محمد علي باشا
(١) صبوته وشبيبته
انظر إلى خارطة بلاد الروملي في سواحلها الجنوبية على مسافة ٣٢٠ كيلومترًا من الآستانة غربًا، ترَ قرية اسمها قوالة لا يزيد عدد سكانها على ثمانية آلاف نفس، وكان في تلك القرية في أواسط القرن الثامن عشر رجل اسمه إبراهيم آغا، كان متوليًا خفارة الطرق، وُلد له سبعة عشر ولدًا لم يعش منهم إلا واحدًا، وفي سنة ١٧٧٣ تُوفِّي هذا الرجل وامرأته عن ذلك الولد وسنه أربع سنوات واسمه محمد علي.
فأصبح الغلام يتيمًا ليس له من يعوله إلا عمًّا اسمه طوسون آغا، وكان متسلمًا على قوالة، فجاء به إلى بيته شفقة عليه، غير أن المنيَّة عاجلت طوسون فقُتل بأمر الباب العالي بعد ذلك بيسير، فأصبح الغلام يتيمًا قاصرًا وليس من ينظر إليه.
وُلد لأبي سبعة عشر ولدًا لم يعش منهم سواي، فكان يُحبني كثيرًا ولا تغفل عينيه عن حراستي كيفما توجهت، ثم توفاه الله فأصبحت يتيمًا قاصرًا، وأُبدِل عزِّي بذلٍّ، وكثيرًا ما كنت أسمع عشرائي يكرِّرون هذه العبارة التي لا أنساها، وهي: «ماذا عسى أن يكون مصير هذا الولد التعيس بعد أن فقد والديه»، فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يُحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل، فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهمَّة غريبة حتى كاد يمرُّ عليَّ أحيانًا يومان ساعيًا لا آكل ولا أنام إلا شيئًا يسيرًا، وفي جملة ما قاسيته أني كنت مسافرًا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره، وكنت صغيرًا، فتركني رفاقي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب معنا، أما أنا فجعلت أجاهد في الماء وِسْعي، تتقاذفني الأمواج، وتستقبلني الصخور حتى تهشمت يداي، وكانتا لا تزالان يانعتين، وما زلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالمًا، وقد أصبحت هذه الجزيرة الآن قسمًا من مملكتي.
ومما يُحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردَّد على رجل فرنساوي مقيم في قوالة اسمه المسيو ليون، وكان من كبار التجار محبًّا للفضيلة وحالمًا، رأى محمد علي للمرة الأولى، فشفق عليه وأحب مساعدته؛ لما توسم فيه من الفطنة والنباهة، فكان يُقدم له كثيرًا من حاجياته ويسعفه بكل ما في وسعه حتى ألِفه محمد علي كثيرًا، وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر واستخدامه أفرادًا منهم في مصلحة البلاد، ويُقال: إنه رحمه الله بعث سنة ١٨٢٠ إلى المسيو ليون المشار إليه يدعوه إلى مصر يقضي فيها زمنًا في ضيافته، فأجاب دعوته، ولكنه مات قبل قدومه، فأسف عليه محمد علي كثيرًا وبعث إلى شقيقته هدية تساوي عشرة آلاف فرنك.
قلنا: إنه رُبِّي في صبوته ببيت جربجي براوسطة، وتعلم في صغره ما يتعلمه أبناء تلك البلاد من ألعاب السيف والجريد والحَكم وما شاكل، فنبغ فيها حتى إذا بلغ أشده انتظم في سلك الجهادية تحت إدارة مربيه، فأظهر في جباية الضرائب مهارة وبسالة عجيبتين، فرقَّاهُ إلى رتبة بلوك باشي وزوَّجه إحدى ذوات قرابته وكانت مطلقة ولها مال وعقار، فترك الجهادية وتعاطى التجارة وعلى الخصوص في صنف التبغ؛ لأنه أكثر أصناف التجارة في بلاده، وقد برع في تلك التجارة حتى اكتسب شهرة واسعة، وثقة عظمى لدى عملائه، وكان قد ذاق لذة التجارة وأحبها مذ كان يتردد على المسيو ليون المتقدم ذكره؛ ولذلك رأيناه بعد أن تولى مصر يوجه انتباهه بنوع خاص لتنشيط التجارة.
وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة ١٨٠١ حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساوية من مصر بمساعدة إنكلترا، وكان الفرنساويون قد جاءوا مصر تحت قيادة نابليون بونابرت سنة ١٧٩٨ فحاربوا الأمراء المماليك، ودخلوها عنوة، وأقاموا فيها ثلاث سنوات والحكومة العثمانية تبعث إليهم الجنود، وتحاربهم تارة وحدها وطورًا بمساعدة إنكلترا، وهم قائمون بين إقدام وإحجام إلى سنة ١٨٠١ فبعثت العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة قبطان باشا وفيها قوات إنكليزية وبعثت الصدر الأعظم في حملة من جهة البر.
(٢) ارتقاؤُه منصة الأحكام
وكان محمد علي في جملة القوة البحرية، وقد تجند إليها في جملة من تجند في براوسطة بصفة معاون لعلي آغا ابن مربيه على ثلاثمائة جندي ألباني (أرناءوط).
فجاءت العمارة إلى أبي قير، وكانت الغلبة هناك للفرنساويين، ثم عاد علي آغا إلى بلاده تاركًا رجاله تحت قيادة محمد علي، وكان هذا قد ترقى إلى رتبة بكباشي.
ثم تغلب العثمانيون بمساعدة العمارة الإنكليزية وحملة الصدر الأعظم، ودخلوا البلاد وأخرجوا الفرنساويين منسحبين انسحابًا قانونيًّا، وجعلوا يهتمون بتأييد سلطة الباب العالي فيها.
وكان في الجنود العثمانية جماعات من الأرناءوط والإنكشارية والغليونجية، فتفرقت هذه الجنود لحماية مصر السفلى وبعض مدن الصعيد. أما الإنكليز فكانوا تحت قيادة الجنرال هتشنسون فنزلوا الإسكندرية ريثما يقيمون في القطر المصري واليًا عثمانيًّا يؤيد سلطة الباب العالي، ويكبح جماح المماليك الذين كانوا لا يزالون يحاولون الاستقلال.
فأقاموا محمد خسرو باشا وكان في الأصل من مماليك حسين قبطان باشا، وهو الذي سعى له في هذه الولاية فجاء القاهرة وقاصَّ الذين كانوا فيها من محالفي الفرنساوية، وكان في يده أوامر سرية بإعدام المماليك جملة بأي وسيلة كانت، فبعث إلى محاربتهم وكانوا في الصعيد فتضايقوا ولم يروا وسيلة إلا الالتجاء إلى فرنسا، فكتبوا إليها يستنجدونها متعهدين بإجراء كل ما تطلبه منه فلم يسعدهم الحظ بمساعدتها.
أما الحملة التي بعثها خسرو باشا إلى الصعيد فإنها عادت ولم تأتِ بفائدة، ثم حاربهم مرارًا في أماكن مختلفة وفي جملتها واقعة بعث إليها حملة من جنده وكان محمد علي قد ترقى إلى رتبة سرحشمة، وصار قائدًا لأربعة آلاف من الألبانيين فأمره أن يسير في رجاله مددًا لتلك الحملة، فسارت الحملة وحاربت المماليك وانكسرت قبل وصول محمد علي ورجاله فنسب قائدها انكساره إلى تأخر محمد علي عن المجيء، وأبلغ ذلك لخسرو باشا، وكان هذا حاقدًا على محمد علي فاستقبل ذلك البلاغ بالصدق، وأقر على إعدامه سرًّا، وكتب إليه أن يوافيه في منتصف الليل للمخابرة ببعض الشئون، فأدرك محمد علي مراده، ولم يُجب الدعوة ولم يرَ وسيلة لنجاته من مكيدته وعدوانه إلا بالالتجاء إلى المماليك فانحاز إليهم، وأخذ في مخابرتهم سرًّا وجهرًا فتمكنوا بذلك التحالف من إخراج خسرو باشا من القاهرة قهرًا، ففر إلى دمياط وأقاموا مكانه طاهر باشا، ثم قُتل طاهر واحتل محمد علي القلعة برجاله، فقام أحمد باشا والي الشرطة إذ ذاك بطلب الولاية فأخرجه المماليك من القاهرة ذليلًا، ثم اتحد الجميع وساروا لمحاربة خسرو باشا في دمياط فأسروه، وجاءوا به إلى القاهرة وحجروا عليه في القلعة.
أما الباب العالي فلما بلغه ما حصل في مصر بعث إليهم واليًا اسمه علي باشا الجزائرلي فلم يصل القاهرة إلا بعد شق الأنفس، ولما وصلها عمد إلى الكيد بالمماليك ومحمد علي فعادت العائدة عليه.
وكان للماليك زعيمان: الألفي والبرديسي يتنازعان السلطة، وكان الألفي قد سار إلى إنكلترا يطلب مساعدتها على رفيقه للاستئثار بالسلطة، فلما عاد من سفرته اغتنم محمد علي تلك الفرصة وأوغر صدر مناظره البرديسي عليه، فنصب له مكيدة لم يقع فيها ولكنه فر إلى الصعيد، فظن البرديسي أن جو القاهرة قد خلا له، ولكن محمد علي كان له بالمرصاد فحرك الألبانيين عليه وأوعز إليهم سرًّا أن يُثيروا ويطالبوا بمرتباتهم، فقاموا وهددوا البرديسي بالأذى إذا لم يدفع إليهم المتأخرات، فضرب على أهل القاهرة أموالًا، واستبد في تحصيلها بقساوة، فثاروا جميعًا عليه فاضطر إلى مغادرة القاهرة ولم يعد يرجع إليها، وكل ذلك سنة ١٨٠٤.
فلما فر الأميران، لم يبقَ في القاهرة من رجال السلطة إلا محمد علي، فجمع إليه العلماء والمشائخ وتفاوضوا في إخلاء سبيل خسرو باشا، فأقروا على ذلك وأن يعود إلى منصبه فأعادوه، ولكنه لم يمكث فيه إلا يومًا واحدًا ثم أخرجوه من القاهرة إلى رشيد ومنها إلى الآستانة، وكل ذلك بمساعي محمد علي ودهائه وحسن سياسته.
ثم تظاهر أن الأمور لا تستقيم في مصر إلا بتنصيب والٍ عثماني حر، وأشار بتنصيب خورشيد باشا وكان في الإسكندرية، فوافقه العلماء والمشائخ في ذلك على أن يكون هو نائبًا عنه في الأحكام بصفة «قائمقام»، وبعثوا إلى الباب العالي يخبرونه بذلك ويسترحمون تثبيت انتخابهم فأجيب طلبهم.
غير أن خورشيد باشا رأى محمد علي مستأثرًا بالنفوذ عليه بمن معه من الجند الألباني فخاف عاقبة ذلك فاستقدم جندًا مغربيًّا (الدالاتية أو الدلاة) يكونون له عونًا وقت الحاجة، فأدرك محمد علي قصده فوقف له بالمرصاد، ثم جعل الدالاتية يسيئون معاملة أهل القاهرة، وينهبون ويقتلون اعتمادًا على نفوذ الباشا، فسئم أهل القاهرة منهم ولا سيما المشائخ والعلماء.
وفي ٢ صفر سنة ١٢٢٠ ورد لمحمد علي خط شريف بولاية جدَّة، فألبسه خورشيد باشا الفروة والقاووق المختصين بهذه الرتبة وقد توسم قرب تخلصه منه، فخرج محمد علي يريد الذهاب إلى جدة وفي نفسه ألا يخرج من مصر، فقامت العساكر وطالبوه بالعلوفة فقال: «هذا هو الباشا طالبوه بها»، وسار إلى منزله في الأزبكية (قرب أوتيل شبرد) وهو ينثر الذهب على الناس فازدادوا له حبًّا ولخورشيد باشا كرهًا.
وبعد ثلاثة أيام (لا ندري ما دار في أثنائها بينه وبين علماء البلاد ومشائخها) سار المشائخ والعلماء جميعًا إلى محمد علي في منزله ينادون بصوت واحد: «لا نقبل خورشيد باشا واليًا علينا»، فقال: «ومن تريدون إذن؟» قالوا: «لا نريد أحدًا سواك» فامتنع أولًا وجعل يرغبهم في خورشيد ويحملهم على الإذعان والسكينة، وهم لا يزدادون إلا إصرارًا على طلبهم، فوافقهم فأحضروا له الكرك والقفطان وألبسوه إياهما، وبعثوا إلى خورشيد أن ينزل من القلعة فأبى، فحاصروه فيها، وكتبوا إلى الباب العالي بذلك فورد الفرمان بولاية محمد علي في ١١ ربيع آخر سنة ١٢٢٠ﻫ/٩ يوليو (تموز) ١٨٠٥ وعزل خورشيد باشا، فخرج هذا من القلعة بأمر من الآستانة، وغادر البلاد وفي نفسه من الغيظ على محمد علي ما ليس وراءه غاية.
ولكن المماليك كانوا أشد غيظًا منه؛ لما ظهر لهم من تلاعب محمد علي بهم واستخدامه إياهم لأغراضه، فثاروا وفي مقدمتهم الألفي، فإنه حالما علم بتولية محمد علي نزل بعصابته، وخابر حكومة إنكلترا بخلع محمد علي، واشترط على نفسه أنها إذا فعلت ذلك سلَّمها البلاد حالًا، فعلم قنصل فرنسا بذلك فعرقل مسعاه، فعكف على مصالحة محمد علي باشا على شيء يرضى به الاثنان، فلم يتفقا، فعاد الألفي لمخابرة سفير إنكلترا، فأقنع هذا الباب العالي فبعث واليًا اسمه موسى باشا مع العفو عن المماليك، وكادت تنطلي هذه الحيلة لو لم يقم العلماء والمشائخ من جهة وسفير فرنسا في الآستانة من جهة أخرى ويوضحوا للباب العالي مقصد المماليك فتثبت محمد علي، ولكنه أمر أن لا يتعرض للمماليك فيما بعد لصدور العفو عنهم قبلًا، ولكن التقادير ساعدته فتوفي البرديسي بعد قليل، ثم الألفي، فتولى على المماليك شاهين بك، ولكن شوكتهم ضعفت، ولم تعد تقوم لهم قائمة.
أما إنكلترا فاعتبرت إرجاع محمد علي مخلًّا بنفوذها، فبعثت حملة تحت قيادة الجنرال فرازر لإرجاع سلطة المماليك، ولكن المماليك كانوا قد تبعثروا في البلاد، فأقامت الجنود الإنكليزية على سواحل القطر مدة ثم عادت بخفَّي حنين بعد الاتفاق على صلح، فاجتمعت السلطة في قبضة محمد علي باشا، ثم سعى بعضهم في المصالحة بينه وبين شاهين بك زعيم المماليك فتصالحا، وقدم هذا إلى مصر بالهدايا الثمينة فأكرمه محمد علي، وبنى له قصرًا لسكناه في الجيزة، وفي ٥ جمادى الآخرة سنة ١٢٢٣ بويع السلطان محمود الثاني على عرش الآستانة العليَّة.
(٣) أعماله الحربية
فلما رسخت قدم محمد علي باشا في مصر أخذ في تسليم مصالح حكومته إلى من يثق بهم من ذوي قرباه؛ لأنه كان شديد المحبة لعائلته ولا شك أن أزره اشتد بهم، ثم استفحل أمر الوهابيين في شبه جزيرة العرب فأرسل السلطان محمود خان يعهد إلى محمد علي باشا أمر إخضاعهم وتخليص البلاد من أيديهم.
والوهابيون فئة من المسلمين ذهبوا إلى إغفال كل الكتب الدينية الإسلامية إلا القرآن الشريف فهم بمنزلة الطائفة الإنجيلية عند المسيحيين. زعيمها الأول يدعى محمد عبد الوهاب، وُلد سنة ١١١٠ﻫ/١٦٩٦م، ولما شبَّ تفقَّه وحج ثم أظهر دعوته فالتفَّت عليه أحزاب كثيرة، فافتتح نجدًا، فالحجاز، فالحرمين، وما زال يفتتح في بلاد العرب حتى تُوفِّي سنة ١٢٠٥ﻫ/١٧٩٨م وسِنُّهُ ٩٥ سنة، فاستمرت أحزابه في أعمالهم حتى سنة ١٢٢٤ﻫ سنة ١٨٠٩م تحت قيادة الأمير سعود، وقد أصبحت حدود مملكتهم من الشمال صحراء سوريا، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الشرق خليج العجم، ومن الغرب البحر الأحمر، فنهبوا الكعبة وقد استفحل أمرهم، ولم يرَ الباب العالي بُدًّا من تكليف بطل مصر إخضاعهم.
فأجاب محمد علي مطيعًا، وجعل يجمع القوات اللازمة لتلك الحملة، لكنه فكر في أمر المماليك فخشي إذا سارت الحملة أن لا تكون البلاد في أمن منهم فيجمعون كلمتهم ويعودون إلى ما كانوا عليه من القلاقل، فعمد إلى إهلاكهم قبل مسير الحملة، لكنه في الوقت نفسه عمل على إعداد مواد الحملة، فجند أربعة آلاف مقاتل تحت قيادة ابنه طوسون باشا ثم طلب إلى الباب العالي أن يبعث إلى السويس بالأخشاب لبناء المراكب اللازمة لنقل الجند ومعدات الحرب، فأرسل إليه ما طلب، فابتنى ثمانية عشر مركبًا، وأعدها عند السويس في انتظار الحملة.
أما المماليك فكانوا قد يئسوا من الاستقلال بالأحكام لما رأوا ما حل بسلفائهم وما عليه محمد علي باشا من العزيمة، فكفوا عن مطامعهم، واكتفوا بالتمتع بأرزاقهم وممتلكاتهم في حالة سلمية، فقطن بعضهم الصعيد، وبعضهم القاهرة، وتشتتوا في أنحاء القطر، وكان شاهين بك وهو الذي تولى رئاستهم بعد وفاة الألفي قد أذعن لمحمد علي باشا كما تقدم، فأقطعه أرضًا بين الجيزة وبني سويف والفيوم فأوى إليها، وفي محرم سنة ١٢٢٦ﻫ/فبراير(شباط) سنة ١٨١١م سار قواد الحملة من القاهرة وعسكروا في قبة العزب في الصحراء ينتظرون باقي الحملة ومعها طوسون باشا، وتعيَّن يوم الجمعة لوداع طوسون والاحتفال بخروجه ورجاله إلى قبة العزب، فأعلن ذلك في المدينة ودعا كل الأعيان لحضور ذلك الاحتفال وفي جملتهم المماليك وطلب إليهم أن يكونوا بالملابس الرسمية.
ففي يوم الجمعة ٥ صفر سنة ١٢٢٦ﻫ/أول مارس (آذار) سنة ١٨١١ احتشد الناس إلى القلعة، وجاء شاهين بك في رجاله فاستقبلهم الباشا في قصره بكل ترحاب ثم قُدِّمت لهم القهوة وغيرها، ولما تكامل الجمع وجاءت الساعة أمر محمد علي بالمسير فسار الموكب وكلٌّ في مكانه منه جاعلين المماليك إلى الوراء يكتنفهم الفرسان والمشاة حتى إذا اقتربوا من باب العزب من أبواب القلعة في مضيق بين هذا الباب والحوش العالي أمر محمد علي فأغلقت الأبواب، وأشار إلى الألبانيين (الأرناءوط) فهجموا على المماليك بغتة، فانذعر أولئك وحاولوا الفرار تسلقًا على الصخور، ولكنهم لم يفوزوا؛ لأن الألبانيين كانوا أكثر تعودًا على تسلقها، واقتحم المشاة المماليك من ورائهم بالرصاص فطلب المماليك الفرار بخيولهم من طرق أخرى فلم يستطيعوا لصعوبة المسلك على الخيول، ولما ضويق عليهم ترجل بعضهم وفروا ساعين على أقدامهم والسيوف في أيديهم، فتداركتهم الجنود بالبنادق من الشبابيك، فقُتل شاهين بك أمام ديوان صلاح الدين، وحاول بعضهم الالتجاء إلى الحريم أو إلى طوسون باشا بدون فائدة، ثم نودي في المدينة أن كل من يظفر بأحد المماليك في أي محلٍّ كان يأتي به إلى كحيا بك، فكانوا يقبضون عليهم ويأتون بهم إليه أفواجًا وهو يقتلهم.
وكان عدد المماليك المدعوين إلى الوليمة أربعمائة فلم ينجُ منهم إلا اثنان: أحدهما أحمد بك زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير كان غائبًا بناحية موش، والثاني أمين بك؛ كان قد أتى القلعة متأخرًا فرأى الموكب سائرًا نحو باب العزب فوقف خارج الباب ينتظر خروج الموكب، ثم لما أُقفلت الأبواب بغتة وسمع إطلاق النار علم المكيدة فهمز جواده وطلب الصحراء قاصدًا سوريا، والمتبادر على الألسنة أن أمين بك هذا كان داخل القلعة فلما حصلت المعركة همز جواده فوثب به من فوق السور لجهة الميدان فقُتل جواده وسلم هو، والأقرب للحقيقة أن هذه الإشاعة مختلقة أو مبالغ فيها، ثم نودي في الأسواق أن شاهين بك زعيم المماليك قد قُتل، فخاف الناس، ثم طافت العساكر المدينة ينهبون بيوت المماليك، ويأخذون حريمهم وجواريهم وعلا الصياح.
وفي اليوم التالي نزل الباشا من القلعة وطوسون معه، وطاف المدينة يأمر الناس بإيقاف النهب، وقتل كلَّ من حاول ذلك، ولكنه حرض على قبض من يظفرون به من المماليك في سائر أنحاء القطر، فكانوا يأتون بهم أفواجًا يسوقونهم كالغنم إلى الذبح، فبلغ عدد من قُتل من البكوات ٢٣ بيكًا، وفي اليوم التالي نزل طوسون باشا إلى الأسواق في فرقة من الجند؛ لتسكين الخواطر وإيقاف النهب. أما الجثث التي كانت في القلعة فاحتفروا لها حفرا جعلوا فوقها التراب، وصرح محمد علي باشا بحماية نساء المماليك، ولم يسمح بتزويجهن إلا لرجاله.
ولما خلت البلاد من المماليك عكف محمد علي على المهام الأخرى، وأخصها مسألة الوهابيين، فكتب إلى غالب شريف مكة يخبره بإعداد حملة تنقذه من الوهابيين فيفتح طريق الحرمين لجميع المسلمين، وطلب إليه أن يمهد له السبيل فأجابه شاكرًا ووعده بالمساعدة.
أما سعود أمير الوهابيين فأنبأته الجواسيس بما نواه محمد علي، فأمر فاجتمع حوله خمسة عشر ألفًا ليدفع بهم جنود مصر. أما حملة طوسون فركبت من البحر من السويس حتى أتت ينبع على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، ومنها يتصل إلى المدينة، فتملكوا ينبع، وساروا منها إلى صفر وفيها معسكر الوهابيين وقد تأهبوا للدفاع، فهجم طوسون باشا فتقهقر سعود ورجاله أولًا ثم ارتدُّوا على الجيوش المصرية فانهزموا تاركين كل مؤنهم وذخائرهم وجمالهم، وعادوا إلى ينبع، فعلم محمد علي باشا بذلك فجند جندًا كبيرًا مددًا لابنه، فاشتد أزر طوسون وجمع إليه القوتين وسار حتى أتى المدينة، فأطلق عليها النار فهدم بعض السور، ثم دخلها وأثخن في حاميتها حتى سلمت فكف السيف عنها، فانتشر خبر افتتاح المدينة في سائر الحجاز فخاف الوهابيون وفرح أعداؤهم، ولا سيما الشريف غالب، وكان في جدة لا يدري ماذا يكون من أمر تلك الحملة، فلما علم بانتصارها كاد يطير من الفرح.
وأجلي الوهابيون عن مكة خوفًا من أهلها، فجاءها طوسون واحتلها، وكتب إلى أبيه ففرح فرحًا لا مزيد عليه لما آتاه الله من النصر على يد ابنه نصرًا لم يأتِ لغيره من القواد العثمانيين، وجيء إليه بقائد حامية المدينة من الوهابيين، فأرسله في خفر إلى الآستانة فقتلوه حال وصوله إليها. أما من بقي من دعاة الوهابيين فكانوا لا يزالون في مأمن خارج مكة تحت قيادة كبيرهم سعود.
فلما جاء صيف سنة ١٨١٢م/١٢٢٨ﻫ علموا أن جنود طوسون لا يحتملون حَرَّ تلك البلاد، وأنهم إذا ناهضوهم إذ ذاك يتغلبون عليهم، فجندوا وساروا إلى تربة شرقي مكة فحاربوها واستولوا عليها، ثم ساروا إلى المدينة وهددوها بعد أن استولوا على كل ما بين هاتين المدينتين من القرى والمدن، فاتصل الخبر بمحمد علي فلم يرَ بُدًّا من ذهابه بنفسه لنصرة الجنود المصرية، وقد أصبحت مصر في مأمن من المماليك وغيرهم، فسار في جند عظيم حتى أتى جدَّة فنزلها في ٣٠ شعبان سنة ١٢٢٨ﻫ/٢٨ أوغسطس (آب) سنة ١٨١٣م فلاقاه الشيخ غالب شريف مكة، ورحب به، وبعد أن أدى فروض الحج رأى أن الشريف ليس ممن يعتمد عليهم في الدفاع، فعمد إلى خلعه بطريقة تضمن حقن الدماء، ففاز ثم وضع يده على ممتلكاته، وبعث به وبعائلته إلى القاهرة، ومنها إلى سالونيك فعاش فيها أربع سنوات ومات. أما الوهابيون فمات قائدهم سعود في درعية في ٢٦ ربيع آخر ١٢٢٩ﻫ/١٧ أبريل (نيسان) سنة ١٨١٤م فانحطت سطوتهم فأقاموا عليهم ابنه عبد الله، ولم يكن كفئًا فحصلت بينه وبين الجنود المصرية مناوشات كبيرة لم تأتِ بنتيجة، وفي ٢٨ محرم سنة ١٢٣٠ﻫ ١٠ يناير (ك٢) سنة ١٨١٥م) حصلت معركة بين جنود محمد علي والوهابيين تحت قيادة فيصل أخي عبد الله شفَّت عن انتصار المصريين، فتقدم طوسون إلى نجد إلا أنه اضطر أخيرًا إلى التوقف لقلة المؤن وهو لم يبلغ درعية.
ثم اقتضت الأحوال عود محمد علي إلى مصر فعاد وقد فتح طريق الحرمين، ولكنه لم يُبِدْ جميع الوهابيين، فوصل القاهرة في ٤ رجب سنة ١٢٣٠ﻫ فاهتم بتدريب الجند على نظام جند أوروبا، وهو أول من فعل ذلك في مصر، فأصدر أمرًا عاليًا في شعبان سنة ١٢٣٠ﻫ مؤداه أن الجنود المصرية ستدرب على النظام الحديث وهو النظام الفرنساوي، فعظم على رجاله — ولا سيما الأرناءوط — الامتثال إلى هذه الأوامر، فرأى أن يُدخل هذا النظام أولًا بين الجنود الوطنية؛ لأنهم أقرب إلى الطاعة من هؤلاء الألبانيين ومن كان على شاكلتهم.
وفي أثناء ذلك عاد طوسون باشا من الحجاز، فخرج الناس لملاقاته بالاحتفال والإكرام، ثم نزل الإسكندرية حيث كان أبوه مقيمًا فوجد امرأته قد وضعت في أثناء غيابه غلامًا دعته عباسًا، وبعد يسير أُصيب طوسون بألم شديد في رأسه وحمَّى لم يعش بعدها إلا بضع ساعات، وكان محمد علي في القاهرة، ولما اتصل به الخبر كان على ضفة النيل الغربية بجوار أهرام الجيزة، فقالوا له: إن طوسون مريض، فأسرع إلى الإسكندرية لمشاهدته، فلما دنا من المكان علم بوفاته فوقف مبغوتًا لا يبدي حراكًا، وبقي على مثل هذه الحال ثلاثة أيام متوالية، ونُقِلَت جثة طوسون باشا إلى القاهرة ودُفنت قرب مسجد الإمام الشافعي وراء جبل المقطم حيث مدفن العائلة الخديوية اليوم.
وبعد قليل عاد محمد علي إلى روعه فأخذ يهتم في أمر الوهابيين خشية أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فكتب إلى عبد الله بن سعود أن يأتي إليه بالأموال التي استخرجها الوهابيون من الكعبة، وأن يتأهب متى قدم للمسير إلى الآستانة، فأجابه يعتذر بعدم الشخوص، وقال: إن تلك الأموال قد تفرقت على عهد أبيه، وأرسل له هدايا فاخرة، فأرجع إليه محمد علي تلك الهدايا وأوسعه تهديدًا، ثم جرد إليه حملة عهد قيادتها إلى ابنه إبراهيم وكان باسلًا مقدامًا، وقائدًا مجربًا، لا يهاب الموت، شديد الغضب سريعه، ولكنه كان سليم القلب حر الضمير؛ ولذلك كانت أحكامه عادلة صارمة.
وفي ١٠ شوال سنة ١٢٣١ﻫ سار إبراهيم باشا بحملته من القاهرة في النيل إلى قنا، ومنها في الصحراء إلى القصير على شاطئ البحر الأحمر، ومنها بحرًا إلى ينبع ثم إلى المدينة، وتربص هناك بجميع قواته استعدادًا لهجوم شديد امتثالًا لمشورة أبيه، فالتفَّت حوله عصبة جديدة من القبائل المتحابَّة، ولما تكاملت قواته أقام الحرب سجالًا، وما زال بين هجوم ودفاع حتى فاز وقبض على زعيم الوهابيين عبد الله، فأرسله إلى أبيه، فوصل القاهرة في ١٨ محرم سنة ١٢٣٣ﻫ، فأُذِن له بالمثول بين يدي الباشا وتقبيل يديه، فرحب به كثيرًا؛ لأنه كان يعجب بجسارة الوهابيين، ثم سأله ما ظنه بإبراهيم؟ فأجابه قائلًا: «إنه قد قام بواجباته ونحن قمنا بواجباتنا، وهكذا أراد الله.»
وفي ٢٠ محرم أُرسل إلى الآستانة، وطافوا به في أسواقها ثلاثة أيام ثم قتلوه، وخلع السلطان على إبراهيم باشا خلعة شرف مكافأة له، وسماه واليًا على مكة، فاتصلت هذه الأخبار بدرعية فخاف أهلها، فهدموا المدينة وفروا من وجه الموت، فاحتلتها الجنود الظافرة وانتهى أمر الوهابيين. أما محمد علي باشا فإنه نال من إنعام السلطان محمود لقب خان مكافأة لإخلاصه وبسالته، وهو لقب لم يُمنح لأحد من وزراء الدولة إلا حاكم القرم.
ولما انتهى هذا الرجل الخطير من محارباته في بلاد العرب فكر في افتتاح السودان على أمل أن يلاقي فيها الكنوز الثمينة من معادن الذهب بجوار البحر الأزرق، ناهيك بما هنالك من المحصولات والواردات العجيبة من الصمغ والريش والعاج والرقيق وغير ذلك، فجند خمسة آلاف من الجند النظامي، وبعض العربان، وثمانية مدافع، وجعل الجميع تحت قيادة إسماعيل باشا أحد أولاده، فسارت الحملة من القاهرة في شعبان عام ١٢٣٥ﻫ/يونيو (حزيران) ١٨٢٠م في النيل، فقطعت الشلال الأول فالثاني فالثالث حتى السادس فأتت شندي والمتمة، وقد أخضعت كل ما مرت به من القرى والبلدان بدون مقاومة، ومن شندي سارت إلى سنار على البحر الأزرق وراء الخرطوم، ولم يكن من القبائل التي يعتد بها هناك إلا الشائقية فقاوموا قليلًا ثم سلَّموا، ودخلت سنار وكردوفان في أملاك مصر، فسار إسماعيل باشا في جنوده إلى فزغل، وهناك ظن نفسه اكتشف معادن الذهب، ثم فشا في رجاله الوباء فمات منهم كثيرون، ثم أتته نجدة من ثلاثة آلاف رجل تحت قيادة صهره أحمد بك الدفتردار فاشتد أزره، فأقام صهره هذا على كردوفان، وسار في جيش إلى المتمة على البر الغربي من النيل، ثم عدى إلى شندي في البر الشرقي لجباية المال وجمع الرجال، فاستدعى إليه ملكها واسمه النمر، وقال له: «أريد منك أن تأتي إليَّ قبل خمسة أيام بملء قاربي هذا من الذهب وألفين من العساكر.» فجعل الملك يستعطف إسماعيل باشا ليتنازل عن ذلك القدر، فقبل منه أخيرًا عوضًا عن الذهب مبلغ عشرين ألف ريال من الفضة، فأجابه إلى ما أراد، ولكنه لم يكن يستطيع جمعها في تلك المدة فطلب إليه تطويل الأجل فضربه إسماعيل بالشبق (الغليون) على وجهه قائلًا: «لا. إن كنت لا تدفع المال فورًا ليس لك غير الخازوق جزاء.» فسكت النمر، وقد أضمر له الشر وصمم على الانتقام، فطيب خاطره ووعده بإتمام ما يريد، وفي تلك الليلة جعل يرسل التبن الجاف أحمالًا إلى معسكر إسماعيل علفًا للجمال، ولكنه أقامه حول المعسكر كأنه يريد إشعاله، وفي المساء أتى إلى إسماعيل في سرب من الأهالي ينفخون بالمزمار ويرقصون رقصة خاصة بهم، فطرب إسماعيل ورجاله وضباطه، ثم أخذ عدد المتفرجين من الوطنيين يزداد شيئًا فشيئًا حتى أصبح كل أهل المدينة هناك، فلما تكامل العدد أمرهم ملكهم بالهجوم فهجموا بغتة على إسماعيل ورجاله ثم داروا بالنيران على التبن فأشعلوه، فمات إسماعيل باشا وكثيرون ممن كانوا معه بين قتل وحرق، وفي اليوم التالي أتموا على الباقين وساقوا سلبهم إلى المدينة.
فاتصل الخبر بأحمد بك الدفتردار فاشتعل غيظًا، وأقسم أنه لا يقبل أقل من عشرين ألف رأس انتقامًا لإسماعيل، فنزل بجيشه القليل، ولم ينفك حتى أنفذ قسَمه فقتل ذلك العدد من الرجال متفننًا في طرق قتلهم على أساليب مختلفة، فهدأت الأحوال بعد ذلك، وهكذا تم افتتاح السودان، وما زال أحمد بك على حكومة سنار وكردوفان إلى عام ١٢٤٠ﻫ/عام ١٨٢٤م ثم أُبدل برستم بك.
وفي عام ١٢٣٩ﻫ أرسل محمد علي باشا بأمر الباب العالي حملة مصرية تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا لمحاربة المورا في بلاد اليونان، فسار وحارب، وأظهرت العمارة المصرية في تلك الحروب شجاعة الأبطال، ولولا اتحاد الدول مثنى وثلاث على الجنود العثمانية والمصرية لما قامت لليونان قائمة في تلك الحرب، ولكننا نقول: إن إبراهيم باشا عاد عود الظافرين بعد أن بذل في سبيل ذلك عشرين مليون فرنك وثلاثين ألف مقاتل.
ثم كانت حملة إبراهيم باشا على سوريا لافتتاح عكا لأسباب تتضح للقارئ من مراجعة ترجمة الأمير بشير الشهابي الثاني في هذا الكتاب، فجرد محمد علي باشا سنة ١٢٤٧ﻫ/عام ١٨٣١م حملة في البر والبحر، فأرسل البيادة والطبجية عن طريق العريش برًّا، وسار إبراهيم باشا إلى يافا، وسار في جيشه إلى عكا فوصلها في ٢١ جمادي الأولى سنة ١٢٤٧ﻫ فحاصرها برًّا وبحرًا إلى ٢٦ ذي القعدة منها، فهجم عليها هجمة نهائية شفَّت عن تسليمها. ثم سار قاصدًا دمشق فأخضعها، ولم تدافع إلا يسيرًا، وبارحها إلى حمص حيث كانت تنتظره الجنود العثمانية تحت قيادة محمد باشا والي طرابلس، فوصلها في ٨ يوليو (تموز) سنة ١٨٢٢م، فهجم عليه محمد باشا، وبعد الأخذ والرد استولى إبراهيم باشا على حمص، فخافت سوريا سطوة هذا القائد العظيم، فسلمت له حلب وغيرها من مدن سوريا، فتغير وجه المسألة باعتبار الباب العالي، فبعث حسين باشا السرعسكر بجيش عثماني لإيقاف إبراهيم باشا عند حده، فجاء وعسكر في إسكندرونة، فلاقاه إبراهيم باشا وحاربه وانتصر عليه، ولم يعد يلاقي بعد ذلك مقاومة تستحق الذكر، ثم تقدم في آسيا الصغرى تاركًا طورس وراءه، وكان الباب العالي قد أرسل رشيد باشا في جيش لملاقاته، فجند إبراهيم باشا جندًا كبيرًا من البلاد التي افتتحها، وسار نحو الآستانة لملاقاة رشيد باشا، فالتقى الجيشان في دسمبر (ك١) سنة ١٨٣٢م في قونية جنوبي آسيا الصغرى، فتقهقر رشيد باشا برجاله، واخترق إبراهيم آسيا الصغرى حتي هدد الآستانة.
فتعرضت الدول وفي مقدمتهن الدولة الروسية فأنفذت إلى مصر البرنس مورافيل لمخاطبة محمد علي باشا بذلك وتهديده، فبعث إلى إبراهيم باشا أن يتوقف عن المسير، ثم عُقِدت بمساعي الدول معاهدة من مقتضاها أن تكون سوريا قسمًا من مملكة مصر وإبراهيم باشا حاكمًا عليها، وجابيا لخراج أدنة، وقد تم ذلك الوفاق في ٢٤ ذي القعدة سنة ١٢٤٨ﻫ/١٤ مايو (أيار) سنة ١٨٣٣م، وهو المدعو «وفاق كوتاهيا»، فعاد إبراهيم باشا إلى سوريا، واهتم بتدبير أحكامها وجعل مقامه والا في أنطاكية وابتنى فيها قصرًا وقشلاقات وولى إسماعيل بك على حلب، وأحمد منكلي باشا على أدنة وطرسوس، أما الإجراءات العسكرية فلم يكن يسوغ لأحد أن يتولاها سواه.
وكان إبراهيم باشا سائرًا بالأحكام بكل دراية وحكمة خشية سوء العقبى إلا أنه مع ذلك لم ينجُ من ثورة ظهرت في ضواحي السلط والكرك في أواخر سنة ١٢٤٩ﻫ/منتصف عام ١٨٣٤م وامتدت إلى أورشليم، وبعد الأخذ والرد اضطر إبراهيم باشا إلى الاعتصام بأورشليم؛ لأنها ذات أسوار منيعة، ثم امتدت الثورة إلى السامرة وجبال نابلس.
وفي ١٦ يونيو (حزيران) منها هجم المسلمون على صفد وفيها جماهير من اليهود، فهدموا منازلهم، وقتلوا رجالهم، وفتكوا بنسائهم، وأصبحت تلك المدينة في حوزتهم، ثم أجروا مثل هذه التعديات على المسيحيين في الناصرة، وبيت لحم، وأورشليم، ولكنهم لم يتمكنوا مما تمكنوه بصفد، ويقال بالجملة: إن سوريا أصبحت بسبب ذلك شعلة ثورية، فاتصل الخبر بمحمد علي باشا فبرح الإسكندرية إلى يافا فتقربت منه وجهاء البلاد وسراتها، ثم عمدت الجيوش المصرية إلى قمع الثائرين، فتشتت العصاة إلا النابلسيين فإنهم قاوموا طويلًا، لكنهم أذعنوا أخيرًا، ثم هاجم المصريون السلط والكرك وهدموها، وبعد قليل عادت الثورة إلى جبال النصيرية، فاعترض أهلها فرقة من الجند كانت سائرة من اللاذقية إلى حلب وأعادوها إلى حيث أتت؛ فأرسل المصريون سبعة آلاف مقاتل اتحدوا بثمانية آلاف من الدروز والمارونيين تحت قيادة الأمير خليل ابن الأمير بشير أمير لبنان، وسار الجميع إلى النصيرية وأخضعوهم، ثم سعى إبراهيم باشا في تجريد السوريين من السلاح خوفًا من عودتهم إلى الثورة ففعل، لكنه لم يستطع تجريد اللبنانيين، وكان الأمير بشير وإبراهيم باشا على وفاق تام وكأنهما خلقا ليتحدا.
وبعد أن أتم إبراهيم باشا جمع سلاح السوريين بمساعدة الأمير بشير هجم برجاله على أهالي الشوف والمتن من لبنان، وجمعوا ما استطاعوا جمعه من الأسلحة، وحملوا كل ما جمعوه منها إلى عكا، وكانوا يصنعون منها نعالًا لخيولهم، فاستتبت الراحة في سوريا وأذعنت البلاد، إلا أن محمد علي باشا لم يقف عند هذا الحد، فأحب استخدامها لتوسيع دائرة حكمه، فجعل يجمع منها الرجال والخيل بطرق زجرية فشق ذلك على الباب العالي، فعقد مجلسًا في يناير سنة ١٨٣٩ للنظر في مقاصد المصريين، فأقر المجلس على تجريد حملة من ثمانين ألف مقاتل منهم خمسة وعشرون ألفًا من الباشبوزق طبقا لإرادة السلطان محمود الثاني، وأن تسير تحت قيادة حافظ باشا لمحاربة المصريين.
وكان محمد علي باشا قد سار إلى السودان تاركًا القاهرة تحت قيادة حفيده عباس باشا، فلما عاد إليها علم بإعدادات الباب العالي فانذعر لها فكتب إلى ابنه يستحثه، فأخذ إبراهيم في الاستعداد للدفاع، فحشد جيوشه في حلب لدفع الجنود العثمانية القادمة برًّا، ثم علم أن معظم الأهالي راغبون في دولتهم الأصلية، ومستعدون للتسليم وعلى الخصوص الدروز تحت قيادة شبلي العريان أحد أبطالهم المعدودين، فحصلت مواقع شديدة بين الجيوش العثمانية والجيوش المصرية في نزيب انتهت بانهزام الأولى إلى مرعش، وكان السلطان محمود قد أرسل عمارة بحرية لمحاربة المصريين فجاءت الإسكندرية فأصابها ما أصاب الحملة البرية، ولكنه تُوفِّي قبل بلوغه خبر تلك الوقائع، فخلفه السلطان عبد الحميد سنة ١٨٣٩.
ثم توالت الحوادث إلى ١٥ يوليو (تموز) سنة ١٨٤٠م فانعقدت معاهدة «لندرة» قاضية باعتبار محمد علي باشا من تابعي الدولة العثمانية، إلا أن ذلك لم يكن ليوقفه عن مقاصده، ولديه إذ ذاك نحو ١٤٦ ألفًا من الجنود النظامية، و٢٢ ألفًا منها الباشبوزق منه ١٣٠ تحت قيادة ابنه إبراهيم في سوريا، والباقون متفرقون في الحجاز وسنار وكريد ومصر، لكنه علم بعد ذلك أن هذه القوات قليلة في جانب ما يلزمه لإتمام مشروعاته، فجعل يضم إليها كل تلامذة المدارس حتى استخدم المرضى والجرحى، ثم عمد إلى إنشاء خفر وطني احتياطيًّا، ولكنه لم ينجح به كل النجاح، على أنه مع ذلك لما عرضت عليه معاهدة «لندرة» لم يصادق عليها، فعرض عليه أن يأخذ ولاية عكا ترضية له ويضمها إلى مصر وينسحب من سوريا فرفض أيضًا.
وبعد ذلك بيسير جاءت الجيوش الإنكليزية إلى صيدا، وفر إبراهيم إلى الجبل، وكان الكومودور نابيه قد سار في عمارة بحرية إنكليزية لمحاصرة بيروت، وكانت تحت قيادة سليمان باشا الفرنساوي وقد حصنها تحصينًا منيعًا ومعه فرقتان من الجند، وإنما لسوء الحظ جاءته الأنباء أن إبراهيم قُتل وتشتت رجاله، فخاف سليمان ورأى أن لا بد له من تأكيد حقيقة ذلك الخبر؛ حتى إذا تحقق موت إبراهيم يضم إليه ما بقي من الجيوش للمدافعة، فبرح بيروت بعد أن جعل عليها صادق بك أحد أميرالايات الفرقتين. أما هذا فلما رأى نفسه منفردًا في بيروت خاف فترك المدينة وفر، فاستولى عليها الإنكليز، ثم اتصل به من سليمان أن إبراهيم باشا لا يزال حيًّا، ويأمره بالثبات أمام العدو بينما يحضر، فخاف صادق بك الوقوع في شر أعماله فانضم إلى الإنكليز هو ورجاله، ثم سار نابيه من بيروت إلى عكا وحاصرها، ففر إسماعيل بك ومن فيها من الرجال وسلِّمت المدينة.
ثم سار نابيه إلى الإسكندرية بست سفن، وعرض على محمد علي باشا الصلح فقبل، وعقدوا معاهدة وقع عليها الطرفان، ولما أرادوا تثبيتها مانعت الدول في ذلك، وبقيت الأمور على حالها حتى دارت المخابرات بين الباب العالي ومحمد علي باشا فأراد السلطان إرضاء محمد علي، فأعطاه أن تكون مصر وراثية لنسله بشرط أن يكون لجلالة السلطان الحق المطلق أن يختار من عائلة محمد علي من يريد لتوليتها، فتردد محمد علي في بادئ الرأي. ثم أمر جيوشه أن تنسحب من سوريا، وكان عددها عند ذهابها إليها مائة وثلاثين ألفًا فلم يرجع منها إلا خمسون ألفًا، وقد أخذ التعب منهم مأخذًا عظيمًا، فلم يرَ بُدًّا من قبول إنعام السلطان، فبعث إلى الباب العالي بذلك، فأرسل إليه خطًّا شريفًا ١٣ فبراير سنة ١٨٤١م بتثبيته على مصر مع حقوق الوراثة لأعقابه، وأن يكون لجلالة السلطان أن يختار منهم من يريد لهذا المنصب وغير ذلك، ثم صدر فرمان آخر بتثبيت ولايته على النوبة، ودارفور، وكردوفان، وسنار، فأصبحت حكومته بعد ذينك الفرمانين محصورة في مصر والسودان، وبمقتضى الخط الشريف تنازل محمد علي باشا عن عشرة آلاف من جنود سوريا، فلم يبقَ عنده إلا ثمانية عشر ألفًا بين مشاة وفرسان وغيرهم، فاضطره إذ ذاك إلى الاقتصاد لإصلاح مالية البلاد، فأوقف كثيرًا من المدارس العمومية التي كان قد خصص مبالغ معلومة للنفقة عليها، ومن ضمنها مدرسة شبرا الزراعية، وأبدل الأساتذة الأوروباويين لما بقي من المدارس بأساتذة أتراك أو وطنيين، وسار من ذلك الحين في خطة الإصلاح قانعًا بما قسم له من البلدان، فعمل على إرضاء جلالة السلطان فأنفذ إلى جلالته ابنه سعيد باشا لتقديم فروض العبودية.
ثم أصاب إبراهيم باشا انحراف في صحته، فسار إلى أوروبا لقضاء فصل الصيف سنة ١٨٤٥ فأصاب ترحابًا عظيمًا في سائر الممالك الأوربية، ولا سيما في فرنسا وإنكلترا وعاد إلى مصر في أواخر صيف ١٨٤٦م، وكان والده قد توجه قبل وصوله بيسير إلى الآستانة بدعوة رسمية ليقدم عبوديته لجلالة السلطان، فوصلها في ١٩ يوليو (تموز) عام ١٨٤٦م، ونزل في سراي رضا باشا، ثم تشرف بالمثول بين يدي السلطان فرحب به، ولما أراد تقبيل الأعتاب الشاهانية أمسكه جلالته وأجلسه بجانبه، ومكثا ساعة يتحادثان ثم انصرف شاكرًا، وزار عدوه القديم خسرو باشا وتصافيا، وفي ١٧ أوغسطس من تلك السنة برح الآستانة قاصدًا قوالة مسقط رأسه، فأقام فيها عدة أبنية لتعليم الفقراء وإعانة الضعفاء والمساكين، ثم بارحها إلى الإسكندرية فقوبل بالأنوار وسار منها إلى القاهرة فتقاطر إليه المهنئون من الأصدقاء أفواجًا، فكان يستقبلهم وعلى صدره الطغراء الشاهانية تتلألأ كالشمس.
وفي منتصف عام ١٨٨٤ توعك مزاج محمد علي باشا وازدادت فيه ظواهر الخرف، فلم يعد ثَم بد من تولية إبراهيم باشا، فتوجه هذا إلى الآستانة في أوغسطس من تلك السنة لأجل تثبيته على ولاية مصر خلفا لأبيه، فثبته السلطان بنفسه، فعاد لمعاطاة الأحكام. ثم راجعه المرض واشتد عليه بغتة ففارق هذا العالم في ١٠ نوفمبر عام ١٨٤٨م، وبعد وفاته بإحدى عشرة ساعة دُفن في مدفن العائلة الخديوية بجوار الإمام الشافعي بالقاهرة.
وكان عباس باشا غائبًا في مكة فاستُقدِمَ حالًا لاستلام زمام الأحكام، فوصل القاهرة في ٢٤ دسمبر بعد أن قضى فروض الحج، وبما أنه أكبر أبناء العائلة لم يكن ثم اعتراض على توليته، فجاء الفرمان الشاهاني من الآستانة مؤذنًا بذلك فتولى الأمور.
كل ذلك ومحمد علي باشا في الإسكندرية وقد أخذ منه الضعف مأخذًا عظيمًا وما زال يهزل جسدًا وعقلًا إلى ٢ أوغسطس عام ١٨٤٩م فتوفي، ولم يستغرب الناس ذلك لأنه مكث في حالة النزاع مدة طويلة، وفي ٣ منه تقاطر الناس من الأعيان والقناصل إلى سراي رأس التين في الإسكندرية لحضور مشهد ذلك الرجل العظيم، فإذا هو في قاعة الاستقبال موضوعًا في محمل تغطيه شيلان الكشمير، وعلى صدره سيفه والقرآن الكريم، وعلى رأسه طربوشه الجهادي أحمر تونسي، وحوله العلماء في الملابس الرسمية يتلون القرآن بأنغام محزنة، وكان سعيد أكبر من وُجد في الإسكندرية من عائلة الفقيد، فكانت تُوجَّه نحوه خطابات التعزية، وقد نُقلت جثة الفقيد ودُفنت في جامعه في القلعة، ولا تزال هناك إلى الآن.
(٤) إصلاحاته
استولى محمد علي على مصر وهي في معظم الخراب والفساد سياسيًّا، وماليًّا، وتجاريًّا، وزراعيًّا، وأدبيًّا، فأخذ على نفسه إصلاح شئونها، وبذل في ذلك من الجهد والعناية ما ليس وراءه غاية، وقد فاز بما أراد؛ فأحيا الديار المصرية وأنعشها وأنماها من سائر الوجوه حتى أصبحت تُجاري مدن أوروبا؛ ولذلك لقبه كُتَّاب عصره بموجد الديار المصرية، يريدون أنه أوجدها من العدم.
(٤-١) الإصلاح الإداري
وأول شيء باشره من الإصلاح مسح الأراضي والانتفاع بزرعها وتوزيعها، وتفصيل ذلك أن الأراضي المصرية كانت منقسمة من حيث ملكها إلى قسمين: أحدهما الأراضي التي كاد يكون لواضع اليد عليها الحق في ملكها ملكًا مطلقًا وكانت معفاة من الضرائب، والقسم الثاني الأراضي التي لم يكن لزُرَّاعها إلا حق التمتع بريعها، وهي الأراضي التي كانت عليها الضريبة الخراجية، أما نفس العقار في هذين القسمين فكان ملك بيت المال أو الحكومة أو السلطان.
هذا كان شأن الأراضي المصرية قبل الفتح العثماني وبعده إلى القرن السابع عشر حينما استأثر الأمراء المماليك بالقوة والسلطة واختلَّ نظام الأرضين، وصار الناس يهاجرون، فأهملت الأشغال العمومية، وقل ريع الأرض، فأصبحت الحكومة في عجز كلي عن استحصال النقود فالتجأت إلى تلزيم الخراج، وذلك أن الحكام كانوا يضمنون خراج النواحي والبلاد لأناس وكان ذلك الضمان أو الالتزام إما بالمزايدة أو بالاتفاق بين الملتزم من جهة والرزنامه بالنيابة عن الحكومة من جهة أخرى، حتى إذا تم الأمر أعطت الرزنامه للملتزم تقسيطًا؛ أي عقد تلزيم يصدق عليه شيخ البلد وهو كبير أمراء المماليك.
فإذا دفع الملتزم الضريبة يُعطَى له حق التصرف في تحصيل المال الذي عجله، وعلى فوائده التي كان يقرر سعرها هو بنفسه كما يريد، وكانت الحكومة تتعهد بمساعدته في التحصيل وتجعل له في مقابل ما ينفقه ويكابده في ذلك التحصيل أراضي غير التي التزمها معفاة من كل ضريبة تعرف بالأواسي. أما الفلاحون فلم يكونوا يملكون أرضًا فقط على أن الملتزمين أنفسهم كانت تُنزع منهم الالتزامات إذا تصدى لهم من كان أكثر صولة منهم وأشد بطشًا، ولا يخفى ما كان ينجم عن هذا التصرف من اختلال الأمن وضياع الحقوق والأتعاب.
فلما استقام الأمر لمحمد علي باشا أمر بمسح كل أراضي مصر المزروعة، ثم قسمها إلى مديريات، والمديريات إلى مراكز أو أقسام، وهذه إلى نواحي، وعين فيها من يقوم بإدارة أمورها وآخرين لجباية الضرائب، وأبطل الالتزامات جملة، ووزع أراضي كل ناحية بين أهالي تلك الناحية نفسها بحيث يصيب كل فلاح قادر على الشغل جانبًا من الأرض بقدر جانب الآخر، فبلغ نصيب كل فلاح ثلاثة أفدنة وبعضهم أربعة أو خمسة، وجعل لمشائخ البلاد جانبًا من الأرض أعفاه من الضريبة في مقابل نفقات ضيافة جباة الأموال الأميرية الذين كانوا يمرون في بلادهم، وما كانت الحكومة تكلفهم به من المهام، ودعا تلك العطايا «مسموح المشائخ» أو «مسموح المسطبة»، وهي تقابل الأواسي المتقدم ذكرها.
ثم رأى رحمه الله أن الفلاح لا يستطيع من نفسه أمرًا كافلًا إخراجه مما هو فيه من الضيق الذي تراكم عليه بمرور الأجيال، وكان قد انتهى من أعماله الحربية ولم يعد ثَمَّ حاجة إلى بقاء ضباط الجهادية منقطعين إلى وظائفهم العسكرية مع بقاء رواتبهم جارية عليهم في حالة السِّلم، وأن ليس من التدبير والحكمة أن يتناولوا معيناتهم وهم عطل من الأعمال، ورأى من الجهة الثانية أن الفلاح يحتاج إلى مرشد يهديه إلى الطرق اللازمة لاستقامة أمره، ووازعٍ يدفعه إلى النهوض بواجباته، وعلم أيضًا أن المرء مهما كان صادقًا في خدمة الحكومة يشتغل لنفسه أكثر مما يشتغل لغيره، فارتأى أن يعهد بأمر البلاد من حيث الزراعة إلى أولئك الضباط مفوضًا إليهم تعميرها وإصلاحها بأنفسهم ففعل، ولم يحرم الفلاح مع ذلك من ثمرة أتعابه، بل جعل لهذه الطريقة التي اعتمدها أصولًا وقوانين تقضي بأن لا تُعطَى الأطيان للمتعهد ما دامت رائجة ومقتدرة على أداء ما عليها من الأموال في أوقاتها. أما الأطيان غير الرائجة فتحال إلى عهدته باختيار أربابها، وهو يتعهد بأداء المال المطلوب للحكومة، وبهذه الواسطة نشطت الزراعة وتحسنت تحسنًا عظيمًا، وما زالت تلك الأراضي في أيدي المتعهدين إلى أيام المغفور له عباس باشا، وهو الذي استردها.
ومن أعماله الإدارية إنشاء الدواوين، ومنها ديوان المعاونة وفائدته النظر فيما يعرض من الدواوين الأخرى والمديريات وسائر الجهات، ثم الديوان الخديوي وكان يقوم بأشغال ديواني الداخلية والخارجية والضابطة، ثم ديوان الأشغال، وديوان المبيعات، وديوان الفردة، ثم أنشأ بعد ذلك ديوان الخارجية خاصة، وديوان العسكرية، ثم الخزانة المالية وما يتعلق بها، وديوان الأوقاف، وديوان المعامل، وديوان التفتيش، والحقانية، والترسخانة، والأبنية، وديوان المدارس، وجميع ذلك أو معظمه عهد بإدارة أعماله إلى مديرين ورؤساء من أبناء هذا القطر السعيد، وكلها ترجع بأحكامها إلى ديوان المعاونة المتقدم ذكره.
ثم أنشأ مجالس للقضاء وما يقتضى لها من القوانين والأحكام، ورتب البريد يُحمل على أيدي السعاة برًّا وبالسفن بحرًا، وأنشأ ما يقوم مقام التلغراف الآن من الإشارات بواسطة أبنية مرتفعة ممتدة على خط واحد بين المدن الكبيرة، بين البناء والآخر مسافة تكفي لفهم الإشارة، لا يزال بعض منها قائمًا أثرًا لهمَّة ذلك الرجل.
وأنشأ لتأييد السِّلم وتوطيد الأمن فرقة الضابطة، وفرقهم في أنحاء البلاد فأمن الناس غائلات السبل، ولا سيما الأوربيون؛ فإنهم كانوا يقاسون أثناء تجولهم في القطر إهانات ومشاق جسيمة فأصبحت السبل في مأمن، وتسهلت الصلات التجارية على الخصوص بين إنكلترا والهند على طريق البحر الأحمر فاستعاضوا بها عن طريق رأس الرجاء الصالح في أمور كثيرة.
(٤-٢) الإصلاح الزراعي
ولم تقف إصلاحاته عند هذا الحد، ولكنه رأى خصب التربة المصرية وإمكان استخدامها لغير أنواع المزروعات المعروفة بمصر فجاء إليها بالقطن البدار (التقاوي) الأمريكاني، وجاء بنبات النيلة من جهات الهند، وبنبات الأفيون من آسيا الصغرى، وجاء بغير ذلك من أنواع المغروسات المفيدة، وجاء بأناس عالمين بكيفية زراعتها واستغلالها، وأكثر من غرس الحدائق والأشجار في القاهرة وضواحيها تلطيفًا لحرارة الهواء واستزادة للغيث، من جملة ذلك مغارس الليمون في شبرا، والحدائق في الروضة، وحديقة الأزبكية فقد كان في مكانها قبل أيامه بركة كبيرة يتصل إليها الماء من النيل أيام فيضانه، وكان الناس يأتون إليها في المواسم والأعياد في قوارب عليها الأنوار وسائر الزخارف، فاحتفر محمد علي حولها ترعة ينصرف إليها الماء فظهرت أرض البركة، فجعل حول هذه الترعة صفوفًا من الأشجار تحيط ببقعة كلها غرس طيب، أما الحديقة التي نراها الآن فهي من آثار الخديوي الأسبق إسماعيل باشا.
ومن آثاره الزراعية السدود التي أجراها في أبي قير وترعة الفرعونية وأشتوم الديبة وأشتوم الجميل وغيرها، وأنشأ كثيرًا من الجسور والترع ونظر في تطهيرها، وأنشأ الترع الصيفية لإنماء الزراعة الصيفية، وأبدل الخول بالمهندسين في أعمال الري، وبعث كثيرًا من أبناء البلاد إلى أوروبا لدرس فن الزراعة وإتقانه ليخدموا بلادهم به.
ومن مشروعاته الخطيرة من هذا القبيل القناطر الخيرية القائمة عند رأس الدلتا، والسبب في بنائها أنه رأى النيل لما يصل إلى رأس الدلتا ينفصل إلى فرعين: وهما فرعا رشيد ودمياط أو الفرع الغربي والشرقي، ورأى أن الغربي أكبرهما ويمر في بقاع معظمها لا يصلح للزراعة فيذهب كثير من مائه هدرًا، والشرقي يخترق بقاعًا واسعة حسنة التربة فإذا كانت أيام التحاريق لا يبقى من مائه ما يكفي للري، فأراد اتخاذ وسيلة ينتفع بها مما يزيد من ماء الفرع الغربي بإضافته إلى الشرقي. ورأى الصعيد في زمن التحاريق يشح فيه الماء لارتفاع أرضه، وقد لا يرتوي جيدًا إلا في زمن الفيضان، فأقر على بناء قناطر على عرض الفرعين عند أول تفرعهما عند رأس الدلتا، وأن يجعل لهذه القناطر أبوابًا من الحديد تُغلق وتُفتح عند الاقتضاء، فإذا أقفل قناطر هذا الفرع انصرف جانب من الماء المنحدر فيه إلى الفرع الآخر فيستطيع صرف المياه كيف شاء، وإذا كان الفيضان قليلًا يقفل قناطر الفرعين جملة فيرتفع الماء في الصعيد فيروي أراضيه ثم لا يصرف منه إلا ما يلزم لري الوجه البحري، فإذا كانت أيام التحاريق تفتح القناطر فتفيض المياه والأرض في حاجة إليها، فباشر هذا العمل الخطير، ولم يضع الحجر الأول منه إلا عام ١٢٥١ﻫ/١٨٣٥م، ولم ينثنِ عن عزمه حتى أتم بناءه بدراية لينان باشا المهندس الفرنساوي؛ غير أن ذلك المشروع لم يأتِ بالفائدة المطلوبة، ولا سيما بما يتعلق بارتفاع الماء في الصعيد، ولكن الحكومة جعلت همها في السنين الأخيرة إصلاح ما هو فاسد منها وسد ما فيه من الخلل.
(٤-٣) الإصلاح العسكري
كانت القوة العسكرية في مصر لما تولاها محمد علي أخلاطًا من الألبانيين (الأرناءوط) والدلاة (المغاربة) والإنكشارية ومن جرى مجراهم، ونظامهم الحربي النظام القديم الذي كان متبعًا في الأزمنة السالفة عند الدولة العليَّة قبل هذا القرن، فرأى رحمه الله أن يدربهم على النظام الفرنساوي الذي اتبعه بونابرت في غزواته وأخذته عنه دول أوروبا، فحاول ذلك مرارًا فعظم على جنوده ولا سيما الأرناءوط، وعصوا أوامره فيه؛ لأنهم اعتبروا ذلك بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ولما ألح عليهم ثاروا وتجمهروا إلى القلعة يطلبون الرفق بهم، فرأى من الدراية والحزم أن يعاملهم بالحسنى، فأجابهم إلى ما أرادوا، وأخذ يُدخل ذلك النظام أولًا بين الجنود الوطنيين؛ لأنهم أقرب إلى الطاعة من الألبانيين ومن شاكلهم، فأسس مدرسة حربية في الخانكاه قرب المطرية تعلم فيها اللغات والحركات العسكرية، وجعل سراي مراد بك في الجيزة مدرسة للفرسان، وأقام فيها أساتذة من الإفرنج، وأنشأ مدرسة للطبجية وجعل في القاهرة معامل لسكب المدافع واصطناع سائر حاجيات الجند، والفضل في تدريب الجند على النظام الجديد راجع لقائد من قواد الفرنساويين اسمه الجنرال «سيف»، ولكنه أسلم ودعا نفسه سليمان باشا، وقد خدم الحكومة المصرية خدمات صادقة في حروبها ببر الشام وغيرها.
وبنى محمد علي في الإسكندرية دار صناعة أتى إليها بالسفن والدوارع من مرسيليا والبندقية، وأقام فيها مدرسة جاء إليها بالأساتذة من فرنسا وإنكلترا، وبنى حول الإسكندرية حصنًا منيعًا وحصونًا أخرى في أماكن أخرى.
(٤-٤) الإصلاح التجاري
ولما أصلح الزراعة وكثرت حاصلات البلاد وجه التفاته إلى تنشيط التجارة، فأراد إنشاء مينا أمين تأوي إليه السفن التجارية، فلم تعجبه رشيد ولا دمياط لخشونة مرساهما، فاختار الإسكندرية فاحتفر ترعتها الموصلة بينها وبين النيل ودعاها ترعة المحمودية نسبة إلى السلطان محمود الثاني، فكثر نقل البضائع فيها بين الإسكندرية وداخل القطر، فاكتسبت الإسكندرية بذلك أهمية كبرى وتقاطر إليها التجار من أماكن مختلفة من أوروبا وغيرها، وأقيمت فيها البنايات الكبيرة على النمط الإفرنجي، ووجدت فيها الفنادق والنزل للغرباء، وأصلح مرفأ بولاق وغيره، ووسع للأجانب في الاستيطان والاتِّجار، فاتسعت التجارة وكثرت العلائق وعاد كل ذلك بالنفع الجزيل. وتوطيدًا لأعماله هذه أنشأ مجلسًا تجاريًّا مؤلفًا من الوطنيين والأجانب للحكم في القضايا التجارية.
(٤-٥) الإصلاحات الصناعية
أما الإصلاحات الصناعية فكثيرة، ولكن لم يبقَ منها إلى الآن إلا آثار بالية، مع ما توخاه رحمه الله من إنشاء المعامل واستجلاب الصناع من أقطار أوروبا؛ فإنه أنشأ في هذا القطر معامل عديدة لمعالجة القطن والنيلة واصطناع الطرابيش التونسية، والورق، والغزل، وأنواع الأقمشة من الحرير، والكتان، والقطن، والصوف في سائر جهات القطر، ومعمل الأسلحة على أنواعها وغيرها. أما سبب حبوط معظم تلك المعامل فعائد إلى عدم وجود معادن الفحم الحجري في القطر المصري.
(٤-٦) الإصلاحات الصحية
رأى ذلك الرجل العظيم أن البلاد في احتياج كلي لهذه الإصلاحات؛ لانتشار التدجيل والتطبيب بالكتابة والحجابة وما شاكل، فاستقدم أحد مشاهير الأطباء الفرنساويين واسمه الدكتور كلوت (ثم صار كلوت بك، وإليه ينسب شارع كلوت بك في القاهرة) فأنشأ المدارس الطبية، والمستشفيات، وفي مقدمتها المدرسة الطبية في قصر العيني (وكان هذا القصر قبلًا مسكنًا لإبراهيم بك الكبير من أمراء المماليك) يدرس فيها الطب والجراحة، ومدرسة أخرى في فن التوليد، ومستشفى كبيرًا في أبي زعبل قرب المطرية، وأنشأ مجلسًا صحيًّا ومدرسة بيطرية، ورتب مستشفيات وأطباء للعساكر وأخرى للأهالي، وعين أطباء لمراقبة الأحوال الصحية في المديريات.
(٤-٧) الإصلاحات العلمية
أما الإصلاحات العلمية فلا تقل أهمية عما تقدم؛ لأنه ألف مجلسًا للمعارف العمومية قصد به تعليم خدمة الحكومة الملكيين والجهاديين ما يؤهلهم للقيام بمهام أعمالهم، وفتح مدارس كثيرة لتعليم الشبان من أهل البلاد، وبعث بعضًا منهم إلى أوروبا لإتقان الدروس على مثال الإرساليات العلمية بعد ذلك، وأنشأ المطبعة الأهلية في بولاق وأمر بترجمة كثير من الكتب المفيدة، وأنشأ الجريدة المصرية الرسمية (الوقائع المصرية) وديوان المهندسخانة وغير ذلك.
(٥) صفاته ومناقبه
كان محمد علي متوسط القامة عالي الجبهة أصلعها، بارز القوس الحاجبي، أسود العينين غايرهما، صغير الفم باسِمُهُ، كبير الأنف متناسب الملامح مع هيبة ووداعة، أبيض اللحية كثيفها مع استدارة وسعة، جميل اليدين، منتصب القامة، جميل الهيئة، ثابت الخطوات منتظمها، سريع الحركة، إذا مشى يجعل يديه متصالبتين وراء ظهره غالبًا على الخصوص إذا مشى في داره مفكرًا في أمر، وكذلك كان يفعل بونابرت، وقلَّما كان يفاخر باللباس، فكان لباسه غالبًا على زي المماليك، وعلى رأسه الطربوش الجهادي، ثم أبدله بالعمامة فزادته هيبة ووقارًا، وأبدل اللباس العسكري بلباس واسع بسيط لا يمتاز به عن بعض أتباعه.
وكان يكره التفاخر بالحاشية، فلم يكن على بابه إلا رجل واحد يخفره، وإذا استوى في مجلسه لا يتقلد السلاح إنما يجلس وفي يده حقة العطوس والمسبحة يتلاهى بها، وكان يحب ألعاب البلياردو والداما، ولا يأنف من مجالسة صغار الضباط، وأما جلساؤه العاديون فالقناصل وكبار السياح، وكانوا يحبونه ويجلُّون قدره، ويلقبونه بمبيد المماليك أو مصلح الديار المصرية، وكان سليم القلب مع دهاء وسياسة، سريع التأثر، لا يعرف الكظم، فكثيرا ما كان ينقاد بدسائس المفسدين، وكان كريم النفس سخي العطاء، وفي بعض الأحوال مسرفًا، وكان يتفاخر بعصاميته ويرتاح للتكلم عن سابق حياته، وكان محبًّا للاطلاع ولا سيما على الأخبار السياسية، وكان يعتبر الجرائد وتأثيرها في الهيئة الاجتماعية فكانوا يترجمونها له فيطالعها بتمعُّن.
أما هواجسه السياسية فكانت تقلق راحته فلا ينام إلا يسيرًا، وقلَّما يرتاح في نومه، ولا ينفك متقلبًا من جانب إلى آخر، فكان يجعل عند فراشه اثنين من خدمته يتناوبان اليقظة لتغطيته إذا انكشف عنه الغطاء من التقلب، ويقال إن من جملة دواعي أرقه الشهقة المرتجفة التي كانت تتردد إليه كثيرًا، وكان قد أصيب بها في حملته على الوهابيين على إثر رعب شديد، على أن ذلك الأرق لم يكن ليضعف شيئًا من سرعة حركته، فكان يستيقظ نحو الساعة الرابعة من الصباح ويقضي نهاره في المشاغل المختلفة بين مفاوضة مع ذوي شوراه أو مراقبة استعراضات العساكر أو استطلاع أمور أخرى تتعلق بمصالح الأمة، وكان بارعًا في الحساب بغير تعلُّم؛ لأنه شرع بتعلم القراءة والكتابة وهو في الخامسة والأربعين من عمره، ويقال إنه ابتدأ بتعلم أحرف الهجاء على أحد خدمة حريمه، والكتابة على أحد المشائخ، وهذا مما يزيده شرفًا وفخرًا ويبرهن على ما فُطر عليه من قوة الإدراك والحذاقة والمقدرة على المهام السياسية، وكان صارم المعاملة مع حس ورقة وحسن الأسلوب، وكان متمسكًا بالإسلام مع احترام التعاليم الأخرى، ولا سيما التعاليم المسيحية، فكان يقرب أصحابها منه ويعهد إليهم أهم أعماله.
ويقال بالإجمال: إنه كان لرعيته أبًا حنونًا وصديقًا مخلصًا، ولذوي قرباه نصيرًا مسعفًا، ولأولاده أبًا حقيقيًّا؛ ولذلك تراه بعد أن أصيب بفقد أكثرهم غلب عليه الحزن حتى أثر في صحته تأثيرًا رافقه إلى اللحد. أما حبه للرعية فلا يحتاج إلى دليل، فهذه الديار المصرية عموما إذا قصرت ألسنة أهلها عن تعداد مآثره، ينطق جمادها بمزيد فضله، هذه الترع والجسور والبنايات والشوارع والجنائن، هذه المطابع والمدارس، هذه النظامات الجهادية والملكية والقضائية، هذه الزراعة والفلاحة، هذه شبه جزيرة العرب تردد ما لاقته من نجدته، وقد كان محترمًا لدى رعيته وذويه، ومن الأجانب البعيدين منه وطنًا ودينًا ومشربًا، وكثيرًا ما تقربوا إليه بالنياشين والهدايا إقرارًا بفضله على العالم عمومًا بتمهيد سبل التجارة بين أوروبا والهند على الخصوص.