ما هذا الشيء المُسمَّى العقل؟
الكِيان الذي نُسمِّيه العقل ربما يكون هو الجزء الذي نَعِيه من التنظيم الوظيفي في الدماغ.
إننا نتحدَّث عن العقل كأننا نعرف ماهيته مع أنَّ كل أفكارنا عن طبيعته الحقيقية ليست مؤكدة إطلاقًا. فالتعامُل مع العقل على أنه مجرد آلية عمل الدماغ خاطئ مثل اعتباره كِيانًا غير مادي. وفي هذا الفصل، سأوضِّح أن ما نتحدَّث عنه عبارة عن نظامٍ عصبي مُميز وقوي، وأن هذا النظام وُلِد حينما توصَّل الدماغ إلى ذاته. ولا مُبرر للغموض الذي يكتنِف مصطلح «العقل».
لكن هذا لا يَعني أن عدم الدقة الذي يُحيط به مفاجئٌ بأي حالٍ من الأحوال. فجذوره الدلالية تعود إلى العصور القديمة، حينما كان التخمين هو الشيء الوحيد المُتاح. حتى في وقتنا الحاضر، نصطدم بتقاليد عزَّزها القِدَم — سواء أكانت هذه التقاليد دينية أم تعود إلى علم النفس المنطقي — ولا بد أن تخليص العقل من هذا الإرث أمرٌ صعب للغاية. كما أن علوم الدماغ نفسها ليست بريئةً من إساءة استخدام المصطلح. انظر مثلًا إلى ادعاء ديفيد أوكلي (١٩٨٥) الذي قال فيه إنَّ «ظهور النمذجة العصبية يُناظر ظهور العقل»، وهذا تعميم فج؛ لأننا لو اعتبرنا كل التمثيلات العصبية — بدايةً من الإدراك الحسِّي البسيط لدى كائن الباراميسيوم، إلى وعي البشر الواعي بذاته — أمثلةً للعقل، فسيفقد المُصطلح كل خصوصيتِه، ويُصبح بلا جدوى.
العقل نظام عصبي يختصُّ به الإنسان دون غيره من الكائنات، وقد وُجِد للمرة الأولى حين استطاع الدماغ — بفضل إمداد مناطق الكلام بالتوصيلات الحركية — أن يتوصَّل إلى ذاته، أو بالأحرى حينما توصَّل الدماغ إلى سِماته الذاتية التي استطاعت آليةُ اللغةِ المُستقلةُ الوصول إليها. ولا يخفى أن هذا يُمثِّل جزءًا بسيطًا جدًّا من إجمالي آلية عمل الدماغ. ولذا فإنَّ اعتبار العقل — الذي يُعَد مجرد نظامٍ فرعي في الدماغ، ولا يصِل إلا إلى جزءٍ محدود منه — بمثابة النطاق الإجمالي لآلية عمل الدماغ؛ خطأ فادح. وعلى عكس ذلك، فعين الصواب هو أن اللغة تُساعد الدماغ للوصول إلى مخزون المُدرَكات وحل المشكلات التي تفوق حدود قدرات الاستجابة الآنية لدى الكائن الحي. وهذه الوظيفة الجديدة لا يحوزها دماغ الحيوان. بل تُنشِئها وتصونُها الآلية المُستقلة في دماغ الإنسان. وتؤدي إلى إدراكٍ مُتولِّد ذاتيًّا، دائمًا ما يكون مصحوبًا بإحساسٍ بذاتٍ فاعلة تُمثل جزءًا من التجربة الإدراكية. ومن هنا، فإن ما يُولِّده العقل لا ينفصل عن العقل المُولِّد. وصحيح أنَّ تلك التجربة الإدراكية الذاتية لا يُمكن إدراكها بالتأمُّل في الذات، ولكن من السهل اكتشاف تفاصيلها.
إنني أكتب هذا الكلام وأنت تقرؤه بفضل عقولنا، أي ذلك النظام العصبي الذي نتحكَّم فيه بتحكُّمٍ عضلي إرادي. ولأن العقل يعمل بحريةٍ ضمن نطاق إمكاناته ومن دون قيودِ الاستجابات الآنية، فإنه مصدر مَلَكة التخيُّل المُميزة الفعالة. وهذه المَلَكة الناتجة من العقل هي التي تولِّد كل صور الاختراع والابتكار والعلوم والبصيرة، علمًا بأنَّ هذه الأشياء تُثمر نتائج تُشكِّل آليةً تطورية بالِغة الأهمية حين تقترن بسعي الكائن الحي إلى النجاح والبقاء على قيد الحياة. وتأكيدًا لقيمة الخيال، أي مجال العمليات (العقلي) المُدار باللُّغة، يُذكِّرنا جون ماينارد سميث وأورش ساتماري (٢٠٠٩) بما يلي:
من الجوانب المُهمة في اللُّغة أننا نستطيع التحدُّث عن أشياء لا نستطيع فعلها أبدًا. فلتنفيذ أفعالٍ مُعقدة ذات مغزًى، لا بد أن نمرَّ بالعديد من الأفعال المُستحيلة في رءوسنا. ولإجراء أبحاثٍ علمية دقيقة، ووضع نظرياتٍ علمية موثوقة، فإننا بحاجة إلى خيالات وتصوُّرات تامَّة النضج.
والآن، لنُلقِ نظرةً أقرب على مصدر خيالنا، ألا وهو العقل بالطبع. من اللافت أن العقل هو النظام العصبي الوحيد الذي يُولِّد التفكُّر في الذات، أي إدراك عملية الإدراك وإدارتها. تذكَّرْ من الفصلَين الثاني والسادس أن الاستجابة الحركية المُتمثلة في الكلام والفكر تُولِّد إحساسًا بذاتٍ فاعلة. وهذا الإحساس جزء من تذبذب الانتباه الذي يُمكِّن النظام من التفكير فيما يُريد، ويتضمَّن تفكيرَه هو نفسه في الذات المُفكِّرة نفسها. لا يُوجَد نظام عصبي آخَر يُمكنه فعل ذلك؛ فدماغ الحيوان — الذي يفتقِر إلى الآلية المُستقلة المنوطة بتلك المهمة، أي اللغة — لا يُمكنه أبدًا الارتقاء فوق مستوى الإدراك الحسِّي البحت الذي لا يتضمَّن وعيًا بالذات.
تؤيد نظرية «الوقت المُستغرَق» التي وضعها بنجامين ليبيت (١٩٩٠) دور عملية «التفكر في الذات» في العقل. فالعمليات العصبية تعتمِد على الزمن؛ لذا فإنَّ تحقيق مُستوياتٍ أعلى من الدمج يستلزِم زمنًا أطول. وبذلك فإن التفاعُلات العصبية التي تقلُّ مدتها عن زمنٍ يتراوح بين ٣٠٠ و٣٥٠ ملِّي ثانية (أي المُستوى المطلوب للإدراك) تحدث تلقائيًّا، في فجوة من الظلام العصبي، إن جاز القول. وفَور الوصول إلى مستوى الإدراك، يُقيِّم جذع الدماغ البيانات الحسية المدمجة (التي تُكوِّن الكتابة الداخلية)، ولا بد أن يتبع ذلك استجابة آنية؛ وذلك لأن دماغ الحيوان لا يتضمَّن آليةً أخرى متاحة للاستجابة. أمَّا الدماغ البشري المُزوَّد بالعقل، فيتضمن الآلية المُستقلة الخاصة بالكلام والفكر التي يستخدِمها في إبطال دافع الفعل المُحتمَل أو تعديله أو استبداله أو التحكُّم فيه، وإذا وجد ذلك الفعل مناسبًا بعد التفكير فيه، فإنه يدعه يمرُّ إلى الجهاز الحركي ليُنفِّذه آنيًّا. (انظر الفصل العاشر للاطلاع على تقييم هذه الآلية في إطار الاستقلال الوظيفي لدى الكائن الحي). وعلى هذا، فإن نظرية الوقت المُستغرق التي طرحها ليبيت عبارة عن ترتيبٍ ثلاثي المستويات؛ المستوى «دون الإدراكي» (الذي يتضمن العمل في فجوةٍ من الظلام العصبي)، و«الإدراك» (مستوى دماغ الحيوان ذي الاستجابة الآنية)، و«الإدراك البشري الواعي بذاته» (يتَّسِم بمعالجة داخلية مُستقلة وتحكُّم واعٍ في الذات). المُهم فيما سبق أن الطبقة الثالثة (طبقة العقل) مبنية على بِنياتٍ ووظائف وتكيُّفاتٍ إضافية لإدارة الكتابة الداخلية من داخل الدماغ، والعودة إلى عملية التفكُّر الواعية بذاتها والتفكير فيها بصفتها تجربة إدراكية. عادةً ما يستخدِم الإدراك البشري أعلى طبقتَين، إذ يدخل طبقة التفكُّر الواعي بذاته ويخرج منها حسب الحاجة، ويستقرُّ خامِلًا في الطبقة الوسطى، وينزل إلى الطبقة السُّفلى أثناء النوم وعند انخفاض إمداد الدَّم والأكسجين. ومن ثَم، فإن الطبقة العُليا — العقل — عبارة عن عمليةٍ مادية، وليست شيئًا مجردًا عابرًا بلا بنية، مثلما يُوحي الفهم الساذج في كثيرٍ من الأحيان. على أي حال، فإن الحرية التشغيلية التي يُتيحها هذا النظام العصبي — العقل — للدماغ؛ تُعَد بمثابة جواز سفره إلى عالَمٍ يكون فيه فاعلًا مؤثرًا في تشكيل النتائج.
وتأكيدًا لحقيقة هذا النظام العصبي المُسمَّى العقل ودوره، يقول هاسلر (١٩٧٨) إننا:
لا بدَّ أن نستنتِج من ذلك أن تجربة وعينا الفعلية لا تستوعِب إلَّا جزءًا صغيرًا من كلِّ ما يمكن إدراكه. فمجال الإدراك مُقيد، ويستثني عددًا من الإنجرامات (الإنجرام هو وحدة من المعلومات المعرفية داخل الدماغ. ونظريًّا، هي الوسيلة التي يتم من خلالها تخزين الذكريات كتغيُّراتٍ فيزيائية أو كيميائية حيوية في الدماغ استجابةً للمُنبهات الخارجية). وهذا يقودُنا إلى افتراض وجود أنظمةٍ عصبية مستقلة عن معظم الأنظمة العصبية الأخرى، ولدَيها القدرة على أن تُنشِّط، في أي لحظةٍ معينة، جزءًا صغيرًا فقط من الكمية الضخمة من الذكريات المُخزَّنة في الأجزاء القشرية الدامجة التي لا تُعتبر مناطق حسِّية أساسية.
تتَّسِم العلاقة بين العقل وباقي الدماغ بأهميةٍ شديدة. فإذا كان بإمكاننا أن نجعل وعينا مقتصرًا فقط على الشيء الموجود في بؤرة التركيز في لحظةٍ مُعينة، فيُمكننا أن نستخدِم شرط دخول هذه البؤرة لنكتسِب فهمًا عميقًا بشأن نطاق تأثير العقل وحدوده ودَوره في سياق العلاقة بالأنظمة الفرعية الأخرى في الدماغ. فمِن السهل، مثلًا، أن نَعتبر منعَ دخول مُدخَلٍ مُعين (أي: قمعه أو كبحه) بمثابة استجابةٍ لمُحتوًى تهديدي. ولكن كي يُقرِّر الدماغ ما إذا كان المحتوى تهديديًّا أم غير تهديدي، فلا بُدَّ من وجود إدخالٍ أوَّلي في الدماغ على المستوى دون الإدراكي. ونظرًا إلى أنَّ عملية مُعالجة المحفزات الواردة تعتمِد على الزمن وتتطوَّر فيها المُدرَكات تدريجيًّا، يمكن أن تَجري تدخُّلات عصبية مُثبِّطة، وتمنع الاندماج التام لتلك المُدرَكات ودخولها بؤرة الإدراك.
للإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أن ننتقِل إلى الآليات المُثبطة التي تعمل بين مراكز الدمج العُليا والدُّنيا في الجهاز العصبي المركزي. مهمة هذه الآليات هي الحفاظ على توازنٍ مفيد بين الأجهزة الفرعية المُتفاعلة بما يعود بالنفع على مصلحة الكائن الحي التي تُستشعَر بديهيًّا. وبإمكان المراكز العُليا أن تطغى على المراكز الدُّنيا، لكنَّ المراكز الدُّنيا أيضًا تستطيع معارضة عمل المراكز العُليا في الحالات التي تتضمَّن مسائل مُتعلقة بالحفاظ على الحياة. وتأكيدًا لذلك، قال جيرالد إيدلمان (١٩٩٢) إنَّ «هذا الرأي عن الانتباه ما زال يعترِف بالأهمية الكبرى الطاغية لآلياتٍ غير واعية، والسلوك التوجيهي، الذي يُنفَّذ بوساطةٍ من تخطيطٍ شامل عند الاستجابة لحالات الطوارئ.» وبناءً على ذلك، من المُمكن تمامًا ألَّا يكون العقل هو الذي يكبح المادة التي تُحَس دون مستوى الإدراك.
يتتبَّع جيرد سومرهوف (١٩٧٤)، في كتاب «منطق الدماغ الحي»، مسارات مُدخَل عصبيٍّ مُعين. والنتائج التي توصَّل إليها مهمة جدًّا، على الأخص لتوضيح آليات الكبح. وفيما يلي نُعيد صياغة تلك النتائج:
يتدفق تيار فائق السرعة من الاستثارات من المناطق القشرية التمثيلية إلى قشرة التقييم الجبهية. ومن هنا ينزل التيار إلى المنطقة الحوفية والتكوين الشبكي حيث إمَّا تقوم آلية التنبيه بوظيفتها في التنبيه إليه أو تكبحه. يعتمِد قرار التنبيه أو الكبح على التأثيرات الشعورية للمُدخلات. وإذا قبلت البوابة الرقابية تحت القشرية ذلك التيار، فإنه يُرسَل مرةً أخرى إلى مراكز التمثيل والتقييم في القشرة الدماغية، لكنه في هذه المرة يكون مصحوبًا بعُنصر التنبيه أو الاستثارة المُضاف ليؤدِّي إلى الإدراك أو الاستجابة الحركية أو كليهما. أمَّا إذا لم تقبله الآلية الرقابية، فإنَّ التدخُّلات العصبية المُثبطة تمنع الاستثارة الناجمة عنه، وتنتهي العملية من دون العودة إلى مناطق الوعي العُليا.
لأنَّ العقل الواعي غير واعٍ بالإجراءات الوقائية التي تُحيط به، فهو لا يستطيع إدراك أنه خاضع للرقابة والتوجيه.
ومهما كان التوصيف الذي يستطيع الدماغ الواعي أن يتوصَّل إليه عن ذاته (علمًا بأننا سنتناول جذور ذلك التوصيف المتأصِّلة في عملية تأمُّل الذات في الفصل التالي)، فإنه بحاجةٍ إلى أداةٍ متطورة مُعقدة كي يؤدي تلك المهمة. وهذه الأداة هي اللغة، الذراع الحركية لدى النظام ووسيلة التوصيل. وقد تناولنا تطوُّر اللغة في الفصول الرابع والخامس والسابع. أما في هذا الفصل، فإننا نتناول الوحدة الناشئة التي يتفرَّد بها الدماغ البشري وتقوم عليها آلية عمل اللغة. تتَّسم هذه الوحدة بأنها نظام مُعقد وموزَّع على عدة أجزاء من الدماغ يتضمَّن مجموعة متنوعة من التكيُّفات الخاصة، ونموًّا عصبيًّا تكميليًّا، وترتيباتٍ وظيفية. ولا بد لأدوات توليد العبارات أن تتضمَّن ما يلي:
-
لَبِنات أساسية، وهذه تتمثَّل في مُدرَكات مُرتبطة بكلمات، علمًا بأن هذه المُدرَكات تكون هي الوحدات الأساسية التي تقوم عليها التعامُلات
-
إجراءات عمل مُعتادة (القواعد النحوية) لتنظيم المادة بما يتوافق مع مواصفات التركيب اللغوي
-
مخزن للذِّكريات (القصيرة الأمد والطويلة الأمد على حدٍّ سواء) مزوَّد بآليةٍ للاسترجاع
-
القُدرة على توليد المفاهيم والمُدرَكات لإمداد العقل بما يَلزَم للفهم والتكيف
-
مناطق الكلام
-
الفصوص الجبهية لمراقبة النتائج والتركيز عليها
-
الرابط بين نصفَي الكرة المخية (الجسم الثَّفَني) لدمج الجوانب الدلالية والتلميحية من المخرجات
-
مناطق ربط التمثيلات الحسِّية المُتعددة٣ لتوليد مُدرَكات ومفاهيم ومُخططات لاستخدام اللغة
-
نظام التنبيه في جذع الدماغ لمنح الأولوية في تخصيص الطاقة العالية لإنتاج الأفكار والكلمات
-
تشجُّر الخلايا العصبية الإضافي المُمتد٤ الذي يُعدِّل التوصيلات العصبية في الدماغ البشري، ويُعزز أداة اللغة بتوصيلاتٍ تكميلية ومزيدٍ من النمو
حرِيٌّ بنا أن نُدرك أن التشجُّر المذكور آنفًا يَحدُث بدافعٍ من العقل، ويؤكد أن النظام الفرعي للدماغ الذي يدعمه يستخدِم نسيجًا عصبيًّا مُعيَّنًا، بالإضافة إلى أنه يُعدِّل بِنياتٍ موجودة سلفًا ويُكيِّفها، ويُنشئ تشكيلاتٍ جديدة منها. ومن الواضح أيضًا أن الدماغ، من دون وجود هذا النظام الفرعي المُتعدِّد الجوانب، لن يستطيع إدارة تجربته المُستمرة وتشكيلها والتفكير فيما يفعله. لن يستطيع أن يُدرك أنه فاعل مؤثر؛ لأنه سيكون منغمسًا كليًّا في إجراءات الاستجابة الآنية القديمة. فلولا وجود عقلٍ ليُفكر في ذاته، ويُجري التغييرات اللازمة وقت الحاجة، لأصبحنا مثل أبناء عمومتنا القردة العُليا؛ أذكياء وأصحاب حدس، ولكن بلا سيطرة مدروسة مُتبصرة من الدماغ. وما كنَّا لنحظى بالعالَم العقلي والمعرفة التي لدَينا الآن، وكذلك الاختيارات التي نُقرِّرها لإدارة سلوكياتنا.
كما رأينا، تستطيع الاستجابة المُستقلة (أي اللغة) أن تتدخل في مسار الأحداث وتُغيِّره عند المستوى الذي يتراوح بين ٤٠٠ و٤٥٠ ملِّي ثانية من الدمج العصبي، حيث كانت ستحدُث استجابة حركية آنية لولا وجود نظامٍ مُستقل. وهذا النظام الجديد يمنح الدماغ دورًا فاعلًا في عملية صنع القرارات عن طريق توليد خياراتٍ عقلية ليدرُسها جذع الدماغ. وصحيح أن الخيارات المولدة ذاتيًّا — كما سنرى في الفصل العاشر — لا ترقى إلى أن تتساوى مع الإرادة الحرة، لكنها أحد المكونات المُهمة في الاستقلال الوظيفي الذي منحَنا إيَّاه الوعيُ الواعي بذاته القائم على اللغة. لكن العقل الساذج أبسط من أن يستطيع استيعاب الطريقة التي حدث بها هذا التطور المفاجئ، أو حتى أنَّ ثَمة تطورًا فارقًا جعل الدماغ قادرًا على المُعالجة المتبصرة للمعلومات قد حدث أصلًا. ومن ثَم، فله مُطلَق الحرية في تبنِّي أي تفسيرٍ يُريده، كوجود «كِيانٍ فاعلٍ داخلي»، أو الإيمان بخُرافة الخَلق التي يُفضِّلها، أو التسليم بأنَّ ما حدث لغزٌ يستعصي على العقل. يُعبِّر إي أوه ويلسون (١٩٧٨) عن ورطة العقل البسيط بأسلوبٍ مُثير للتخيُّلات والصور الذهنية:
يوجَد مأزق صعب يترك اللغز النفسي الهائل عن «الوعي بالذات» معلقًا في وضعية خطرة بين مُستنقعات الماورائيات العكِرة المُوحلة، ومراعي التحليل الاستبطاني الخِصبة لكنها غير صالحة للسُّكنى. ولأنه عالِق كروحٍ تائهة في هذه الحيرة البشعة، لا يعترف بتفسير علمي.
لكن كما رأينا، لا يُوجَد «لُغز نفسي هائل» ولا «حيرة»، بل يمكن تفسير المسألة برُمَّتها بكل وضوح. بعبارة أخرى، يمكن إنشاء تمثيلاتٍ واضحة تُبيِّن التغييرات النوعية التي جعلت الدماغ فاعلًا مؤثرًا في توليد تجاربه وإدارتها. ومن ثَم، فإن ترك تفسير التجربة البشرية لتخمينات العقل البسيط ليس خيارًا مقبولًا. ولمعرفة ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك، سأستعرض في الفصل التالي الأوهام والتفسيرات الخاطئة التي يُسفِر عنها تفكُّر العقل البسيط في ذاته.