التحوُّل السحري المؤدي إلى خداع الذات: دور الاستبطان
إذا أُريدَ الدفاع عن المذهب الفيزيائي، فإنَّ الجوانب الظاهراتية (الفينومنولوجية) من التجربة يجب أن تُفسَّر هي نفسها بتفسيرٍ فيزيائي مادي.
أنتقلُ الآن إلى استعراض المُعتقَدات التي سيُكوِّنها العقل الواعي عن ذاته حتمًا حين يُترَك لموارده الخاصة. إذ أوضحُ للقارئ كيف أنَّ المآل الحتمي للاستبطان هو توليد انطباعٍ بأننا (البشر) كِيانات ذات إرادةٍ حرة، وقدرة مُسبِّبة وغير مُسبَّبة. ولكي أفعل هذا، فسوف أُحدد أربعة مصادر لأدلةٍ داخلية، علمًا بأنَّ هذه المصادر تبدو راسخة، غير قابلة للجدل. وتجدُر الإشارة إلى أنَّ خداع الذات الذي يُبيِّن لنا بجلاءٍ ما الذي يمكن أن يحدُث إذا لم ننتبِه إلى تحذير كونراد لورنز (١٩٧٨)، الذي قال فيه:
في مرحلةٍ مبكرة، أدركتُ أنه من أجل أن يتحلَّى العالِم بالموضوعية، يجب أن يفهم الآليات الفسيولوجية والنفسية التي تُنقَل بها التجارب إلى الإنسان. يجب أن يفهمها، وهذا من أجل السبب ذاته الذي يُحتِّم على عالِم الأحياء أن يعرِف مكونات الميكروسكوب وأن يفهم وظائفه البصرية. أي من أجل ألَّا يتوهَّم العالِم أنَّ سمةً معينة تُعزَى إلى الشيء الذي يرصده، في حين أنها تكون ناتجةً في الواقع من قيود الجهاز الذي يستخدمه.
أول الأدلة التي تبدو قوية هو أن العقل الواعي «يعرف» (تلقائيًّا، كما سيتبيَّن) أنه حُر؛ لأنه لا يُمكن أن يعرف ذاته على أنها غير حُرة، أي لا يعرف أنه مُسبَّب أو مُسيَّر تسييرًا حتميًّا. السبب في ذلك أن الحالة الواعية — الحالة التي يتمكن الدماغ فيها من التأمُّل والتفكر — «تُفعَّل» عند نقطةٍ مُحددة ضمن سلسلة أحداث العمليات العصبية التي لا يُمكن أبدًا الوصول إلى عناصرها السابقة (التي حدثت قبل ظهور حالة الوعي بالذات)، ومِن ثَم لا يمكن معرفتها. وهذا يتَّسق مع نظرية «الوقت المُستغرَق» التي وضعها ليبيت بخصوص عناصر الأحداث التي تكون أقصر زمنًا من أن تصِل إلى الحد الأدنى من الاندماج اللازم للوعي، الذي يتراوح بين ٣٠٠ و٣٥٠ ملِّي ثانية. ونظرًا إلى أن القدرة على الوصول إلى الذات تعتمِد على التفكير، وأن التفكير استجابة مُستقلة تُفعَّل عند لحظةٍ معينة، يستحيل أن توجَد أي ذكرى عما حدث قبل ظهور التفكير. وكأننا نسأل عن ماهية ما يُنيره المصباح قبل تشغيله. ومن ثَم، فالسؤال عما جرى في السابق لا معنى له من الناحية العملية، ولا من ناحية تجربة المرء الذاتية. فالدماغ الواعي بذاته يستحيلُ أن يحمِل أيَّ ذكرى عمَّا أوجده؛ لأنه لم يكن موجودًا بَعدُ وقت أن كان ذلك الحدث على وشك الوقوع. وبذلك، فالحالة الواعية دائمًا ما تكون مُقتصرة على التجربة التي تحدُث في حينها. حتى الذكريات هي مجرد مدخلات في الوقت الحاضر. بناءً على هذه التأثيرات الطبيعية، فلا يسع الدماغ المزوَّد بالعقل أن يشكَّ في تجربته المباشرة، وهي أنه:
-
ليس له مصدر مُسبِّب يُمكن تحديده؛
-
وأنه وجِد بطريقة لا يمكن تحديدها؛
-
وأنه يُعَدُّ كِيانًا مُسبِّبًا وغير مُسبَّب داخل إطار فيزيائي مادي.
أما الدليل القوي الثاني فهو «شعور» العقل الواعي بأنه مصدر تجربة وعيِه بذاته. ينبع هذا الانطباع من الحسِّ العميق، أو «الشعور بقُدرتنا الفاعلة أثناء الأفعال» الذي لا ينفكُّ يصاحب كلامَنا أو تفكيرنا. والنتيجة أنَّنا لا يسعنا أن نشكَّ في أننا نحن مَن أوجدنا تلك التجارب الإدراكية، ونستنتِج حتمًا أننا نحن مَن أوجدنا تجربةَ وعيِنا بذاتنا هي الأخرى. وهكذا، فبناءً على الاستبطان، ومع أنَّ هذا قد يبدو غريبًا، لا يَسعُنا إلا الشعور بأن تجربتنا الإدراكية الذاتية مُستحدثة ذاتيًّا، وأن الانطباع بأننا أصحاب قدرة مُسبِّبة وغير مُسبَّبة صحيح.
أمَّا الملَكة التوليدية في الدماغ البشري، فتُدخِل عنصرًا جديدًا في الصورة. وهذا له علاقة بالمنطقتَين الحركيتَين التكميليتَين على الأسطح العُليا من نِصفَي الكرة المُخيَّة، أي البنيات التي تُسجل الاحتمالات السابقة للفعل، سواء أكانت القشرة بشرية أو حيوانية. لكن في حين أنَّ الاحتمالات السابقة للفعل في دماغ الحيوان تعتمِد بالكامل على الموقف المادي، فإن دماغ الإنسان قادر على توليد احتمالاتٍ سابقة للفعل بمجرد التفكير في أفعال ممكنة. تتضمن هذه العملية تحفيز الآلية المُستقلة كي تنتج بدائل افتراضية يمكن أن يقيِّمها جذع الدماغ وينفذها ليكمل العملية. وهذا ينطوي على مجموعة من الخيارات التي يُنتجها الفكر ليساعد عملية اتخاذ القرارات في اختيار الاستجابة الملائمة والمُثلى. إنها الملَكة التي تُمكِّن العقل الواعي من تخطِّي القيود المادية المفروضة على أدمغة القِردة غير المزوَّدة بالعقل، وغير الواعية بذاتها.
على عكس أبناء عمومتنا من المخلوقات الأدنى من البشر، «يُمكننا» أن نقول لأنفسنا إننا «نستطيع» فعل هذا أو ذاك؛ لأنَّنا لدَينا لغة نقول بها ولدَينا بدائل عقلية نختار من بينها.
لكن بالرغم من التطوُّر الكبير اللافت الذي جعل دماغ الإنسان ذا إدراك معرفي موجَّه بالفكر، يظلُّ الاستبطان قوةً لا يُستهان بها. فعند مُمارسته في فهم الذات، يُضلِّلنا بطريقةٍ جديدة؛ فعلى عكس أبناء عمومتنا من المخلوقات الأدنى من البشر، «يُمكننا» أن نقول لأنفسنا إننا «نستطيع» فعل هذا أو ذاك؛ لأنَّنا لدَينا لغة نقول بها ولدَينا بدائل عقلية نختار من بينها. وفوق ذلك، «يُمكننا» التفكير في كيفية تنفيذ خياراتٍ أخرى، وهذا يمنحنا الإحساس بأننا قادرون على توجيه أنفسنا، ومُتمتعون بحرية الاختيار من بين البدائل، ويمنحنا البيانات التي تُقنعنا بذلك. ومن هنا نقتنع بأننا نمتلك الإرادة لاختيار أفعالنا، وأن ما نختاره هو نتاج عملية مختلفة في نوعِها عن العملية التي تحدُث لدى الكائنات الأدنى من الإنسان.
لكن على الرغم من صحة هذه الانطباعات في الإشارة إلى حدوث تغييرٍ كبير، فإنها مُخطئة بشأن طبيعة هذا التغيير. فنظام المُعالَجة الجديد لا يتجنَّب السببيَّة الحتميَّة في المُطلق، بل إنه فقط يُعدِّل النهج التقليدي لعملية التحوُّل من المُحفِّز إلى الاستجابة. وهذا بإدخال بدائل عقلية في «مرحلة المعالجة» في عملية استقبال المُدخلات وإنتاج المخرجات. وهذه العملية تمدُّ جذع الدماغ بمادةٍ مولَّدة ذاتيًّا، وسيتبيَّن أنها جانب بالِغ الأهمية في الاستقلال الوظيفي للدماغ (الفصل العاشر)، لكنها ليست حُرية اختيار مُسبِّبة وغير مُسبَّبة. غير أنَّ هذا بالضبط هو ما يصرُّ عليه الذين يرَون أنه مهما كانت اختياراتنا، فقد كان بإمكاننا اختيار غيرها، بعبارةٍ أخرى، يقولون إننا أصحاب إرادةٍ حرة، ومُتحكمون في أفعالنا.
وصحيح أنَّ الحُجة التي تدعم هذا الادعاء مُقنعة، لكنها ليست سليمة. فهذه الحجة قائمة على افتراض أننا كنَّا نستطيع اختيار ما لم نختره، وهذا الافتراض لا يُمكن إثبات صحته. وبذلك ننقاد إلى دائرةٍ مفرغة، وهي أننا لو كنَّا اخترنا في النهاية ما لم نختره في الواقع، فإنَّ البرهان الذي كان افتراضيًّا حتى ذلك الحين سيحتاج إلى الإثبات هو الآخر. لكن هذا «البرهان» أيضًا سيحتاج إلى أن نتخيَّل بديلًا آخَر سيظلُّ غير مُتحقِّق. الاستنتاج واضح. الشكل المُسبِّب وغير المُسبَّب من الإرادة الحرة — أي الانطباع الذي يصِل إليه العقل بالاستبطان — مجرد وهم خرافي، وإقحام نفسه في عملية اتخاذ القرارات مجرد محاولةٍ للتبرير المنطقي. ويكمُن تفسير الاستقلال الوظيفي للدماغ البشري — وهو مصدر أفهام العقل الخاطئة — في مزيجٍ من العمليات القشرية ودون القشرية: في عملية لا يستطيع العقل المُتفكر في ذاته أن يُدرك سوى جزء منها.
وأمَّا الدليل الرابع، فهو إحساس الدماغ المزوَّد بالعقل بأنه يحمِل سمةً غامضة وغير ملموسة، سمة تستعصي على التحليل المادي، ولا يُمكن التعبير عنها بلغةٍ أو فكر. ومصدر هذا الانطباع هو أن الذات بصفتها شيئًا مدرَكًا — أي الكِيان الذي يُمكن التفكير فيه — يستحيل أن تتحقَّق إلَّا بعد الشعور بالذات الذي يولِّده النُّطق عن طريق الحسِّ العميق. لاحظ أن الذات، عند التفكير فيها أو الحديث عنها، تكون مختلفة تمامًا عن الشعور بها. والاختلاف بين الاثنَين مؤشِّر واضحٌ جدًّا على أن التفكير — الأداة الوحيدة للتحليل العقلاني — لا يستطيع استيعاب تجربتنا مع الذات استيعابًا كاملًا. وذلك لأنه بحلول الوقت الذي يُصبح فيه العقل قادرًا على التفكير في الشعور بالذات، يكون ذلك الشعور قد مرَّ بالتحوُّل إلى الشكل المُدرَك، ولم يعُدِ التجربةَ الأصلية التي كان عليها، بل مجرد تمثيلٍ لتلك التجربة. باختصار، ما نستطيع أن نفكر فيه هو الكيان المُدرَك الذي يُترجَم إليه الشعور بالذات، وليس الشعور بالذات نفسه. ومن ثَم، فإنَّ العملية ذاتها التي تخلق التفكير — أي الآلية «المُستقلة» — هي المسئولة عن توليد الحس العميق، وهو مصدر الشعور بالذات الذي لا يُمكن التفكير فيه وقتَ حدوثه. ويترتب على ذلك أن النفس حتمًا تبدو صعبةَ الفهم على ذاتها دائمًا، وأنَّ التفكير فيها لا يُسفِر عن شيءٍ سوى ترسيخ هذه الفكرة. لذا تبقى آلية عمل الدماغ البشري مصحوبةً بإحساسٍ دائم بالغموض، وإن كان طفيفًا، ضمن آثارها الجانبية.
أزُفُّ إليكم مُؤشِّرًا آخر على أن الاستبطان ليس الطريقةَ المناسبة لاكتساب فهمٍ عميقٍ عن آلية عمل العقل، ألا وهو التعليق الخاطئ الذي أبداه جون أوكيف (١٩٨٥):
أغرب مصدرٍ لإدراك وعيي هو ظاهرة إدراك الذات، أي إدراك أنِّي مُدرك. هذه الفكرة شِبه الروحانية الغامضة تجعل المُتأمِّل في ذاته مُعرَّضًا باستمرارٍ للوقوع في هُوة من حالات الإدراك المُتداخلة بلا نهاية (كأن يقول لنفسه: «أُدرك أنَّني مُدرِك أنني مُدرك»)، وهذه تبدو الأقل قابليةً للتفسير العلمي من بين كل سمات الوعي.
أخطأ جون أوكيف في هذه النقطة؛ فالفكرة التي يراها شِبه روحانية غامضة («أُدرك أنَّني مُدرك أنَّني مُدرك») هي التمثيل الصحيح حرفيًّا لتذبذب العقل الواعي بذاته بين الأفكار التي يولِّدها، والإحساس المُصاحِب لتوليد تلك الأفكار. فالتأثير ليس غامضًا بأي حالٍ من الأحوال، وإن كان عصيًّا على أن يُدركه الاستبطان. فالذات — حين تفكر في ذاتها — تُدخِل ذاتها في التجربة الآنيَّة على أنها شيءٌ مُدرَك وحسٌّ عميق معًا. وهذا يؤدي إلى تلاشي الاختلاف بين الشيءِ محلِّ التفكير والكيان الذي يُفكر فيه. ومحاولة اكتشاف هذا الاختلاف بالاستبطان تزيد الأمور تعقيدًا بسبب الحسِّ العميق الإضافي الذي تُولِّده ممارسة الاستبطان. وبدون نموذج يُلقي الضوء على التفاصيل الدقيقة المُتضمَّنة في تلك المسألة، فإن الاستبطان يُعمِّق الغموض، ويقع في شرَك «ثنائية العقل والجسد»، التي تُنافي الحسَّ المنطقي السليم.
وبالإضافة إلى ذلك، يُوجَد دور اللغة، أي الذراع الحركية للآلية المُستقلة. فهي أيضًا تُولِّد تأثيراتٍ لا يُدرِكها الاستبطان. ولنضربْ مثالًا بانعكاس الترتيب السببي الذي تتحوَّل فيه استجابةٌ داخلية (لغوية) لمُحفز خارجي إلى المُحفز الداخلي (العقلي) لاستجابةٍ خارجية (آنية). في هذه الحالة يكون العقل الواعي غير مُدرِك لحلْقة اللغة الوسيطة التي سبَّبت انعكاس الترتيب، لكنه يكون مُدرِكًا للتفكير الواعي الذي يسبق الاستجابة، لذا ينقاد حتمًا إلى استنتاجِ أنه هو الذي بدأها، وبذلك تتأكد له فكرة القدرة المُسبِّبة وغير المسبَّبة مرة أخرى. في الفصل التالي، سيتبيَّن أن هذا الانعكاس الظاهري للترتيب السببي في أعقاب الاستجابة اللغوية له دور في الجدل المُثار حول الإرادة الحرة، إذ يشوِّش الصورةَ ويطمس الحلَّ الصحيح.
وبناءً على الانطباع الساذج الذي يأخُذه العقل، يُمكن أن نستنتج أن الاستبطان هو المصدر الذي يُولِّد التوصيفات الوهمية عن الذات. وفوق ذلك، فمن دون درايةٍ عميقة بكيفية حدوث ذلك، فلا سبيلَ أمام العقل سوى قبول «الذات» على أنها فاعل سببي مُستقل، غير مُسبَّب، فاعل له تأثيرات سببية في عالَمٍ كان سيُصبح خاليًا من الاختيارات لولاه، وأنها تتصرَّف بحريةٍ تامة ومن تلقاء نفسها. ومن اللافت أيضًا أن العقول كلها تظلُّ تُنشئ عن هذا الكيان الداخلي صورةً نمطية نوعًا ما تكاد تكون موحدة، بغضِّ النظر عن الثقافة أو السياق أو التطوُّر المُجتمعي، أو البدائية أو الحداثة أو أي شيءٍ آخر.
وقد صاغ نيكولاس هامفري (١٩٨٤) تلك المسألة كما يلي:
وهكذا، فعند أخذ بعض الانحرافات في الحسبان، نجد تقارُبًا ملحوظًا في الكلام الذي يقوله الناس من كلِّ الأعراق وكل الثقافات عمَّا يكشِفه لهم وعيُهم بذواتهم. وفيما يلي جوهر المسألة، وأنا في هذا المقام أُحاول التلخيص لا رسم صورةٍ ساخرة: تُوجَد روح مرتبطة بجسدي، وهذه الروح واعية بوجودها واستمراريتها في الزمن. وهذه هي الروح والعقل والنفس، التي أقول عنها «أنا». ومن بين الخصائص الرئيسية التي أملِكها: أنا أستطيع أن أفعل، وأنا أستطيع أن أُدرك، وأنا أستطيع أن أشعر. إذن فإنه أنا من يقوم، بإرادتي الحرة، بكلِّ هذه الأفعال الجسدية المُهمة.
يُشير ذلك، أي اتِّسام تجاربنا مع الذات بطابعٍ شبه موحد ومعروف، بقوة إلى أنَّ الظروف المُحيطة بنشأة هذه التجارب تكاد تكون مُوحَّدة. ومن المُرجَّح منطقيًّا أنَّ العناصر التي تُشكل الذات تُغرَس في دماغ الطفل في سنٍّ مبكرة مع البنيات التمثيلية السريعة التوسع. وذلك على الأرجح لأن التجربة الذاتية للعقل تُمِدُّ نفسها تلقائيًّا بالدليل التأكيدي الذي يتطلَّبه توصيف الذات على أنها تتَّسم بقدرةٍ مُسبِّبة وغير مُسبَّبة. يستمر هذا كأمر مُسلَّم به وواقع غير قابل للتشكيك، يرقى إلى درجة اليقين الإيماني، ومن ثم لا يُثار أي شكٍّ منطقي في حقيقته. باختصار، ينشأ الطفل الصغير ومعه تصوُّر جوهري عن ذاته وعن الكيان الكامن داخله، بل ويتطوَّر لدَيه هذا التصوُّر. وفوق ذلك، فلا شيء في سنوات الطفل التكوينية يُمكن أن يُقنعه بأن انطباعاته عن ذاته مجرد آثار جانبية لآلية عمل الدماغ، وليس لها واقِع أنطولوجي من أي نوع. ومن ثَم، فإن الطفل مُهيَّأ سلفًا ليرى ذاته على أنها تحمِل نفسًا وروحًا وكيانًا فاعلًا، ومُبرمَج لمقاومة النماذج والنظريات التي تحمِل تفاصيل أكثر تعقيدًا عن آلياته الداخلية. لذا، تكون النتيجة الحتمية هي أنَّ العقل الساذج يستحدَّث، من دون قصد، توصيفًا عن الذات يتَّسم بأنه مُلزِم ومُقنِع بشكلٍ حدسي، لكنه مُحمَّل بمفاهيم أنطولوجية خاطئة.
لقد ألقَينا نظرةً على تأثير الاستبطان والانطباع الذي قد يأخُذه العقل عن ذاته حين يُترَك لنفسه بلا مُساعدة. ولكن ليس بالضرورة أن تكون اللغة — مصدرُ هذه النواتج — فخًّا معرفيًّا، بل يُمكن أن تُصبح أداةً مُحرِّرة تُكسِبنا فهمًا مُتعمقًا باستمرار لطبيعة العالَم والعقل الواعي ذاته. فاستمرار التطوُّر في العلوم، وتزايُد التقدُّم التكنولوجي، شاهدان على وجود عمليةِ مُراجَعةٍ داخلية، عملية تتضمَّن تعديل آلية مُعالجة محتويات الدماغ، فتُتيح الوصول إلى أشياء لم يكن بالإمكان تخيُّلها سابقًا. يتبقَّى لنا أن ندرس الطريقة التي تمكنت بها العملية التطورية من الارتقاء بالكائن البشري — المُنغمس بالفعل في عالَمٍ حتمي — إلى مستوًى يؤدي فيه دورًا فاعلًا، ويشعر بأنَّ ذاته عاملٌ سببيٌّ مُستقلٌّ وظيفيًّا يُشارك في تحديد النتائج. وسأتناول هذه المسألة في الفصل التالي.