اللغة: وسيلة الوصول إلى الإنتروبيا السالبة
لا تُوجَد ظاهرة بيولوجية من دون سوابق. والسؤال هو: ما مدى وضوح سوابق قدرة البشر على استخدام اللغة؟ في رأيي أنها ليست واضحة إطلاقًا.
كما رأينا، لم يكن التواصُل الحيواني صورةً سلَفية للُّغة. بل إنَّ الاحتفاظ بسمات طفولية، والمرونة العصبية لدى الرضيع البشري البدائي، هما اللذان أسفرا عن تعديل التوصيلات العصبية في الجزء الأيسر من الدماغ، وأعدَّا الدماغ لاكتساب آلية عمل (مستقلة) داخل الدماغ. واللغة ليست عملية عادية. بل تستخدِم دارة عصبية مُخصصة تكاد تكون مستقلة في عملها عن آلية الاستجابة الآنيَّة لدى الكائن الحي، لكنها تستطيع توجيه آلية الاستجابة تلك والتأثير فيها.
بالعودة إلى نقطة البداية، يجب أن نسأل ما الذي جناه أسلافنا البشر البدائيون من القدرة الحركية على التسمية؟ باستنباط الظروف التي سادت في ذلك الوقت، يمكن أن نفترض أن الإدراك لدى الإنسان البدائي بعد فترة من التطوُّر الهائل المفاجئ الذي حدث، أي منذ نحو ١٥٠ ألف سنة، لم يكن مختلفًا عن الإدراك لدى أصحاب الإعاقات الكلامية ممن يُسمُّون الأشياء بأسمائها، لكنهم لا يستطيعون ربط بعضها ببعض. هذا يعني أن التمثيل العقلي للعالم لدى الإنسان البدائي كان غِراسه الكلمات، لكنه ظلَّ عاجزًا عن مُعالجة أجزاء وجوانب كبيرة من التجربة الإدراكية، أو التلفُّظ بها، أو التفكير فيها. وصحيح أن هذا القيد ذُلِّل تدريجيًّا، وتوصَّل الإنسان البدائي إلى شيءٍ أشبَهَ بالتراكيب النحوية. لكنَّ تطور الأداة اللغوية التامَّة ظلَّ مكبوحًا طَوال بضعة آلاف من السنين بسبب الظروف المادية الصعبة، والاضمحلال المُعجمي.
ليس من الصعب تفسير سبب المدة التمهيدية الطويلة نسبيًّا (وإن كانت قصيرة من منظور التطور) بين ربط المُدرَكات بتوصيلاتٍ حركية، والأدلة الأكيدة على أنَّ البشر بدءوا التفكير القائم على اللغة قبل حوالي ٥٠ ألف سنة. فالتجانُس بين الجينوم البشري والهوية الميتوكوندرية لدى كل أفراد نوعِنا يُشير إلى أننا بدأنا من أصلٍ واحد، والأرجح أن هذا الأصل كان عائلة أو مجموعة صغيرة من أفراد ذوي صِلة قرابة في مكانٍ ما في جنوب أفريقيا أو شرقها. وقد كانت هذه البداية متواضِعة؛ لأن التكاثُر كان يسير بوتيرةٍ متباطئة في عالَمٍ عدائي محفوف بالمخاطر.
وفي سياق الإشارة إلى أصل الإنسان، وتأكيد الأطروحة القائلة بأن توصيل مناطق الكلام بذراعٍ حركية كان هو الذي بدأ العملية برُمَّتها، يستشهد ديريك بيكرتون (٢٠٠٩) بكلام نعوم تشومسكي، قائلًا:
في مجموعة صغيرة انحدرنا منها كُلنا، طرأت تعديلات على التوصيلات العصبية في الدماغ … وحظي الأفراد الذين طرأت عليهم هذه التعديلات بمزايا عديدة، منها القدرة على التفكير المُعقَّد والتخطيط والتفسير وما إلى ذلك. ثم انتقلت هذه القدرة إلى نسلِهم إلى أن سادت … وليس من السهل تَخيُّل سردية مقبولة عن التطوُّر البشري دون أن تتضمن هذه الفكرة الأساسية، بشكلٍ أو بآخر.
افتراض تشومسكي صحيح كاستنتاجه (المذكور في الفصل الثالث) بأن اللغة البشرية ليست صورة متطورة من التواصُل الحيواني.
في الفترة التي أعقبت تطوُّر الإنسان من الإنسان المُنتصب إلى الإنسان العاقل، والتي ربما بلغت عشرات الآلاف من السنين، كانت هذه المجموعة — التي لم تكن كبيرة عدديًّا، لكنها متجانسة من حيث عُضَيَّات الميتوكوندريا — هي التي ازدهرت وتكاثرت وانتشرت عبر الأراضي الأوراسية. وكانت هذه المجموعة هي التي وصلت في النهاية — عبر الجسور البرية التي تكشَّفت بعد ذوبان الأنهار الجليدية وباستخدام المراكب والسفن — إلى قارة أستراليا وعالَم الجزر. وهذا الانتشار المُذهِل والناجح يوضح لنا أن السلالة الجديدة استطاعت أن تتغلَّب على العقبات كلها، سواء عقبات المسافة أو المناخ أو الأنواع المنافسة لها أو أسلاف البشر أو غير ذلك. كما ينمُّ عن سمات هذه المجموعة التي أتاحت كل هذا، كالفضول والدافع والقدرة على التكيف، وأيضًا على المهارات التنظيمية والتواصُلية، وكلها سمات تشهد على وجود العقول.
هذا وتُوجَد أدلة على أنَّ الانسان مارس التفكير المُتبصِّر بالفعل قبل نحو ١٠٠ ألف سنة. على سبيل المثال، يستشهد بيكرتون (٢٠٠٩) بالأداة المُدبَّبة التي صُنعت في الفترة العاترية في شمال أفريقيا. كانت هذه الأداة سلاحًا صُنِع بأربع مواد؛ الحجارة للطرَف المُدبَّب، والخشب للمقبض، والمُصطَكاء (مادة صمغية لزجة تُستخرَج من شُجيرة تنمو بالقرب من البحر الأبيض المتوسط)، وأمعاء الحيوانات أو نبات الكرمة لربط الطرَف المُدبَّب بالمقبض؛ إذ يستحيل صنع هذه الأداة من دون تخطيط (عقلي) مُستقل موجَّه إلى إنتاجها. وفيما يلي ما قاله بيكرتون:
بدأت الأدوات تتشكَّل قليلًا بقليل. وبدأ الناس يستخدمون المَغْرة وصبغاتٍ أخرى لتزيين أجسامهم. … وقد عُثر على بعض أنواع الحجارة المُستخدَمة في صناعة الأدوات على مسافة مئات الأميال من مصادرها الأصلية، ما يُشير إلى بدء شكلٍ من أشكال المقايضة. وهذا يعني وجود تواصُلٍ بين مجموعات ربما لم تكن تتحدَّث اللغة الأوَّلية نفسها.
وبالرغم من نُدرة الأدلة الأثرية على قدرات أسلافنا الأوائل وإنجازاتهم، فإنَّ التحسينات التي طرأت على الجهاز العصبي المركزي واضحة تمامًا. وهذا يدلُّ على وجود إدراك للقدرة الخلَّاقة المؤثرة (أي إحساس بالذات الفاعلة)، بالإضافة إلى آليةٍ مستقلة فعَّالة جدًّا، وقادرة على التكيُّف مع العالَم. لذا، فبعد انقضاء آلاف السنين من انتشار السكان الأوائل القليلين جدًّا، وتقديم إنسان كرومانيون لأدلةٍ قاطعة على ممارسة نشاط ثقافي، فقد كان هذا النشاط في واقع الأمر نتيجةً تراكمية لكلِّ ما كان يحدُث طَوال هذه الفترة.
أريد هنا أن أُعرِّج على شُحِّ المفردات الذي فرض قيودًا وحدودًا على الأشياء التي استطاع أسلافنا التفكير فيها والتخطيط لها وتنفيذها.
أريد هنا أن أُعرِّج على شُحِّ المفردات الذي فرض قيودًا وحدودًا على الأشياء التي استطاع أسلافنا التفكير فيها والتخطيط لها وتنفيذها. فصحيح أنهم كانوا يمتلكون أدمغةً مزودة بالتوصيلات العصبية اللازمة للكلام، وكانوا واعِين بذواتهم مثلنا، لكن من المؤكد أنهم كانوا يفتقرون إلى الكلمات التي تُمكِّنهم من التفكير بعُمق، وفعل أي شيءٍ بخلاف التكيُّف والقدرة على الحياة. وبالرغم من استحالة وجود سجلَّات حفرية للُّغة المُبكِّرة، يمكننا تكوين فكرة منطقية إلى حدٍّ ما عن ماهية تلك اللغة. فعلى سبيل المثال، يمكن العثور على بيانات تُعَد قالبًا مُحتملًا لمعدل توسُّع اللغة، والظروف التي شكَّلت هذا التوسُّع في كتاب «التراث الصيني» للكاتب «كيه سي وو» (١٩٨٢):
في مطلع القرن الحالي، بدأت «عظام الكهانة» في الظهور، ومنذ عام ١٩٢٨ فصاعدًا، تكرَّرت عمليات التنقيب في عدة مواقع. وقد أطلق بعض الباحثين الغربيين عليها اسم «عظام الكهانة» لأنها كانت تُستخدَم في أعمال الكهانة. لكن ما يُهمنا في الموضوع الذي نتناوله هو أنَّ النقوش على تلك العظام أخبرت علماء الآثار بأن إجمالي المفردات المكتوبة المُستخدمة حينذاك — أي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد — كانت مكونة من نحو ٣ آلاف حرف. وحينما جمع شو شن أول قاموسٍ للغة الصينية في القرن الثاني بعد الميلاد، ارتفع عدد الحروف إلى ٩٣٥٣ حرفًا. أي إن ازدياد عدد الحروف بمقدار ثلاث مراتٍ استغرق ١٤ قرنًا. وبذلك يبلغ معدل الزيادة نحو ١٠ بالمائة لكل قرن، وَفق الحساب التراكمي. وفي القرن الثامن عشر بعد الميلاد، نُشر قاموس كانج شي الذي يحتوي على ٤٢١٧٤ حرفًا. وباتخاذ قاموس شو شن أساسًا مرجعيًّا، فإنَّ ازدياد عدد الحروف بمقدار أربع مرات استغرق نحو ١٦ قرنًا، ومن المُثير للاهتمام أنَّ معدل الزيادة التراكُمي هنا أيضًا يبلغ ١٠ بالمائة لكل قرن. لذا لنستخدم هذه المعادلة ونحسُب بترتيبٍ عكسي، بدءًا من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، الذي يُعتقَد أنَّ المفردات التي استخدمتها سلالة شانج قد احتوت فيه على نحو ٣٠٠٠ حرف. سنجد عندئذٍ أنَّ عدد الحروف يُفترَض أنه كان ٢٧٠٠ حرف في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، و٢٤٣٠ حرفًا في القرن السادس عشر قبل الميلاد، وهكذا. وحينما نصل إلى القرن السابع والعشرين، يُفترَض أنَّ نجد عدد الحروف ٧٦٦ حرفًا. وصحيح أنَّ هذا التقريب فضفاض جدًّا وغير دقيق، لكنَّ أي شخصٍ على دراية بمتطلَّبات ما يُسمَّى «اللغة الإنجليزية المبسَّطة» حتمًا سيُدرك دلالة هذا التقريب. وذلك لأنه من المُسلَّم به عمومًا أنَّ المرء إذا كان يعرف نحو ٨٠٠ كلمة، فيُمكنه تسيير شئونه الحياتية اليومية من دون عناءٍ كبير. وإذا كان الأمر كذلك، فقد طرحنا تقديرًا تقريبيًّا للزمن الذي استَخدمت فيه اللغة الصينية ٨٠٠ حرف، وهو تحديدًا عهد الإمبراطور الأصفر.
ما يُهمنا هنا أن الإمبراطور المدعو بالإمبراطور الأصفر هو الذي يُعتقَد أنه وحَّد المُقاطعات الصينية، ووضع حدًّا لنمط حياة التَّرحال، وحوَّل السكان إلى الاعتماد على الزراعة والعيش في مُستوطنات دائمة. ومن ثَم، فإنَّ متطلبات التواصُل المعقدة التي فرضتها المُمارسات والعلاقات والحِرَف والظروف الجديدة خلقت الحاجة إلى أدواتٍ لُغوية إضافية للتكيُّف مع الوضع المُتغير. تُسلط البيانات التي جمعها الكاتب كيه سي وو الضوء على الصلة بين العرض والطلب والظروف، واستجابة اللغة لتلبية تلك الحاجة. إنها تُحدد الأسباب التي أدَّت إلى «الانطلاقة» اللُّغوية حين طرأ في نمط الحياة، بعد العصر الجليدي والعصر الحجري، تحولٌ كبير استدعى مستوًى أدقَّ من التواصُل، يشمل الاحتفاظَ بسجلات (مكتوبة). ومن ثَم، فبأخذ التبايُنات المحلية في الحسبان، يُمكننا أن نَعتبر ذلك نموذجًا لتوسُّع اللغة وتحسين وسائل التواصُل في كل الأماكن التي يُطلَق عليها مُهود الحضارات.
بمدِّ خط الانحدار على استقامته إلى الوراء في الزمن، وافتراض أن نمط حياة الشعوب التي تعيش على الصيد وجمع الثمار أو الرعاة الرَّحالة لم يتغيَّر إلَّا قليلًا بمرور القرون أو حتى الألفيات؛ سنصِل إلى مجموعةٍ أساسية من مُفردات ضرورية ومبسطة مكوَّنة من بضع مئاتٍ من الكلمات لا غِنى عنها. وبالرغم من قلة هذه المفردات الأولية، فلا بد أنها كانت كافية لتُحقِّق شكلًا بدائيًّا من التراكيب اللغوية بمساعدةٍ من الإيماءات، وتدعم الإحساس ﺑ «الذات»، وتُتيح تحكمًا مُعتدلًا في السلوك الآني. وصحيح أنَّ الإنسان العاقل الأول كان يفتقر حتمًا إلى التطوُّر الفكري وعُمق المفردات اللازمَين للتفكير العميق، لكنه تجاوز الحدَّ الأدنى اللازم للتواصُل الفعال بكثير؛ وبذلك لم تكن المسألة سوى مسألة وقت، وتَغيرٍ في الظروف، وازدياد في المفردات حتى يكتمِل تمثيل العالَم في ذهنه، وتتحقَّق الدقة النحوية اللازمة لهذا التمثيل تحقُّقًا تامًّا.
وصحيح أنَّ الوصول إلى أداة لُغوية غنية مُستقرة مركَّبة واضحةٍ يُعَد شيئًا رائعًا. لكن التمثيل الدقيق للعالَم لم يكن سوى إنجازها الأول. إذ كان من الحتمي أن يؤدي تكرار التفكُّر في قالب الواقع بمرور الوقت إلى تعديل القالب نفسه، وإلى طرح الأسئلة عن المادة وركيزتها. وقد كانت اللغة هي التي مكَّنت الدماغ من البحث عن فَهم عقلاني للعالم والخروج من عباءة الخرافات.
والأصعب من فك طلاسم تفاصيل العالَم المادي وتعقيداته هو نمذجة العقل الواعي الذي يفكُّ تلك الطلاسم. فقوانين الفيزياء التي يعرِف العقل أنها تحكُم العالم يبدو أنها لا تنطبق إطلاقًا عليه هو نفسه، ومن هنا تأتي الحيرة. والتناقُض بين الحتمية وممارسة الإرادة الحرة هو جوهر المشكلة، ومُهمتنا هنا هي توضيحها.
لكن قبل أن آتي على ذِكر «الاستقلال الوظيفي» لدى الإنسان في الفصل العاشر، علينا استعراض بضع مسائل مُهمة. وأولى هذه المسائل هي العقل. في الفصل التالي سأستعرِض مصطلح «العقل»، وأُحدد بِنيته العصبية، ثم سأوضح ماهية المُكوِّن الدماغي الذي تقوم عليه هذه البنية، ووظيفة اللغة التي هي أساس التواصل والتأمُّل والفكر.