذي كان الأسلاف يتحدثون به إلى لغةٍ واضحة سليمة نحويًّا.
نستطيع الآن أن نُلقي نظرة أعمق على السياق التطوري والتاريخي الذي انبثقنا منه بشرًا مُستقلِّين وواعِين بذواتنا.