محمد أحمد المتمهدي السوداني
(١) المهدوية في الإسلام
المشهور بين المسلمين من أوائل الإسلام إلى الآن أنه سيظهر رجل منهم يؤيد الدين وينشر لواء العدل ويستولي على الممالك الإسلامية يسمى المهدي، ويسندون ذلك إلى أحاديث نبوية بحث كثيرون من علماء الإسلام في صحتها وفسادها وفي مقدمتهم العلامة ابن خلدون، ومن أوثق الأحاديث المروية من هذا القبيل رواية الترمذي وهي: «لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي.» ورواية الحاكم وهي: «تُملأ الأرض جورًا وظلمًا فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعًا أو تسعًا فيملأ الأرض عدلًا وقسطًا كما ملئت جورًا وظلمًا.» ولم يرد في هاتين الروايتين لفظ المهدي، ولكنهم ذكروا أحاديث أخرى ورد فيها لفظه انتقدها ابن خلدون انتقادًا طويلًا في كلامه عن أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس … إلخ (في مقدمته الشهيرة، فمن أراد الإسهاب فليراجعه هناك).
على أن ذلك لم يقلل شيئًا من اعتقاد الجمهور في مجيء المهدي، فما انفك المسلمون ينتظرون مجيئه، فأدى ذلك إلى ظهور جماعة كبيرة في أزمان مختلفة ادعى كل منهم أنه المهدي المنتظر، فالتفَّت حوله الأحزاب وأسس بعضهم دولًا عظمى لا يزال ذكرها باقيًا إلى الآن، على أن كثيرين آخرين لم يكادوا يظهرون بدعواهم حتى طوى الزمان ذكرهم لأن الأحوال لم تكن معدَّة لقبولهم.
على أن بين الشيعة والسنة خلافًا من قبيل المهدي وزمن ظهوره؛ فأهل الشيعة يعتقدون أنه ظهر في أواخر القرن الثالث للهجرة في شخص أبي القاسم محمد بن الحسن العسكري الإمام الثاني عشر، وأنه سيظهر ثانية قبل انقضاء العالم من سرداب في سر من رأى بالعراق، وأما أهل السنة فيقولون إنه لم يظهر بعد، وتتمة للموضوع نذكر أشهر الذين ادعوا المهدوية من أول الإسلام إلى الآن.
-
(١)
محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية، ظهر في المدينة سنة ١٥٤ﻫ في عهد الخليفة المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، فدعا الناس إليه، وكان له أخ اسمه «إبراهيم» نصره وقام بدعوته ففتح البصرة والأهواز وفارس ومكة والمدينة، وبعث عماله إلى اليمن وغيرها، وكان ذلك في زمن الإمام مالك فأفتى له وشد أزره فكثرت دعاته حتى كاد يذهب بالدولة العباسية لو لم يستدرك المنصور أمره ويتغلب عليه ويقتله (وترى تفصيل أخباره في الجزء السادس من تاريخ ابن الأثير).
-
(٢)
عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق مؤسس الدولة الفاطمية في المغرب التي فتحت الديار المصرية في أواسط القرن الرابع للهجرة وبنت مدينة القاهرة على يد القائد جوهر، وقد اتسعت دولة الفاطميين وامتدت سلطتهم وطالت أيام حكمهم (وترى تفصيل أخبارهم في الجزء الأول من كتابنا تاريخ مصر الحديث).
-
(٣)
محمد بن عبد الله تومرت المعروف بالمهدي الهرعي، ويكنى أبا عبد الله، أصله من جبل السوس في أقصى بلاد الغرب، رحل إلى المشرق حتى انتهى إلى العراق، واجتمع بأبي حامد الغزالي وغيره فأخذ العلم عنهم واشتهر بالنسك والتقوى وساح في الحجاز، وجاء مصر ثم سار إلى الغرب وأقام بمراكش وغيرها، وتأسست على يده دولة عظيمة في أوائل القرن السادس للهجرة هي دولة عبد المؤمن (وترى تفصيل ذلك في الجزء الثاني من تاريخ ابن خلكان).
-
(٤)
العباس الفاطمي ظهر بالمغرب في آخر المائة السابعة للهجرة، وادَّعى المهدوية فتكاتف الناس حوله وعظمت شوكته حتى دخل مدينة فاس عنوة، وأحرق أسواقها وبعث العمال إلى الأنحاء، لكنه قُتل غيلة فانقضى أجله وسقطت دعوته.
-
(٥)
السيد أحمد، ظهر في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد في جهات الهند وحارب الأسياخ على حدود بنجاب الشمالية الغربية سنة ١٨٢٦ ولم تقم له قائمة.
-
(٦)
محمد المهدي السنوسي ابن الشيخ محمد السنوسي الذي ظهر في المغرب في أواسط القرن المذكور، وأصله من جبل سوس بجزائر الغرب، نبغ (والده) سنة ١٨٣٧ ولاقى من بعض أولي الأمر الإسلامي ترحابًا، نشر دعوته وأيدها، وكان مقامه الرئيسي في جغبوب على مقربة من واحة سيوا نحو الغرب، ولكنه أنشأ زوايا عديدة في أماكن أخرى من بلاد الغرب يبلغ عددها ثلاثمائة كلها تعلِّم طريقته وتعاليمه.
أما زاوية جغبوب (أو جربوب) فإنها أعظمها كلها، تجتمع إليها الطلبة من تونس ومصر والشام ومن بادية الغرب، وفيها كان يقيم الشيخ محمد السنوسي، وقد وُفق هذا الشيخ إلى نشر تعاليمه ونفوذه توفيقًا غريبًا وانتشرت طريقته بين القبائل المغربية، وامتدت إلى سلطنة ودَّاي ودارفور، ونال هناك نفوذًا عظيمًا حتى أصبحت تلك السلطنة في قبضة يده، فلما تُوفِّي سلطانها سنة ١٨٧٦ استخاروا السنوسي في من يخلفه، فاختار لهم سلطانًا اسمه يوسف.
فالسنوسي هذا تُوفِّي منذ بضع عشرة سنة، ولكنه لمَّح قبل وفاته أن المهدي المنتظر سيظهر قريبًا ولعله ابنه، فاستوضحوه فلم يزدهم إلا كلمة «لا أعلم»، على أنه أنبأهم بأن ظهوره سيكون في ختام القرن الثالث عشر للهجرة (١٨٨٢م) فالسنوسيون يعتبرون شيخهم المشار إليه مهديًّا، وقد سموه محمد المهدي، وهو رجل عاقل شديد البطش، ومن كراماته خيمة سحرية يحملها في جربه يزعمون أن الزاد لا يفرغ منها.
-
(٧)
محمد أحمد المهدي السوداني، وقد نحا في دعواه منحى الشيعة، فقال إنه الإمام الثاني عشر الذي ظهر مرة قبل هذه، وفي تسمية أتباعه بالدراويش تأييد لرغبته في قول الشيعة؛ لأن لفظة درويش فارسية.
(١-١) سبب ظهور المهدي السوداني وقيامه
- (١)
ذكرنا انتظار جمهور المسلمين للمهدي وأهل السودان في جملتهم، ولكن السودانيين كانوا ينتظرونه قريبًا اعتمادًا على قول الشيخ السنوسي كما تقدم.
- (٢)
من المتداول بين شيوخ أهل السودان وفقهائهم أن المهدي سيظهر من بينهم؛ استنادًا إلى أقوال يروونها عن بعض الأئمة منها قول الإمام القرطبي في طبقاته الكبرى، ونصه: «وزير المهدي صاحب الخرطوم» وقول السيوطي وابن حجر: «إن من علامات ظهور المهدي خروج السودان»، وغير ذلك.
- (٣)
كان تحصيل الضرائب في السودان منوطًا بجماعة الباشبوزق فكانوا يسومون السودانيين في تحصيلها أنواع الخسف والذل، وقد يقتضونها مرارًا، وروى المستر فرنك بلور قنصل إنكلترا بالخرطوم إذ ذاك أن الضرائب كانت تُضرب على أهل السودان بلا شفقة فيضربون ضريبة على كل فرد منهم وعلى الأولاد والنساء يقتضونها ثلاث مرات في السنة، مرة لصاحب القضاء وأخرى للجابي وأخرى للحكمدار، وكان الزارع إذا زرع حنطة لا يؤذن له بزراعتها حتى يدفع ثلاثة جنيهات كل سنة، ويدفع سبعة أخرى في مقابل التصريح له بريِّها من ماء النيل، فإذا تردد في الدفع سيق إلى السجن، وإذا صح زرعه دفع ذلك المال مرتين: مرة للحكومة، ومرة لجيب الباشا، وإذا كان من أصحاب السفن التجارية التي تجري في النيل فُرض عليه أربعة جنيهات عن كل سفينة، فإذا لم يرفع العلم المصري على سفينته غرم بأربعة أخرى، ومن تأخر عن تأدية تلك الضرائب اقتضتها الحكومة منه بالكرباج، وقد يعاقب ذلك المسكين بإحراق منزله أو سلب أمتعته، والخلاصة أن السوداني لم يكن يباشر أمرًا إلا أدى عليه ضريبة.
- (٤)
من المقرر المشهور أن التجارة السودانية محصورة في أصناف معدودة، أهمها: تجارة الرقيق. والنخاسون أو تجار الرقيق أشبه بالملوك والقواد منهم بالتجار في حاشية كل منهم مئات أو ألوف من الرجال بين خدَمة وعمال وعبيد يقومون لقيامه ويقعدون لقعوده، فالنخاسون عمد السودان وعيون أعيانه وقادة أعماله، تهابهم الحكام وتخشى سطوتهم الحكومة، وما زالت تجارتهم رابحة وأعمالهم سائرة حتى قام أهل العالم المتمدن لإبطال تجارة العبيد فجاء السودان السير صموئيل بكر للقيام بتلك المهمة، ثم أنيطت بغوردون باشا فأخذ بالكف عن الاسترقاق جملة. وهي صدمة قوية ارتجت لها أركان السودان؛ لأن منع النخاسة لم يقتصر على تقليل أرباح النخاسين، ولكنه عرضهم لاستبداد الجُباة؛ لأنهم كانوا يؤدون الجانب الأكبر من الضرائب عبيدًا أو ماشية، فأصبحوا بعد إبطال النخاسة لا يقومون على تأديتها، فاستبد بهم الجباة، وساموهم الذل والعسف حتى خيف عصيانهم، ولكن غوردون باشا لحسن سياسته ولين جانبه لم يحدث في أيامه اضطراب، فلما غادر السودان تولاه رجل لم يكن عالمًا بمحل الضعف ليتلافى خطره، فكأن غوردون أوقد نارًا في بعض جهات البيت فجاء غيره لا يدري كيف يطفئ تلك النار فتعاظمت والتهمت المدينة برمَّتها، فلما قام المهدي يدعو الناس إلى رفع المظالم آنس من أولئك التجار إصغاء، وكانوا له عونًا في إضرام تلك الثورة.
(٢) محمد أحمد المتمهدي السوداني
هو من قبيلة الداناقلة، وُلد في جزيرة اسمها (نبت) مقابل دنقلا (وقال آخرون في حنك) سنة ١٨٤٨ ويقال إن نسبه ينتهي إلى الشيخ القرفي صاحب كتاب الفروق، اشتهرت عائلته باصطناع سفن سودانية يضرب المثل بدقة صنعها ومتانتها، وكان اسم والده عبد الله، هاجر إلى شندي بأولاده كلهم، ومحمد أحمد لا يزال طفلًا، فقضى محمد أحمد حداثته في صناعة السفن ولم يكن ميالًا إليها، على أنه كان يختلف في أثناء ذلك إلى المدرسة، فحفظ القرآن وهو في الثانية عشرة، ويقال إنهم عهدوا بتربيته وتدريبه في إتقان صناعة السفن إلى عمه شريف الدين في جزيرة شبكة بالقرب من سنار، فاتفق أن عمه هذا ضربه مرة ففر إلى الخرطوم وانتظم في سلك طلبة طريقة الفقراء، وهي من الطرق الشهيرة في السودان بمدرسة خوجلي بالقرب من الخرطوم، وخوجلي هذا مقام شهير هناك يؤمه أهل الخرطوم وضواحيها يتبركون به، فقضى في هذه المدرسة بضع سنين ثم انتقل إلى بربر فدخل مدرستها، ثم انتقل منها إلى قرية أرداب وتناول العلم فيها على الشيخ نور الدايم، وعنه تناول سر طريقة الفقراء سنة ١٨٧١، ويقول الإمام السيد الميرغني: إنه أخذها عن القرشي هذا؛ كان عنده فرس لا تلد، فقال: إن فرسي هذه ستلد ويركب نتاجها المهدي فأخذها محمد أحمد فولدت عنده.
وكان قوي الذاكرة فحفظ القرآن وشيئًا من الحديث، وجاء جزيرة آبا جنوبي الخرطوم وأقام فيها، وكان حسن الأسلوب لين العريكة، فطنًا حاد الذهن، فصيحًا قوي الحجة، إذا خطب أثَّر في السامعين، فمال الناس إليه وأحبوه، فكان يذكر ويعظ ويصلي ويظهر التقوى والزهد والاعتزال عن العالم، والناس يتقاطرون إليه أفواجًا، وأكثرهم من قبيلة البقارة المشهورين بالقوة والشدة، فكانوا يلتفون حوله حلقات يذكرون ويُنشدون.
وقد قال سلاطين باشا في حداثة هذا المهدي ما يخالف هذا القول؛ من ذلك قوله: إنه وُلد في جزيرة أرقو قرب دنقلة، وأنه سار إلى بربر وانتظم في حلقة محمد الخير ثم ذهب إلى الخرطوم وانتظم في حلقة الشيخ محمد الشريف من شيوخ الطريقة السمانية، ثم انتقل إلى جزيرة آبا، واتفق أن بعض التلامذة احتفل بختان أولاده فاجتمع في الحفلة جماعة كبيرة غنوا ورقصوا، فنهاهم محمد أحمد عن ذلك لأن الشريعة لا تجيزه، وأن شيخ الطريقة نفسه لا يقدر أن يجيزه، فبلغ الشيخ محمد الشريف ذلك فغضب واستحضر محمدًا فجاء ذليلًا والتمس العفو فلم يعفُ عنه، بل وبخه ومحا اسمه من سجل الطريقة، فخرج محمد أحمد مطرودًا ثم عاد وقد ذر الرماد على رأسه، وجعل في عنقه الشعبة وهي عود ذو شعبتين توضع في العنق علامة التذلل والاستعطاف، فانتهره محمد الشريف وطرده وأهانه، فلم يعد محمد يستطيع الكظم فالتجأ إلى شيخ آخر من الطريقة المذكورة اسمه الشيخ القرشي، وكان بينه وبين الشيخ الشريف منافسة فخاف هذا عاقبة الأمر فاستقدم محمد أحمد واستدناه فأبى، وكان الإباء رنة في آذان أهل السودان، وعظم محمد أحمد في عيني الناس وانتقل إلى جزيرة آبا، وبعد قليل مات الشيخ القرشي فبنى محمد على قبره قبة، وبالغوا في إكرامه نكاية بالشيخ الشريف، وازداد الرجل شهرة بالتقوى والكرامة في معظم أنحاء السودان، وهو إلى ذلك الحين لم يدَّع المهدوية.
وكان استبداد جباة الأموال ضاربًا أطنابه وحال السودان كما تقدم من القلاقل والاضطراب، فكان محمد أحمد إذا ذكر الضيق الذي أصابهم من ظلم الجباة نسب ذلك إلى خطية بني الإنسان وأن العالم قد فسد والناس قد ضلوا عن سواء السبيل فنالهم ما نالهم من غضب الله، وأن الله سيبعث رجلًا يصلح ما فسد ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا هو المهدي المنتظر، وقد كان ذلك حديث الناس في سائر أنحاء السودان فحينما اجتمعوا تحدثوا فيما يقاسونه من الضنك وما ينتظرونه من الفرج على يد ذلك المنتظر حتى أصبح لفظ «المهدي» يدوي في سائر مجتمعاتهم ومنازلهم، في الأكواخ، والأسواق، والمساجد، والزوايا، على الطرق وفي العطمور، وحيثما وجد اثنان أو ثلاثة فلا حديث لهم إلا الفرج المنتظر على يد المهدي.
فلما رأى محمد أحمد ذلك وآنس من الناس ارتياحًا إلى أقواله وإصغاء إلى مواعظه خطر له أن يكون هو صاحب ذلك الأمر، على أنه لم ينطق به حتى سألوه: أَلَعَلَّكَ المهدي المنتظر؟ فقال: «أجل، أنا هو» فأخذ يبث تعاليمه والناس يقدمون إليه ويسلمون له، فانتشر خبره رويدًا رويدًا من جزيرة آبا على ضفاف النيل حتى وصل الخرطوم وما والاها، فآمن بدعوته قبائل البقارة ورئيسها علي ولد حلو، ولم يكن إيمان البقارة به لمجرد اعتقادهم بمهديته، ولكن أكثرهم من النخاسين الذين نقموا على الحكومة لمنع الرقيق. ومكَّن هو علاقته معهم بعد ذلك بالتزوج ببنات كثيرين من كبارهم.
وكان في جملة الذين يجتمعون عليه عبد الله التعايشي من قبيلة التعايشة، وكان يشتغل بالتنجيم وكتابة الأحجبة، وله شأن كبير في قبيلته، فقال له محمد أحمد: أنت وزير المهدي، فقال عبد الله: إني في انتظار مجيئه، فإذا كنت إياه اظهر وأنا ناصرك. فقال: نعم أنا هو، فآمن به فاستوزره، فكان هو وقبيلته أنصارًا له، واتفق ظهور نجم ذي ذنب سنة ظهوره، فاعتقد أهل السودان أن ذلك النجم إنما هو راية المهدي تحملها الملائكة.
ووصل خبر هذه الدعوة إلى الخرطوم سنة ١٨٨١ وحكمدارها رءوف باشا فأنفذ إليه رجلًا من خاصته اسمه أبو السعود ليستقدمه إلى الخرطوم، فسار في أربعة من العلماء على باخرة حتى أتوا جزيرة آبا، فلما نزلوا على الشاطئ نادوا بأعلى أصواتهم: أين المهدي؟ فجاء محمد أحمد ويداه مخبأتان في ثوبه وجلس على عنقريب (مقعد سوداني) بجانب أبي السعود، فقال له أبو السعود: «ما هذا الذي قمت به؟» فأجابه محمد أحمد بلطف ودعة: «أنا هو المهدي.» فقال أبو السعود: «ولكن يجب أن تذهب.» فنهض محمد مغضبًا ويده على قبضة حسامه، وصاح به: «لا، لا أذهب.» فخاف أبو السعود وترك الرجل للحال، وأخذ علماءه وعاد بباخرته إلى الخرطوم فوصلها ليلًا، فأيقظ رءوف باشا من فراشه، وأنبأه بما كان، وقال له: أعطني خمسين رجلًا وأنا آتيك بهذا المنافق، فأذن له فسار بهم حتى أتوا الجزيرة فنزلوا إليها، وبقي أبو السعود في الباخرة، وهم يفكرون في كيفية الهجوم على المتمهدي، هجم رجاله عليهم بغتة، وقتلوهم عن آخرهم، فاشتد أزر المهدي وتمكن اعتقاد أتباعه بدعوته.
على أنه أدرك خطر مقامه بالقرب من مركز الحكومة فرأى أن يوغل في السودان ريثما تتكاثر أحزابه فولى مكانه رجلًا اسمه أحمد المكاشف، وغادر آبا قاصدًا جبل كردوفان، وسمى انتقاله هذا «الهجرة».
وكان في كاوا على النيل الأبيض على مسافة خمسين ميلًا من آبا شمالًا قوة عسكرية مصرية مؤلفة من ١٤٠٠ رجل تحت قيادة محمد سعيد باشا، فاقتصت آثار محمد أحمد فأوغل هو في جنوبي كردوفان، فتعقبته شهرًا حتى هلكت ولم تدرك منه وطرًا، ثم انتقل محمد أحمد إلى جبل قدير فحارب رشيد بك حكمدار فشودة وتغلب عليه في ٩ ديسمبر سنة ١٨٨١ وكتب إلى القبائل يدعوهم إلى الاعتقاد بدعوته والأخذ بناصره.
فلما علم رءوف باشا بفشل سعيد باشا ورشيد بك هاله أمر المتمهدي وأخذ يجمع الجند من دنقلة وبربر ودار الشايقية، والثورة آخذة في الانتشار، فانضم إلى المهدي عرب الشلك وأصبحت قبائل الكبابيش في شمالي كردوفان، والرفاعة في سنار، والبشارين بين سواكن وبربر تتردد بين الطاعة والعصيان.
وفي مارس سنة ١٨٨٢ أُقيل رءوف باشا فقام مقامه جيكلر باشا فأنفذ يوسف باشا الشلالي لمحاربة المتمهدي، فجنحت به السفينة عند كلوا فتركه رجاله وفروا، فلما علم المكاشف بذلك تشدد وخرج برجاله على سنار ومديرها حسين بك شكري فدخلها، وقتل بعض حاميتها وتجارها فحاصر المدير ورجاله في المديرية، فبلغ ذلك جيكلر باشا فأنفذ لإنقاذهم صالح بك في خمسمائة جندي، فجاءوا المدينة ودخلوها ورفعوا الحصار عن المديرية فتقهقر الدراويش إلى كركوج وراء سنار، فخرجت عليهم الجنود المصرية من أبي حراز ومعهم ٥٠٠ مقاتل من عرب الشكرية بقيادة أميرهم عوض الكريم باشا أبي سن، فلقيهم العصاة في المسلمية وأرجعوهم على أعقابهم بعد أن قتلوا منهم جمعًا كبيرًا، فخرج جيكلر باشا على العصاة بنفسه فغلبهم في أبي حراز وفي موقعة بالقرب من سنار ثم عاد إلى الخرطوم، وكان قد وصلها عبد القادر باشا حكمدارًا بدلًا من رءوف باشا (في ١١مايو سنة ١٨٨٢).
وكان الشلالي باشا قد أعد حملة في كاوا للخروج على المهدي في جبل قدير فسار بحرًا في ستة آلاف مقاتل حتى أتى فشودة في مايو فسار برًّا وأقام مدة على جبل في منتصف المسافة بين فشودة وجبل قدير، ثم استأنف المسير في السهول والجبال حتى دنا من العدو في ٧ يونيو، وكانوا فئة ضعيفة جائعة، ولكن الشلالي استخف بمهمته ولم يحسن التحصين فهاجموه بغتة وكسروه شر كسرة وأخذوا كل ما كان معه من المؤن والذخيرة ولم يُبقوا إلا على القليل من رجاله، وكان ذلك النصر أعظم ما ناله المتمهدي إلى ذلك الحين فاتخذ السودانيون نصرة هذا مع قلة رجاله دليلًا على صدق دعوته، وكان قد طاف كردوفان قبل أن صرح بدعوته واشتهر بين أهلها بالتقوى والكرامة والغيرة على الدين، فجاء نصره هذا مصداقًا لما في أذهانهم، فتقاطروا إليه بالمال والرجال من أقاصي كردوفان، وعظم أمره في عين الحكومة فأخذ عبد القادر باشا في تحصين الخرطوم، وفرض لمن يقتل الدراويش جنيهين عن كل درويش و١٨ جنيهًا عن كل أمير وبعث إلى الدراويش أن يثوبوا إلى الطاعة ووعدهم خيرًا، وأخذ من الجهة الثانية يجمع الجند فاستقدم فرقًا من حاميات القلابات وسنهيت وجيرا وجنَّد غيرهم فاجتمع لديه ١٢ ألف مقاتل، وأمد حامية الأبيض بألف.
وفي أثناء ذلك هجم المكاشف على شات وافتتحها، وقتل حاميتها وحاول فتح الدويم فلم يستطع، وكان المهدي لا يزال في جبل قدير لا يبدي حراكًا، أما قواده فكانوا يسيرون برجالهم يفتحون البلاد في جهات كردوفان، فحاربوا الحامية المصرية في أماكن مختلفة وهددوا بارا وكشجيل والبركة وغيرها، ثم سار المهدي برجاله إلى الأبيض عاصمة كردوفان، وفيها محمد سعيد باشا، فلما علم بقدوم العصاة جمع جنده من الجهات وحصن المدينة، وفي أوائل سبتمبر سنة ١٨٨٢ أصبح المتمهدي برجاله على مقربة من الأبيض فكتب إلى محمد سعيد باشا يدعوه إلى التسليم، فجمع الباشا رجال مجلسه وشاورهم في الأمر فأقروا على شنق الرسل، وأن لا يبعثوا جوابًا، ولكن أهل الأبيض كانوا على دعوة المهدي سرًّا، وهم الذين دعوه إلى فتحها وفي مقدمتهم إلياس باشا أعظم تجار كردوفان وحاكمها السابق، فانضموا إلى العصاة في تلك الليلة هم وبعض الحامية، وبقي محمد سعيد باشا في نحو عشرة آلاف من الجند الباشبوزوق، وأما جيش المتمهدي فكان جرارًا فيه ٦٠٠٠ تحمل البنادق التي غنموها من الجنود المصرية بالمواقع الماضية، وأما سائر قواته فتبلغ ستين ألفًا، ويقول سلاتين باشا في كتابه «النار والسيف في السودان»: إن حملة البنادق لم تأتِ معه الأبيض بل بقيت في قدير.
وفي ٨ سبتمبر هجم العصاة على الأبيض فارتدوا خاسرين، وقد غنم الجند المصري ٦٣ راية من جملتها راية المتمهدي نفسه واسمها «راية عزرائيل»، وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف، وفي جملتهم محمد أخو المهدي، ويوسف أخو عبد الله التعايشي، ولم يقتل من الحامية إلا ٣٠٠، فعظم ذلك على المتمهدي وأدرك خطر الهجوم على الأسوار الحصينة وعوَّل من ذلك الحين أن لا يهاجم سورًا، وإنما يفتح البلاد بالتضييق عليها بالحصار حتى يضنيها الجوع وتعمد إلى التسليم، ثم جاء العصاة مددٌ فاشتد أزرهم فشددوا الحصار على الأبيض وعلى بارا، وكان في بارا نور عنقرة أحد أمراء العرب وكان مواليًا للحكومة، ولكنه رأى مقامه حرجًا وتحقق الفشل، فكتب إلى المهدي سرًّا أنه إذا أرسل إليه أميرًا من أكابر أمرائه سلَّم له، فأرسل إليه ولد النجومي فخرج نور عنقرة مع محمد الخير وكان يلقب سر سواري؛ أي قائد الخيالة، وسلَّما لولد النجومي فقبلهما وانقضت سنة ١٨٨٢ والحصار شديد على الأبيض وبارا والعصاة يتكاثرون في سنار وغيرها.
وكان المهدي قد أرسل فرقًا من رجاله لنشر دعوته في دارفور وبحر الغزال فانتشرت الثورة هناك، ولكنهم لم يغتنموا سنة ١٨٨٢ إلا بعضًا من بلادها، وفي أوائل سنة ١٨٨٣ فتحوا دارا في ٥ يناير واضطرت الأبيض إلى التسليم من الجوع في ١٩ منه، فدخلت كردوفان في حوزة الدراويش، وغنموا منها شيئًا كثيرًا من المؤن والذخائر والأسلحة والأموال، وصار المتمهدي من ذلك الحين حاكمًا على كردوفان، وقبض على سعيد باشا ورجاله، وبعد أسرهم مدة اكتشف على تقرير بعثوا به سرًّا إلى الخرطوم وأمر بقتلهم.
وكان عبد القادر باشا قد سار بنفسه وجنده لقمع العصاة في جهات سنار، فوشى به بعضهم في مصر، فاستقدمته الحكومة إليها على حين غفلة وعينت مكانه علاء الدين باشا وكان قبلًا في مصوَّع، وعهدت بقيادة الجند الذي كان في سنار إلى حسين باشا، وأرسلت حملة جديدة لاسترجاع كردوفان، وعهدت بقيادتها إلى ضابط إنكليزي اسمه الكولونيل هيكس ثم سمي هيكس باشا.
وكان المهدي لما فتح الأبيض ودانت له كردوفان وآمن به معظم أهل السودان أخذ ينظم حكومته على غير نظام الحكومة.
وأهم أقسام الإدارة على أبسط وجوهها ثلاثة: الجند والمال والقضاء، فجعل على الجند خليفته عبد الله التعايشي قائدًا عامًّا لجماعة الدراويش يدير حركاتهم، وأنشأ إدارة سماها بيت المال وفيه تحفظ الأموال: كالعشور، والغنائم، والفطرة، والزكاة، والغرامات التي يضربونها على شارب المسكر أو السارق. وعهد بإدارة بيت المال إلى صديق له اسمه أحمد ولد سليمان. أما القضاء فأقام عليه رجلًا اسمه أحمد ولد علي كان قاضيًا في دارفور وسماه قاضي الإسلام، وكان محمد أحمد منذ أوائل ظهوره قد عيَّن خلفاءه وجعلهم أربعة، مثل: الخلفاء الراشدين، يتولون الأمر بعده الواحد بعد الآخر، أولهم عبد الله التعايشي، والثاني علي ولد الحلو، والثالث محمد الشريف، والرابع محمد السنوسي، ولكن هذا رفض الخلافة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم
وبعد، فمِن عبد ربه محمد المهدي ابن السيد عبد الله، إعلامًا منه إلى كافة المشائخ في الدين والأمراء والنواب والمقاديم أتباع المذكورين. يا عباد الله، اسمعوا ما أقول لكم وكونوا على بصيرة، واحمدوا ربكم واشكروه على النعمة التي خصَّكم بها، وهو ظهورنا؛ فهو شرف لكم على سائر الأمم، ولكن المطلوب منكم يا أحبابنا المهاجَرة في سبيل الله والمجاهَدة في سبيل الله، والزهد في الدنيا، وكل ما فيها؛ فإلى البوار، ولو كانت لها بال لكان ربكم يحليها، وانظروا في أهلها الذين كانت في كل ما يطلبوه وصارت لهم بعد ما كانت عسلًا حنظلًا وسُمًّا، وصاروا في غاية العذاب والهلاك بعده وشدة التعب والمشقة، ولو كان فيها خير لما صاروا هكذا، وبعد ذلك فلهم العذاب الشديد، فإن عجبكم هذا فافعلوا، وإلا فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وجاهدوا في سبيل الله؛ فلَهَزَّةُ سيف مسلم في سبيل الله أفضل من عبادة سبعين سنة، ووقفة في الجهاد قدر فواق ناقة؛ يعني حلبة ناقة، أفضل من عبادة سبعين سنة. وعلى النساء الجهاد في سبيل الله، فمن صارت قاعدة وانقطع منها أرب الرجال فلتجاهد بيديها ورجليها، والشبابة فليجاهدن نفوسهن ويسكنَّ بيوتهن، ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، ولا يخرجن إلا لحاجة شرعية، ولا يتكلمن كلامًا جهرًا، ولا يُسمعن الرجال أصواتهن إلا من وراء حجاب، ويُقمن الصلاة ويُطعن أزواجهن ويستترن بثيابهن، فمن قعدت كاشفة فاتحة رأسها ولو لحظة عين فتؤدَّب وتُضرب سبعة وعشرين سوطًا، ومن تكلمت بفاحشة فعليها ثمانون سوطًا، ومن قال لأخيه: يا كلب أو يا خنزير أو يا يهودي أو يا … أو يا … فيُضرب ثمانين سوطًا ويُحبس سبعة أيام، ومن قال: يا فاجر أو يا سارق أو يا زاني أو يا خائن أو يا ملعون فعليه ثمانون سوطًا، أو يا كافر أو يا نصراني أو يا لوطي فعليه ثمانون سوطًا ويُحبس سبعة أيام، ومن تكلم مع أجنبية وليس بعاقد عليها ولا لأمر شرعي يُجَوِّزُ ذلك الكلام فيُضرب سبعة وعشرين سوطًا، ومن حلف بطلاق أو حرام يؤدَّب سبعة وعشرين سوطًا، ومن شرب الدخان يؤدَّب ثمانين ويُحرق التنباك إن كان عنده، وكذلك من خزنها في فمه ومن عملها بأنفه ومن أبقاها في فيه يؤدَّب مثل ذلك، ومن باعها واشتراها ولم يستعملها يؤدَّب سبعة وعشرين سوطًا، ومن شرب الخمرة ولو مصة إبرة فيؤدب ثمانين سوطًا ويُحبس سبعة أيام، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد، وإن لم يكلمه فيُضرب ثمانين سوطًا ويُحبس سبعة أيام، ومن ساعد شارب الخمر بشربة ماء أو إناء فيؤدَّب كذلك ويُحبس، ويجاهد نفسه في طاعة الله حقيقة أشد من الجهاد بالأرماح؛ لأن النفس أشد من الكافر مقاتلةً؛ فالكافر تقاتله وتقتله وتكون لك الراحة منه، وهي عدوة في صورة حبيب، فقتلها صعب ومسلكها تعب، ومن ترك الصلاة عمدًا فهو عاصي الله ورسوله، قيل: كافر، وقيل: يُقتل، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد، فإن لم يكلمه فيُضرب ثمانين سوطًا، ويُحبس سبعة أيام، وقيل: أموالهم غنيمة. وبنت خمس إن لم يسترها أهلها فيُضربون من غير حبس، ومن علم بأمة معها زوج بغير عقد وصبر يومًا، قيل: يُقتل، وقيل: يُحبس وماله غنيمة. واعلموا أيها الأحباب أن خلافتكم وإمارتكم ونيابتكم عنا في الأحكام والقضايا لأجل أن تشفقوا على الخلق، وتزهِّدوهم في الدنيا ليتركوها، وترغِّبوهم في الآخرة ليرغبوها ويطلبوها، وتعلِّموهم عداوة نفوسهم ليحذروا منها وتنصفوا من أنفسكم إذا ادعوا عليكم فيها، فما أشكل فأمروهم فيه بالصبر لغاية طلب الأمراء وجمعهم عندنا، ويصير تخييره بحسب الحكم فيه من الله ورسوله، واعلموا يقينًا أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وكونوا عباد الله مع الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واعلموا أيها الأحباب أن القضايا التي كانت من اثني عشر رجب الماضي عام ١٣٠٠ بقمة ماسة قد صار رفعها مطلقًا ما عدا الأمانة والدين ومال اليتيم، وأما التي بعد الاثني عشر رجب الماضي وقبل الفتوح تُسمع فيه الدعاوي، وأما قتل النفس ففيه تفصيل في كونه مخير ولي المقتول في أخذ الدية أو القصاص، وأما بعد الفتوح بالنسبة إلى العهد فيتعيَّن فيه القصاص لا غير، فاعملوا بذلك طبق المنشور وكذلك مال الخلع أخذه عمومًا من الأزواج بعد الدخول بهن والاستمتاع بهن فلا يصح أخذه منهن، فاحكموا فيه بالحكم الذي فصله الله تعالى في القرآن العظيم، واعلموا يا أحبابي ولا تخالفوا، وامتثلوا الأمر وكونوا سامعين طائعين لأمري، ولا تعيروا ولا تكفروا النعمة التي منَّ الإله عليكم بها فقيِّدوها بالشكر، وتزوج الغنية بعشرة ريال مجيدي أو أنقص، والعزبة بخمسة ريال مجيدي أو أنقص، ومن خالف هذا فعليه الأدب بالضرب والحبس في السجن حتى يتوب أو يموت في سجنه، ومقطوع من أهل زمرتنا، ونحن بريئون منه وهو بريء منا والسلام.
وكان مع ذلك لا يغفل طرفة عين عن بث العيون والأرصاد لاستطلاع حركات الحكومة ومعرفة أغراضها، فكان يعرف كل ذلك في حينه معرفة تامة، فلا تحدث حادثة أو تنوي الحكومة نية أو تخطو الجنود المصرية خطوة إلا ويعلم بها هو، وأرسل في أثناء ذلك قواده تبث دعوته في أنحاء السودان، فبعث عثمان دقنة إلى السودان الشرقي يتولى قيادة العصاة هناك، وأرفقه بالمنشورات إلى قبائل السودان الشرقي لتكون عضدًا له، وكان عثمان دقنة هذا من تجار الرقيق في سواكن، وكان ناقمًا على الحكومة.
(٢-١) حملة هيكس باشا
هذه هي الحملة التي زادت الويلات على مصر، وكان من أمر فشلها وهلاكها ما هو أشهر من نار على علم، فيجدر بنا بسط واقعتها وسبب هلاكها، وكيفيته؛ لأن الناس ما زالوا حتى الآن يعجبون لهلاك تلك الحملة وذهابها أدراج الرياح وعدد رجالها أحد عشر ألفًا أو تزيد معظمهم من الجنود المنظمة.
جاء هيكس باشا في بادئ الرأي إلى الخرطوم، والحكومة لم تصمم على فتح الأبيض، فأقام هناك مدة، فبلغه أن بضعة آلاف من العصاة البقارة بقيادة الأمير أحمد المكاشف وكيل المهدي هناك فخرج إليهم هيكس وحاربهم عند مرابية بالقرب من جزيرة آبا، فقتل المكاشف وعدد من قواده ورجاله، وفر الباقون وكان لتلك الواقعة تأثير حسن في إرجاع ثقة أهالي سنار والخرطوم إلى الحكومة وقوة جنودها.
فصممت الحكومة على إرسال حملة تفتح الأبيض، فكتب هيكس باشا إلى الحكومة بالقاهرة أنه لا يتحمل تبعة هذه الحملة إلا إذا كانت القيادة إليه وحده، فسلمت له بذلك، ولكنها أرسلت معه علاء الدين باشا حكمدار الخرطوم، فطلب هيكس مددًا من الرجال والمال وسار علاء الدين باشا إلى شرقي النيل الأزرق فاستحضر أربعة آلاف جمل، وفي أواخر أوغسطس تمت كل معدات الحملة من أم درمان.
وفي ٨ سبتمبر استعرض هيكس باشا جنوده، وفي ٩ منه خرجت الحملة من أم درمان قاصدة الدويم وبينهما مائة وعشرة أميال، وكانت تلك الحملة مؤلفة من أربع أرط من الجنود المصرية معظمهم من الذين حاربوا في سبيل الثورة العرابية، وخمس أرط سودانية، وأرطة من الطبجية والخيالة، وكانت الجنود المصرية تحت قيادة سليم بك عوني، والسيد بك عبد القادر، وإبراهيم باشا حيدر، ورجب بك صديق، والباشبوزق بقيادة خير الدين بك، وعبد العزيز بك، ووالي بك، وملحم بك، ويحيى بك، والطوبجية والسواري بقيادة عباس بك وهبي، وبلغ عدد جنود الحملة أحد عشر ألفًا؛ منهم سبعة آلاف من المشاة المصريين، والباقون من الباشبوزوق والخيالة وتوابع الحملة من الجمالة وغيرهم، وفيها ٥٥٠٠ جمل، و٥٠٠ فرس، وأربعة مدافع كروب، وعشرة مدافع جبلية، وستة من نوع النوردنفلت، وكان فيها من الضباط الإفرنج الكولونيل فركوهار رئيس أركان حرب، والبكباشية سكندروف ووورتر، وماسي، وإيفانس، وغيرهم، ومكاتيو النمس والدالي نيوز، والغرافيك.
وفي ٢٠ سبتمبر وصلت الحملة إلى الدويم، وهناك اجتمعت بعلاء الدين باشا، أما هيكس فكان لا يزال في الخرطوم وقد أرسل تلغرافًا إلى القاهرة أنبأ الحكومة بخروج الحملة من الخرطوم، وبين الصعوبة التي ينتظر ملاقاتها في طريقه نظرًا لحرارة الإقليم وقلة المياه، وكان في عزمه أن يجعل مسير الحملة من الدويم إلى الأبيض عن طريق باره، وطول هذه الطريق ١٢٦ ميلًا يقيم في أثنائها محطات فيها قوات عسكرية لحفظ خط الرجوع (خط الاتصال) إلى الدويم، فيفتح أولًا بارة يقيم فيها مدة ثم يخرج على الأبيض.
فلما جاء الدويم وانضم إلى الحملة تفاوض هو وعلاء الدين باشا في الأمر، فقال علاء الدين: إنه أرسل أناسًا جسُّوا الأرض، فقالوا: إن طريق بارة قليلة المياه، وإن أحسن طريق للأبيض بمثل هذا الجند الكبير طريق خور أبو جبل والرهد إلى الجنوب، فإن الماء كثير فيها، نعم إن طولها ٢٥٠ ميلًا ولكن مائة منها سهلة، يسير بها الجند بكل راحة والماء كثير، إلا أن المسافة بين الدويم ونورابي — وطولها ٩٠ ميلًا — قليلة المياه فأقنعه علاء الدين باشا أن الماء في تلك المسافة يسهل الحصول عليه، وبناءً على ذلك قرَّرا أن تسير الحملة عن طريق خور أبو جبل، فوصلوا في ٢٤ سبتمبر إلى شات واستولوا على آبارها، وأنشئوا نقطة عسكرية. وبدأ الجند منذ خروجهم من الدويم يقدرون العواقب الوخيمة وينتظرون البلاء العظيم، وكان سيرهم على شكل مربع يتأهب للقاء العدو، في مقدمته الدليلان فالطلائع فالضباط العظام وأركان الحرب، ثم المربع وهو مؤلف من المشاة المصريين وفي ساقته الخيالة، والجمال، والأحمال، والأثقال، وفي وسط المربع الطوبجية، وقد شبه سلاتين باشا ذلك المربع بغابة من الرءوس والأعناق، إذا أطلق العدو عليها رصاصة يستحيل أن تخطئها كلها.
وزد على ذلك أن الجمال لم تكن تستطيع المرعى بالنظر إلى انحصارها في المربع فجاعت، وأكلت قش أرحالها، وخارت قواها حتى مات كثير منها، وفي ٣٠ سبتمبر وصلت الحملة إلى قرية تبعد ٣٠ ميلًا عن الدويم اسمها زريقة.
كل ذلك والحرارة تشتد، واللغط يتعاظم بين الجند، وكلهم خائف من سوء العاقبة ثم حدث نفور بين هيكس وعلاء الدين سببه اختلافهما في الرأي بشأن خطة المسير، فرأى علاء الدين أن النقط العسكرية في خط الاتصال لا حاجة إليها؛ لأنها تقلل عدد الجند، فخالفه هيكس في ذلك؛ لأن قطع ذلك الخط يقطع كل أمل برجوع أحد من رجال الحملة حيًّا إذا قُدِّر انكسارها في ساحة الحرب على أنهم لم ينشئوا نقطة عسكرية بعد شات.
أما محمد أحمد فحالما علم بمسير حملة هيكس جمع رجاله ودعاهم إلى الجهاد في سبيل الله، وخرج بنفسه وعسكر بقرب شجرة كبيرة بضواحي الأبيض ينتظر وصول الحملة، فاقتدى به خلفاؤه وأمراؤه فخرج كل منهم برجاله وعسكروا هناك، وبنوا الأكواخ والنكول (نوع من العشش).
أما الحملة فما زالت سائرة تسحف سحفًا كأنها مثقلة بالقدر المحتوم حتى وصلت عقيلة (إيجلا) في ١١ أكتوبر، وفي ١٤ منه وصلت بحيرة شركلا فتناولت شيئًا من مائها وهي لم تزدد إلا يأسًا وخوفًا، وكانت الحكومة المصرية قد أنبأت هيكس باشا قبل خروجه من الدويم أن ستة آلاف من أهل جبل تاج الله، وبعض الجبانية سينضمون إليه، فكان ينتظر وصولهم بفارغ صبر، فذهب انتظاره عبثا، وقبل أن تصل الحملة بحيرة الرهد بقليل فرَّ منها رجل ألماني اسمه كلوتس من صف الضابطان والتجأ إلى العصاة، ولكنه لم يكن يعرف الطريق فلقيه بعض الدراويش فأرادوا قتله، فأشار إليهم أنه جاء بمهمة، فأرسلوه إلى الأبيض فوقف بين يدي المهدي وأخبره عن الضيق المحدق بالحملة وما هي فيه من اليأس، فكانت خيانته هذه مساعدًا كبيرًا على هلاك حملة هيكس، فَسُرَّ المهدي سرورًا لا مزيد عليه، وأسلم كلوتس هذا وسُمِّي مصطفى، وبعث المهدي إلى هيكس ورجاله ينصح لهم أن يسلموا إليه ويؤمنوا بمهدويته فلم ينل منهم جوابًا، فضلًا عن احتقارهم كتبه واستخدام أوراقها في سبل هاجت غضب المتمهدي.
ووصلت الحملة إلى الرهد في ٢٠ أكتوبر، فأقامت هناك ٦ أيام شاهدت في أثنائها طلائع الدراويش وشرذمات منهم يهاجمونها، وفي ٢٦ أكتوبر سارت ولم تكد تترك معسكرها حتى احتلته العصاة، فعلم علاء الدين خطأه في إهمال خط الاتصال وقد أصبحوا محاطين بالعدو من كل الجهات، وكان في عزمهم المسير إلى الأبيض عن طريق البركة، ولكن الجواسيس أخبروا هيكس أن العصاة نزلوا البركة ومعهم خلفاء المهدي وأمراؤه بعدتهم ورجالهم فتشاور علاء الدين وهيكس في هل يرجعون إلى الرهد أو يسيرون إلى كشجيل ومنها إلى ملييس فالأبيض؛ لأن خور أبو جبل يتشعب عند الرهد إلى شعبتين: تسير إحداهما إلى البركة، والأخرى إلى كشجيل، فأقر الرأي على المسير إلى كشجيل، فساروا في ٣ نوفمبر عشرة أميال بين الغابات والأحراج وقد أخطئوا الطريق، ثم وقفوا وأنشئوا زريبة باتوا فيها إلى الصباح، فاستأنفوا المسير حتى صاروا على مسافة ميلين من شيكان بين كشجيل والبركة، وقد أجهدهم العطش فهجم عليهم شرذمة من العصاة فتبادلوا إطلاق الرصاص وقبضوا على بعض منهم، فعلموا أن الدراويش هناك بكثرة عظيمة، فجمع هيكس باشا كبار رجاله وعقدوا مجلسًا تشاوروا فيه فلم يقروا على أمر، وكثر اللغط بين الجند وتسلط الرعب على قلوبهم وأيقنوا بالهلاك، وفي الصباح التالي عول هيكس على المسير تحت رحمة الله فجعل جيشه ثلاث مربعات وسار في طريق وعر كثير الأشجار والصخور، فحصل بينه وبين الدراويش موقعة قُتل فيها كثير من رجاله، ثم سار أيضًا فلم يُمضِ ميلًا حتى هاجموه ثانية في شيكان، وقد رأينا في منشور أرسله المتمهدي إلى عثمان دقنة يخبره بتلك الواقعة ويسمي مكان وقوعها علوية، وكانت تلك الهجمة القاضية لم تبقِ على تلك الحملة ولم تذر؛ لأن الدراويش هاجموها من كل جانب حتى صار الجنود المصريون يطلقون الرصاص بعضهم على بعض وهم لا يعلمون، فقُتل هيكس وكل قواده وجنده ولم ينجُ منهم إلا نحو ثلاثمائة رجل أكثرهم من الضعفاء الذين اختبئوا بين الشجر أو تحت جثث القتلى، وفي جملتهم رجل اسمه محمد نور البارودي كان في خدمة هيكس باشا، وهو الذي روى أكثر ما تقدم من مهلك هذه الحملة.
فرجع المهدي وخلفاؤه وقواده إلى البركة، وقد سكِروا من خمرة النصر، وتركوا بعض الأمراء يجمعون الأسلاب والغنائم إلى بيت المال، وبعد ١٥ يومًا عاد المهدي إلى الأبيض بالمدافع والذخيرة والأموال التي اكتسبوها من حملة هيكس، وكان دخوله الأبيض باحتفال شائق، ولا ريب أن تغلُّبه في موقعة شيكان جعل حكومة السودان تحت إخمصه؛ لأن كثيرًا من القبائل كانوا يترددون في أمره، وينتظرون حربه مع هيكس باشا، فلما علموا بما كان انضموا إليه وصاروا من أعوانه.
بسم الله الرحمن الرحيم، بايعنا الله ورسوله على توحيد الله، ولا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان، ولا نعصاك في معروف، بايعناك على ترك الدنيا والآخرة، ولا نفرَّ من الجهاد.
ويظهر أن فيه تحريفًا عن الأصل؛ إذ لا يُعقل أن يبايعوه على ترك الدنيا والآخرة معًا، وهم إنما يرغبون في دعوته طمعًا في الآخرة، فكيف يبايعونه على تركها. والظاهر أن الأصل «ترك الدنيا والتماس الآخرة»، وأقام سلاتين من ذلك الحين ملازمًا لعبد الله التعايشي يقف عند بابه في جملة الملازمين.
(٣) السودان الشرقي
وفيما كان هيكس يتجشم الأخطار في قطع الصحاري والقفار ينتظر القدر المقدور، وكان عثمان دقنة ينشر دعوة محمد أحمد في السودان الشرقي، وقد اجتمع حوله أحزاب كبيرة. وقد حدَّثنا صديق فاضل رافق تلك الحوادث في السودان الشرقي، وعرف خفاياها قال: إن توفيق بك محافظ سواكن إذ ذاك تصرف مع العربان الذين يتولون خفارة الطريق بين سواكن وكسلا تصرفًا أوجب نفورهم؛ وذلك أنه ولى عليهم شيخًا اسمه محمد الأمين ليكون مسئولًا عنهم لدى الحكومة على جاري العادة، وكانوا يكرهون هذا الرجل فالتمسوا من المحافظ أن يبدله بسواه فأبى إلا توليته، فغضبوا جميعًا ونفروا من الحكومة، وهم كثار، واتفق مجيء عثمان دقنة بمنشور المهدي فانضموا إليه جميعًا فاشتد أزره بهم، ثم انضم إليه غيرهم فسار لمناوأة الحكومة في سواكن وضواحيها فهاجموا سنكات في ٥ أوغسطس سنة ١٨٨٣ ولكنهم عادوا خاسرين، فساروا إلى طوكر وحاصروها، فأرسلت الحكومة محمود طاما باشا قائد حامية السودان الشرقي لإنقاذها، فباغته الدراويش بكل وسيلة، وحصلت مواقع كثيرة في تمانيب وترنكتات وغيرهما فلم تعد منهم بطائل، وما زالت سنكات وطوكر محاصرتين تطلبان المدد، فأعدت الحكومة في أوائل سنة ١٨٨٤ حملة تحت قيادة باكر باشا، سارت إلى سواكن لفتح الطريق بين سواكن وبربر وطرد العصاة من البلاد الواقعة بينهما، فسارت ومعها نجدة من مصوَّع وكسلا فلاقاها العصاة في التب بغتة في ٢ فبراير فحاربوها، ففشلت وعادت بخفَّي حُنين. كل ذلك وحامية سنكات لا تزال محاصرة وفيها توفيق بك محافظ سواكن المتقدم ذكره، وكان رجلًا باسلًا شهمًا، أظهر في حصاره شجاعة لم تُعهد إلا بالقليل من الناس، وقد جاء سنكات عرَضًا وانحصر فيها، وسنكات قرية صغيرة لا تزيد حاميتها على ستين رجلًا، وقد ضيق عثمان دقنة السبل عليها وقطع المؤن عنها حتى كاد أهلها يهلكون جوعًا، فكتب عثمان إلى توفيق أن يسلم فلا يقتله، فأبى إلا البقاء على ولاء الحكومة، فلما جاء باكر باشا وعاد خائبًا، بعث عثمان إليه أن يُسلم فيَسلم، وأن الأمل بإنقاذه قد انقطع، فلم يُجبه إلا بالثبات، ولما رأى توفيق بك أخيرًا أن المؤن فُقدت، والجند جاعت، وأهل البلد ملَّت، جمع إليه رجاله وأهل سنكات وشاورهم في الأمر، وحثهم على الثبات على ولاء الحكومة، فقالوا: نحن على ما تريد، فقال: إذ قد نفد زادنا والطريق مقطوع بيننا وبين المدد فلنخرج مستقتلين، فإما أن نسير إلى سواكن، وإما أن يلاقينا العصاة فندافع عن أنفسنا حتى الموت.
فخرجوا في أوائل فبراير سنة ١٨٨٤ بعد أن هدموا الطوابي وأخربوا المنازل، وما ساروا ميلين حتى لا قاهم عثمان دقنة برجاله وهاجموهم، فقاتل توفيق بك حتى قُتل شهيد الأمانة والبسالة ولم ينجُ من رجاله وأهل قريته إلا نفر قليلون.
وكان ذلك من جملة العوامل لتأييد دعوى المتمهدي ونشر سطوته وخوف الحكومة عاقبة أمره، وبدلًا من مواصلة العمل في كبح جماح العصاة واسترجاع ما ملكوه من بلادها أقرت بمشورة الحكومة الإنكليزية على إخلاء ما بقي من السودان في قبضتها وسحب جنودها منها والتخلي عن السودان المصري كله للدراويش، وأصدرت بذلك أمرًا بتاريخ ٨ يناير سنة ١٨٨٤ وأنفذت الحكومة الإنكليزية الجنرال غوردون باشا إلى السودان للنظر في أفضل الوسائل لسحب حامية السودان وسكانها من الإفرنج وغيرهم وتثبيت حكومة منتظمة على سواحل البحر الأحمر وغير ذلك، فسار غوردون باشا ومعه الكولونيل ستيوارت كاتم أسراره، فوصل القاهرة فأنبأه السير إفلن بارنغ (اليوم اللورد كرومر) أن الحكومة الإنكليزية قد فوضت إليه إخلاء السودان وإعادة حكم الأمراء الذين كانوا يحكمونها لما فتحها محمد علي باشا، ويقال لهم الملوك، أو أن يولي غيرهم كما يتراءى له.
فسار غوردون عن طريق كروسكو وأبي حمد، فوصل بربر في ٩ فبراير سنة ١٨٨٤، وفي ١٨ منه وصل الخرطوم فتلقاه أهلها بالإكرام، وكان السودانيون يحبونه ويكرمونه للين جانبه وكرم أخلاقه، ومن الغريب أن يسير غوردون بنفسه بلا جيش إلى بلاد اشتعلت بنار الثورة، ولكنه كان كثير الاتكال على الله، وقد صرح بذلك عند وصوله الخرطوم، فقال: «لم آتِ لإنقاذ السودان بجيش، ولكني اتكلت على الله، فلا أحارب إلا بسلاح العدل.»
(٤) سقوط الخرطوم ومقتل غوردون
- (١)
أن يَسحب الموظفين المصريين وعائلاتهم وأموالهم من سائر أنحاء السودان إلى مصر.
- (٢)
أن يقيم مقامهم موظفين من أهل السودان يدبر شئونهم بحكمته كأنه يؤسس دولة جديدة.
- (٣)
أن يجمع كلمة القبائل المجاورة للخرطوم ويحركها على قبائل الهدندوة في السودان الشرقي فيفتح الطريقين بين بربر وسواكن وبربر وكسلا.
- (٤)
أن ينقذ سنار وسائر البلاد الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض (الجزيرة).
- (٥)
أن يرسل خمس بواخر لنقل عائلات الجنود المصرية في مديريات خط الاستواء وبحر الغزال.
- (٦)
أن يدبر طريقة لمن بقي في دارفور أن ينسحبوا إلى مصر عن طريق دنقلا.
هذه كانت مقاصده عند خروجه من مصر، وخلاصتها إخلاء السودان، فلما وصل بربر أراد أن يتلوها على أهلها فمنعه حسين باشا خليفة مدير بربر؛ لأن التصريح بذلك يعجل على بقية نفوذ الحكومة، فأطاعه ولكنه تلاها في المتمة فكانت داعية إلى سرعة سقوط بربر بعد ذلك. وأما غوردون فوصل الخرطوم في ١٨ فبراير كما تقدم، وفي يوم وصوله جمع أعيان الخرطوم كافة في بناية المديرية وأفهمهم مهمته، ثم خرج إلى سراي الحكمدارية فلاقاه مئات من الناس، وتراموا على يديه ورجليه يقبلونها وهم يقولون: «يا سلطاننا، يا والدنا، يا مخلص كردوفان» ثم أخذ غوردون وستيوارت في تدبير شئون الأحكام فأنشئوا أقلامًا مختلفة في الحكمدارية للنظر في قضايا الناس وإنصافهم على اختلاف طبقاتهم. فأخرج دفاتر الحكومة القديمة وفيها قيود لذممات مطلوبة من أصحاب الأطيان خراجًا عن أطيانهم، فوضع تلك الدفاتر في باحة عمومية وأوقد فيها النار، ولما اتقدت النيران وتعالى لهيبها استخرج الكرابيج والعصي وسائر أدوات الضرب والصفع التي كان يستخدمها الحكمداريون قبلًا، وألقاها في ذلك اللهيب وأهل الخرطوم ينظرون، فكان لذلك تأثير حسن في أذهانهم، ثم أنشأ مجلسًا وطنيًّا مؤلفًا من أعيان المدينة، وبعد قليل زار الترسانة والمستشفى، وأخيرًا ذهب لتعهد السجن ومعه ستيوارت وكونلجن والمستر بوار قنصل إنكلترا هناك، فرأى فيه حوادث تتفتت لها الأكباد، فضلًا عن القذارة، وشاهد بين المسجونين أولادًا وشيوخًا بعضهم قد ثبتت براءتهم ولا يزالون في السجن، وآخرون سُجنوا لتهمة فقضوا ثلاث سنين في السجن قبل أن تثبت عليهم جناية، ورأى هناك امرأة قضت خمس عشرة سنة مسجونة لذنب اقترفته في صباها، فأمر غوردون بإخراج المسجونين كافة، وتنظيف السجن، فلم يأتِ المساء حتى خرجوا زرافات ووحدانا وهم يطلبون إلى الله تعالى أن يطيل عمره، وقضى أهل الخرطوم تلك الليلة سهارى، فأضاءوا الأنوار الملونة، وأوقدوا المشاعل، وباتوا فرحين مسرورين.
منشور إلى أهل السودان كافة
اعلموا أن راحتكم هي غاية ما نرجوه، وبما أني أعلم أن إبطال تجارة الرقيق قد ساءكم، وهالكم ما وضعته الحكومة من القصاص على من يتعاطاها، وغير ذلك مما صدر من الأوامر العالية بشأن تأكيد إلغائها، فقد رأيت التماسًا لراحتكم أن أُبطل كل تلك الأوامر وأمنحكم الحرية التامة، فلا يعترضكم أحد في اتخاذ الرقيق لخدمتكم، والسلام لكم.
ففرح تجار الرقيق لهذا المنشور، ولكنهم استدلوا منه على ضعف الحكومة، وأنها إنما أصدرته بالرغم منها؛ لأنها لم تقوَ على تنفيذ أوامرها في إبطال تلك التجارة، ثم حوَّل نظره إلى أمر المهدي فأرسل إليه في الأبيض كتابًا يطلب فيه إطلاق الأسرى ويوليه كردوفان، وأرفق الكتاب بخلعة نفيسة، فرد محمد أحمد الخلعة وبعث إلى غوردون أن يُسلم فيَسلم، وأن المهدي لم يقم دعوته طمعًا في الولاية.
وكان غوردون باشا في أثناء مسيره إلى الخرطوم قد تدبَّر أمر مهمته هذه، فرأى أن ترك السودان وشأنها بعد إخلائها تعود على مصر بالوبال، فلا تلبث الثورة أن تنتشر ويزحف الدراويش إلى حدود مصر، فبعث يوم وصوله الخرطوم رسالة برقية إلى الحكومة الإنكليزية يطلب فيها أن تبعث إليه الزبير رحمت باشا حالًا، وكان الزبير باشا من أكابر تجار الرقيق في دارفور وبحر الغزال، وعاضد الحكومة وفتح لها دارفور، ثم جاء مصر قبل الحوادث السودانية ليشكرها على رتبة أنعمت بها عليه فلم تأذن له بالعودة إلى بلاده، فظن غوردون باشا أنه إذا أخلى السودان ودبر حكومته جعل الزبير باشا خلفًا له عليه؛ خوفًا من استفحال أمر المهدي وخروجه على مصر، فأبت الحكومة إرسال الزبير، فشق ذلك عليه كثيرًا.
ثم ما لبث أن علم بانتشار دعوة المهدي وانضمام معظم القبائل إليه فأصدر منشورًا يتوعد الثائرين بعذاب أليم، وينصح لهم أن يثوبوا إلى طاعة الحكومة وبعث إلى مصر يقول: «إذا شئتم أن تتخلص مصر من عذاب دائم أرسلوا جندًا لمقاتلة المهدي وسحق قواته، وهو أمر ميسور لكم الآن، أما إذا دخلت الخرطوم في حوزته فيصعب عليكم قهره، على أنكم ستضطرون إلى ذلك إن عاجلًا وإن آجلًا التماسًا لسكينة القطر المصري، وسيكون ذلك شاقًّا كثيرًا بعد الآن.»
وكان الكولونيل ستيوارت قد سار في مائة رجل بالأعلام البيضاء لمسالمة القبائل القاطنة على النيل الأبيض وتلاوة منشورات غوردون عليهم، فكان كلما بعد عن الخرطوم ازداد نفور الناس عنه حتى صاروا يعترضون مسيره ويحاربونه وأكثرهم من قبيلة البقارة، فعاد إلى الخرطوم فأرسله غوردون ثانية في ٢ مارس سنة ٨٤ بمنشورات أخرى فعاد بخفَّي حُنين، وما زالت الثورة تقترب من الخرطوم وضواحيها حتى أحدقت بها من كل الجهات، وفي أثناء ذلك جاءت حملة من الدراويش لحصار الخرطوم فجاء جمع منهم إلى حلفاية شمالي المدينة فانهزمت حاميتها، فجرد غوردون في ١٦ مارس عليهم ألفي مقاتل بالبنادق وفيهم الباشبوزوق والجند المنظم لاسترجاع حلفاية، فماطلهم الدراويش حتى غدروهم وكسروهم شر كسرة، فعادوا القهقرى إلى الخرطوم وقد قُتل منهم جمع كبير، ففشل غوردون لهذه الكسرة وحاكم قواد تلك التجريدة وأكبرهم سعيد باشا وحسن باشا، وكلاهما من أهل السودان، فحكم عليهم بالإعدام لثبوت الخيانة عليهما، فقُتلا وقُطعت أعضاؤهما.
وفي ٢٥ يونيو سنة ١٨٨٤ وصلت الأخبار بسقوط بربر والقبض على مديرها وإرساله أسيرًا إلى الأبيض وتولى بربر أمير من أمراء الدراويش اسمه محمد الخير، وكان سقوط بربر ضربة قوية على الخرطوم؛ لأنها كانت واسطة الاتصال بينها وبين مصر، فأدرك غوردون صعوبة مركزه وتحقق يقينًا أن إنفاذ مهمته لم يعد ممكنًا بالحسنى فلا بد من استعمال قوة الجند، فطلب إلى حكومته إرسال حملة لمساعدته، فترددت إنكلترا طويلًا قبل الإقرار على الحملة، على أنها أقرت في مايو على وجوب إرسالها، ولكن جنودها لم تبدأ بالمسير إلى السودان إلا في سبتمبر، فتذمر أهل الخرطوم وشكوا إلى غوردون حالهم، وفي جملتهم كل الأجانب المقيمين هناك، فقال لهم: من أراد الذهاب فليذهب، أما أنا فلا أستطيع الخروج إلا بعد إنقاذ الحامية والناس أو أن أموت معهم، ولكنه أشار على ستيوارت أن يسير إلى مصر بمن أراد مرافقته من الأجانب، وعهد إليه إيصال تقاريره اليومية عن أحوال الخرطوم من أول مارس إلى ٩ سبتمبر وهو يوم سفر ستيوارت، وظن غوردون أن ذهاب ستيوارت بهذه التقارير إلى مصر يفيد الحملة القادمة لإنقاذه، فركب ستيوارت باخرة وركب معه بعض الإفرنج ورافقته باخرتان، فوصل بربر فضربها ومر بها فعادت الباخرتان وجرت باخرته حتى إذا تجاوزت أبو حمد إلى واد قمر ضايقها الدراويش من البر، ثم جنحت فنزل من فيها فلقيهم الدراويش وقتلوهم وحملوا الأسلاب والأوراق إلى المهدي. كل ذلك وغوردون يستحث الإنكليز ويستنهض هممهم وينذرهم بالخطر القريب، فجاءه خبر هلاك ستيوارت ومن معه قبل خروج الحملة، على أن تلك الحملة لم تصل الخرطوم إلا في ٢٨ يناير سنة ٨٥؛ أي بعد سقوطها ومقتل غوردون بيومين.
فلننظر في حركات الدراويش وإجراءاتهم في أثناء حصار الخرطوم من معسكرهم ملخصًا عما رواه سلاتين باشا في كتابه «السيف والنار في السودان»، وما أحكاه غيره من الأسرى الذين رافقوا تلك الحوادث داخل الخرطوم وخارجها.
تركنا المتمهدي وقد عاد ظافرًا إلى الأبيض بخيله ورجله، فبعد وصوله إليها أنفذ بعض أمرائه لتأييد سلطته في دارفور وبحر الغزال وما جاورهما، ثم علم ما كان من أمر السودان الشرقي وظفر عثمان دقنة في سنكات وتمانيب والتب وحصار كسلة، وكان قد ولى صهره ولد البصير على الجزيرة ما بين النيلين الأزرق والأبيض فبلغه أنه حارب الجنود المصرية هناك وغلبها، وعلم في أثناء ذلك أن غوردون باشا جاء الخرطوم بلا جند، ثم وصله كتابه يطلب إليه إطلاق الأسرى ويوليه كردوفان فلم يعبأ به وأجابه بلهجة شديدة كما قدمنا.
وتكاثر دعاة المهدي بعد انتصاره على هيكس، وتقاطر الناس إليه قبائل وجماعات قيامًا بنصرته، وكانوا يعسكرون بخيامهم وإبلهم وخيلهم حول الأبيض، فقلَّت مياه الأبيض، فخاف المهدي أن يصيبهم جهد فأشار بالانتقال إلى الرهد وفيها الماء غزيرًا، فانتقلوا إليها رجالًا ونساء وأولادًا في أواسط أفريل سنة ١٨٨٤، بأحمالهم وأثقالهم ودوابهم، وأقاموا هناك والمهدي يقضي نهاره في الصلاة والوعظ والحث على الجهاد، ثم سمع بخروج الجنود المصرية من الخرطوم على أهل الجزيرة، فبعث محمد أبا جرجا أميرًا عليها في عدد عظيم من الدراويش على أن يمد أهل الجزيرة ويحاصر الخرطوم، فحصلت بينه وبين جنود الخرطوم مواقع انتصرت في أولها الجنود المصرية ثم عادت العائدة عليهم بعد ذلك كما رأيت. وأرسل المهدي الشيخ محمد الخير أميرًا على بربر فسار إليها وحاصرها وفتحها وأرسل مديرها حسين باشا خليفة أسيرًا إلى معسكر المهدي في كردوفان، فالتقى بسلاتين باشا وتشاطرا مصيبة الأسر. أما دنقلا فكان مديرها مصطفى بك ياور (ثم صار مصطفى باشا) قد كتب إلى المهدي غير مرة يسلم إليه، فلم يركن هذا إلى تسليمه بل بعث السيد محمد علي وبعض الشائقية ليجسوه فحاربهم وفرق جمعهم، وكان الماجور كتشنر (اللورد كتشنر باشا) قد جاء بمهمة سرية لاستطلاع نوايا مصطفى بك ياور وأحوال السودان فشهد بعض مواقعه مع الدراويش.
وخلاصة الأمر أن حجار السودان ورماله كادت تنطق بصوت واحد: «صدق محمد أحمد بدعواه»، وكان إلى ذلك الحين مقيمًا في الرهد، فكتب إليه أمراؤه من أنحاء مختلفة أن ينزل برجاله إلى النيل الأبيض، فكان يؤجل مسيره مظهرًا الازدراء بقوة أعدائه والاعتداد بقوته، ويستعرض جنوده كل جمعة استعراضًا عموميًّا يحضره هو بنفسه يسمونه (عرضة)، والجيش إذ ذاك ثلاثة أقسام يرأس كلًّا منها خليفة من خلفائه، ولكن الخليفة عبد الله التعايشي كانت له الرئاسة الكبرى ويلقب «رئيس الجيش»، وفرقته تسمى «الراية الزرقاء»، ينوب عنه في قيادتها أخوه يعقوب التعايشي، وفرقة الخليفة علي ولد الحلو تدعى «الراية الخضراء»، وفرقة الخليفة محمد الشريف تسمى «الراية الحمراء» أو «راية الشرفاء»، وتحت قيادة كلٍّ من هذه الرايات الثلاث رايات صغيرة لا يحصيها عدٌّ يجتمع حول كل راية منها مئات من الدراويش.
وكيفية الاستعراض عندهم أن يقف أمراء الزرقاء براياتهم صفًّا واحدًا يولون وجوههم المشرق، ويقف أمراء الراية الخضراء صفًّا آخر يقابل الصف الأول وجهًا لوجه، ويقف أمراء راية الأشراف صفًّا آخر يقابل الشمال فيؤلفون مربعًا ينقصه ضلع، كأنه باب يدخل به المهدي وحاشيته، فيمر بجانب الصفوف يحييها قائلًا: «الله يبارك فيكم.»
فلما انقضى رمضان تلك السنة قال محمد أحمد إنه قد أوحي إليه في الرؤيا (الحضرة) أن ينزل لمحاصرة الخرطوم، فبعث إلى أبي عنقر وكان قد أرسله في مهمة إلى جبل الدير وأوعز إلى كل أمير أن يجمع رجاله للخروج على الخرطوم، فلما تكامل الجمع زحف المهدي برجاله من الرهد في ٢٢ أوغسطس (آب) سنة ١٨٨٤ في ثلاث فرق سارت كل منها في طريق، أعظمها الفرقة التي فيها المهدي وخلفاؤه فهذه سارت على طريق حملة هيكس السيئة الحظ؛ أي من الرهد فشركلا فالدويم، وكان في هذه الفرقة سلاتين باشا بمعية التعايشي، فلما وصلوا شركلا جاءهم غريب أمسكوه أسيرًا فوقف بين يدي التعايشي وسلاتين يترجم بينهما فإذا هو فرنساوي واسمه أوليفيه باين، قال: إنه جاء من قبل دولة فرنسا يعرض مساعدتها على المهدي ليقهر الإنكليز، فأبقاه التعايشي في جملة الأسرى ريثما يقيمون فينظر في أمره، ولكن الرجل مرض من سوء المعاملة واشتدت عليه الحمى فمات في أثناء الطريق قبل أن تصل الحملة إلى الخرطوم.
أما الحملة فوصلت جوار الخرطوم في أواسط أكتوبر سنة ١٨٨٤ فعسكرت على مسافة يوم منها، وهناك بعث المهدي إلى سلاتين وأمره أن يكتب إلى غوردون يدعوه إلى التسليم ويقول له: إن المهدي حق، وإن عبد القادر (يعني سلاتين) نفسه يكون أول المحامين له، فاستأذن سلاتين المهدي، قائلًا: «أخاف إذا كتبت إليه ذلك أن يستغشني، فأرى أن أنصح له بالتسليم للإمام المهدي؛ لأن جنوده مظفرة لا تقوى جنود الخرطوم عليها، وأن أتوسط في أمر تسليمه إليكم.» فاستحسن المهدي الرأي، فذهب سلاتين إلى خيمته وهو لا يصدق أنه سيكتب إلى غوردون، فكتب إليه كتابًا طويلًا عريضًا بالنمساوية؛ (لأنه لا يعرف الإنكليزية جيدًا)، شرح فيه حكاية تسليمه دارفور والأحوال التي قضت عليه بذلك، وقال: إن الأسرى المقيمين مع المهدي هم على ولاء الحكومة يسلمون لها ويضربون بسيفها حالما يتاح لهم ذلك، وأوعز إليه أن يخبره عن حاله بالخرطوم، وأن يكتب إليه كتابًا في العربية يطلب فيه مقابلته في أم درمان للنظر في شروط التسليم، وكتب كتابًا آخر إلى هنزل قنصل النمسا بمثل هذا المعنى، وجاء بالكتابين إلى المهدي فأمره أن يرسلهما مع أحد خدمه إلى أم درمان، ولم يكد يسير الرسول حتى جاء خيالة من بربر ينبئون المهدي بمصاب ستيوارت ومن كان معه، وجاءوا بالأسلاب وفيها كثير من الأوراق، فبعث المهدي إلى سلاتين ليخبره بما في تلك الكتب، فقلب فيها وقال: إنها كتب خصوصية أرسلها بعض أهل الخرطوم إلى أهلهم في مصر وغيرها. ورأى تقارير غوردون نفسها وعرف خطه فتأسف أسفًا لا مزيد عليه، ولكنه أظهر الجلد، فقال له المهدي: «اكتب الآن إلى عمك (يريد غوردون) أن مركبه قد كُسر ورجاله قُتلوا، وأرسل إليه هذا التقرير تأييدًا لذلك؛ فأظنه إذا تحقق الأمر أسرع إلى التسليم.» فكتب سلاتين إليه وإلى القنصل كتابين آخرين وأرسلهما مع خادمه إلى أم درمان، وكان في مكان أم درمان إذ ذاك طابية من طوابي الخرطوم اسمها «طابية أم درمان» أو «طابية رجب بك»، فعاد الخادم من عند القنصل هنزل بجواب مقتضب لم يشفِ غليلًا، فارتاب المهدي بنية سلاتين فأمر بتقييده فأثقلوه بالحديد وحجزوا عليه في خيمة منفردة.
وبعد قليل زحف المهدي برجاله وأحمالهم وأثقالهم ودوابهم فضربوا نقارتهم وساروا حتى أشرفوا على الخرطوم وسلاتين معهم، فعسكروا هناك تحت راية التعايشي، وسار الأمراء الآخرون يبحثون عن مكان آخر يعسكرون فيه، ثم أمر المهدى أن يحدق جنده بالخرطوم ويشددوا الحصار عليها، فأمر أبا جرجا وولد النجومي أن يحاصراها برجالهما من البر الشرقي للنيل الأبيض عند مكان اسمه كلاكلا وأمر أبا عنقر (أو أبو عنقة) وفضل المولى أن يحاصرا طابية أم درمان على البر الغربي، وما زالوا محاصرين تلك الطابية حتى فتحوها في ١٥ يناير سنة ١٨٨٥، وهي أول طابية فتحوها من حصون الخرطوم، ويؤخذ من تقرير كتبه الشيخ المضوِّي أحد قواد المهدي في ذلك الحصار أن المهدي كان عازمًا أن يشدد الحصار على الخرطوم حتى تسلم من الجوع كما فعل بالأبيض، وأن رجال ولد النجومي وحدهم بلغوا عشرين ألفًا، فربما كانت قوة الدراويش كلها هناك ستين ألفًا أو سبعين وأكثر.
على أن ذلك قلَّما خفف من ضيق أهل الخرطوم ونزلائها؛ فإنهم ما انفكوا يشعرون بالضغط يومًا بعد يوم، والحصار يزيدهم تضييقًا حتى أصبحوا محاطين بالعدو من كل جهة، وقل زادهم أو نفد وجاعوا، وغوردون يصبِّرهم ويعدهم بقرب وصول الحملة الإنكليزية لإنقاذهم، ولكنها تأخرت كثيرًا فمل الناس الانتظار، واشتد الجوع حتى أكلوا لحوم القطط والكلاب، ومضغوا سعف النخل وجذور الذرة، كل ذلك وهم واثقون بوعد غوردون ولكنهم كادوا يسيئون الظن به أخيرًا.
أما الحملة الإنكليزية التي أقروا على إرسالها لإنقاذ غوردون فبرحت مصر في أوائل الخريف وعدد رجالها ستة آلاف من نخبة الجند الإنكليزي وأكثر قوادها من الأشراف، فقد تسابق الإنكليز إلى الانتظام في سلك هذه الحملة؛ لزعمهم أنها عبارة عن «فسحة» على النيل، فلم يصل من رجالها إلى كورتي إلا بعضهم وتفرق الباقون في نقط خط الاتصال، ومن كورتي سارت حملة في عطمور صحراء بيوضة إلى المتمة بقيادة الجنرال ستيوارت، والقصد بها سرعة الوصول إلى الخرطوم، وسارت حملة أخرى على النيل إلى بربر بقيادة الجنرال. وكنا ممن سار برفقة حملة العطمور فشهدنا وقائعها وسمعنا إطلاق مدافعها ورنات قنابلها ورصاصها، وترى تفصيل ذلك في كتابينا «تاريخ مصر الحديث» و«رواية أسير المتمهدي»، فقطعت الحملة جدكول إلى أبي طليح فلاقاها العرب على تلك الآبار فحصلت بين الفريقين واقعة شفت عن انهزام العرب فتعقبهم الإنكليز إلى المتمة، وهناك حصلت واقعة أخرى انهزم بها الدراويش أيضًا وعادوا على أعقابهم، وقبيل هذه الواقعة أصيب الجنرال ستيوارت برصاصة في أحشائه، وأحيلت القيادة إلى السير شارلس ولسن فنزلت الجنود الإنكليزية على ضفاف النيل في مساء ١٨ يناير سنة ١٨٨٥ بعد أن قضت ١٣ يومًا في الصحراء، واسم مكان الواقعة أبو كرو، ونزل الجند بعد الواقعة في مكان اسمه القبة والإفرنج حرَّفوه فجعلوه (جوبات).
وكان غوردون قد أنفذ إليهم أربع بواخر كانت في مياه الخرطوم ليستعينوا بها في الوصول إليه وبعث يقول لهم: إنكم إذا لم تصلوا إلينا في بضعة أيام ذهبنا هباءً منثورًا، وقد علم السير شارلس بذلك في ٢١ يناير وكان يحب أن يبادر حالًا إلى الخرطوم بدلًا من أن يقضي أربعة أيام بجوار المتمة بلا داعٍ، فغادرها في ٢٤ يناير سنة ١٨٨٥ على باخرتين لم تصلا الخرطوم إلا في ٢٨ منه وكانت قد سقطت وقُتل غوردون في ٢٦ منه فعاد السير شارلس كاسف البال ولم يصل المتمة إلا بعد شق الأنفس؛ لأن باخرتيه انكسرتا وأصابه من الخطر ما لا محل لتفصيله هنا.
وقد ذكرنا أن المهدي حاصر الخرطوم وشدد الحصار عليها لكي تسلِّم من الجوع، فلم تمضِ مدة حتى أنبأه جواسيسه أن حملة الإنكليزية قادمة لإنقاذ الخرطوم وغوردون، فبعث إليها جندًا لاقاها في أبي طليح تحت قيادة موسى ولد الحلو وأبي صافية فعادت خاسرة، فأرسل جندًا آخر إلى أبي كرو بقيادة نور عنقرة فانكسر أيضًا كما تقدم، فلما بلغه خبر انكسار رجاله أراد التمويه على أتباعه فأمر بإطلاق مائة قنبلة وقنبلة، وهي إشارة النصر عندهم، فاطمأن الدراويش، ولكن محمد أحمد جمع أمراءه وخلفاءه في جلسة سرية، وقال لهم: إن الحضرة جاءته (أي رأى رؤيا روحية) فأوحت إليه أن يهاجر إلى الأبيض، فاعترضه الأمير محمد عبد الكريم قائلًا: «إن الهجرة ميسورة لنا كل حين والطريق إلى الأبيض مطلق لنا، فلنهاجم الخرطوم أولًا فإذا امتنعت علينا هاجرنا إلى الأبيض، وإذا فتحناها فلا يقوى الإنكليز ولا غيرهم على أخذها منا.» فاستحسن المهدي رأيه وصبر بضعة أيام وهو يستقصي أخبار الإنكليز وحركاتهم، وفي ٢٥ يناير بلغه قيام الباخرتين من المتمة فأقر الرأي على مهاجمة المدينة في صباح اليوم التالي (يوم الإثنين في ٢٦ يناير سنة ١٨٨٥) فبعث المهدي إلى القوات المحاصرة يقول: إنه علم بالوحي أن الله جعل أرواح أهل الخرطوم كلها في قبضته.
وفي مساء ذلك اليوم ٢٥ منه قطع المهدي النيل الأبيض من أم درمان، وكل من أراد الجهاد معه ونزل إلى معسكر ولد النجومي في كلاكلا، وتلا هناك خطابًا حث رجاله فيه على الجهاد وأوصاهم ألا يقتلوا غوردون باشا، ويقول سلاتين باشا: إن غرضه من ذلك بقاء غوردون أسيرًا حتى يفتدي به أحمد عرابي المنفي في سيلان، فلما أتم خطبته عاد ببطانته إلى أم درمان.
فأثر ذلك المنظر في سلاتين كثيرًا، وكان قد هزل جسمه من الأسر والخوف وكاد يغمى عليه، ولكنه تجلد، وقال بصوت ضعيف: «إنه مات في سبيل الدفاع عن واجباته، هنيئًا له فقد استراح من متاعبه.» فقال له شطا ضاحكًا: «أتمدح الكافر، سوف تلقى ما لقيه قريبًا.» فتأمل حال سلاتين إذ ذاك.
ثم حملوا الرأس إلى المهدي فأظهر كدره لذلك، ولكن سلاتين يظن أن المهدي لو أراد أن يُبقي عليه وأوصى رجاله بذلك ما استطاع أحد مخالفة أوامره.
هكذا سقطت الخرطوم عاصمة السودان في أيدي الدراويش وبسقوطها سقط كل أمل بافتتاحها، ولكن المهدي لم يُقم فيها بل أقام في أم درمان، وبنى هناك مدينة جعلها عاصمة ملكه من ذلك الحين.
أما الحملة الإنكليزية فإنها انسحبت من المتمة إلى كورتي فأقامت هناك مدة ثم عادت إلى دنقلا فمصر، وسحبت معها كلَّ من أراد مرافقتها من سكان السودان شمالي كورتي وأصبحت السودان من ذلك الحين مملكة المهدي السوداني.
(٤-١) موت المهدي وخلافة التعايشي
فلما فُتحت الخرطوم وعادت الحملة الإنكليزية إلى مصر ازداد الناس وثوقًا بدعوى المهدي مع ما شاهدوه من توفيقه في مشروعاته؛ فإنه لم يشهد موقعة إلا انتصر فيها، ولا حاصر مدينة إلا فتحها (تقريبًا) وإذا اعتبرتَ ما لاقت الحملة الإنكليزية القادمة لإنقاذ غوردون من العراقيل والعوائق عجبتَ لما اتفق لمحمد أحمد هذا من غرائب التوفيق، فاتخذ أشياعه ذلك دليلًا على أنه إنما يعمل بوحي من الله، وأيقن هو أنه أصبح المالك المتصرف في السودان من أقصائه إلى أقصائه، وخُيِّلَ له أنه سيفتح الأمصار ويخضع له الملوك والسلاطين فتنتشر سلطته في الخافقين، على أنه لم يكن يرجو أن يتم ذلك كله على يده، ولكنه كان يقول إنه لن يموت إلا بعد فتح الحرمين وبيت المقدس ثم ينزل الكوفة ويموت فيها، ولكن ساء فأله؛ فإنه لم يكد يؤيد سلطته ويقيم في عاصمته (أم درمان) بضعة أشهر حتى داهمته الوفاة في ٢١ يونيو سنة ١٨٨٥ على أثر إصابة شديدة بالحمى التيفوس لم تنجع فيها حيلة، ففارق هذا العالم على عنقريب (سرير سوداني) وحوله خلفاؤه الثلاثة وخاصة أمرائه، منهم أحمد ولد سليمان، ومحمد البصير، وعثمان ولد أحمد، والسيد المكي، فلما شعر المهدي بدنو الأجل قال لمن حوله بصوت منخفض: «إن النبي ﷺ اختار الخليفة عبد الله خليفة الصديق خليفة لي، وهو مني وأنا منه، فأطيعوه ما أطعتموني. أستغفر الله.» ثم تلا الشهادتين وجعل يديه متقاطعتين على صدره وتمطط وأسلم الروح.
وكان سلاتين باشا قد نال العفو من المهدي قبل وفاته، فحُلَّت قيوده وعاد إلى معية التعايشي، فشاهد تلك الحوادث شهادة عين، ووصفها في كتابه «السيف والنار والسودان» وصفًا تامًّا.
فبعد دفن المهدي سار خليفته عبد الله إلى الجامع وخطب في الناس، وأنبأهم بوفاة المهدي، فبكى وبكى الناس، ثم أوصاهم بالطاعة والاتحاد للعمل بأوامره، وبعد الخطبة تقدم الناس لمبايعته، فتلوا صورة المبايعة التي ذكرناها قبل الآن، ولكنه غيَّر العبارة الأولى منها فجعلها: «بايعنا الله ورسول الله ومهدينا وبايعناك على توحيد الله … إلخ.»
(٥) أوصاف المهدي
كان طويل القامة، عريض المنكبين، أسمر اللون فاتحه، قوي البنية، وكان أول قيامه بدعوته ربع القامة، فأصبح في أواخر أيامه سمينًا ضخمًا، وكان كبير الرأس، عريض الجبهة، حادَّ العينين أسودهما، خفيف اللحية أسودها، وعلى خديه آثار الأخاديد العرضية، ثلاثة من كل جانب كسائر الدناقلة أبناء قبيلته، وكان متناسب الأنف والفم، لا ينفك مبتسمًا فتظهر أسنانه وبين الأماميتين منها فلجة تشبه الثمانية (٨) تُعدُّ عند السودانيين وغيرهم من المشارقة علامة السعد، ويقال لصاحبها: أفلج، وكان ذلك من جملة ما حبب المهدي إلى النساء وكن يسمينه (أبو فلجة).
وكان يلبس جبة بيضاء قصيرة مضربة، تراها دائمًا مغسولة نظيفة، مطيبة برائحة خشب الصندل والمسك وعطر الورد، وكان مشهورًا بين أتباعه بهذه الرائحة حتى نسبوها إليه فسموها «رائحة المهدي»، وذكر بعضهم خالًا كان في خده ادَّعى أنه من علامات المهدية.
وقد علمت من تدبُّر ترجمة حاله أنه كان نبيهًا مدبرًا، رضي الخُلق، حسن السياسة، ماهرًا في التأثير على عواطف الناس، إذا تكلم ظهر للسامعين أن جوارحه كلها تتكلم، فإذا ذكر مآثم بني الإنسان أو وصف النعيم المقبل أو حث على الجهاد بكى وتخشع وأبكى السامعين، ويظهر من مجمل سيرة حياته أنه صبور على البلوى، كاظم للغيظ، مسالم للأحزاب، محسن إليهم، راغب في امتلاك قلوبهم باللطف وحسن الأسلوب، وكان ذلك من أكبر العوامل في نشر دعوته وقيام الناس بنصرته، ولو أمد الله في أجله لكان فتح السودان صعبًا على الجنود المصرية؛ نظرًا لاستهلاك قواده في سبيل نصرته. أما خليفته فكان على غير خلقه من اللين والدعة والمسالمة إلى حدٍّ هاج غيرة الخليفتين الآخرين وغيرهما من الأمراء، فقام الشقاق بين الدراويش، فضعفت عزائمهم، وفسدت أمورهم، وتضعضعت أحوالهم، وسهل الفتح على المصريين.
(٦) تعاليمه
- (١)
علَّم الزهد في الدنيا وملذاتها، ونبذ المجد الدنيوي، فأبطل الرتب والألقاب الرسمية وغير الرسمية، وساوى بين الغني والفقير، وفرض على أتباعه لباسًا واحدًا يمتازون به ويدل على تزهدهم وهو الجبة المرقعة.
- (٢)
جمع المذاهب الأربعة (المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي) ووحدها بتسوية بعض ما بينها من الخلاف وإلغاء البعض الآخر، واختار آيات من القرآن الكريم تُتلى كل يوم بعد صلاة الصبح وصلاة العصر سماها «الراتب»، وسهَّل طرق الوضوء.
- (٣)
حرَّم الاحتفال بالأعراس احتفالًا يدعو إلى النفقة، ومنع شرب الخمر وغيرهما مما يتناولونه في الأعراس، وخفض مهر الزواج فجعله عشرة ريالات وبدلتين للبكر، وخمسة ريالات وبدلتين للثيِّب، وجازى من يخالف ذلك بسلب أمواله كلها، وأبدل ولائم الأعراس بطعام من التمر واللبن، فتسهَّلت بذلك وسائل الزيجة على الفقراء، وقد كانت نفقات العرس الباهظة حائلة بينهم وبين الاقتران.
- (٤)
أبطل الرقص واللعب، ومن رقص أو لعب فقصاصه الجلد وأخذ أمواله، وترى تفصيل ذلك في منشور المهدي الذي تقدم نشره.
- (٥)
منع الحج إلى الحرمين خوفًا على قواته من التفريق وتعاليمه من الضياع؛ لعلمه أنها تخالف تعاليم أهل الإسلام، ووضع قصاصًا على من يشك في دعوته أو يتردد في تنفيذ أوامره أن تُقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ويكفي لثبوت الدعوى عليه شهادة شاهدين، وقد يكفي أن يدعي علمه ذلك بالوحي. وتأييدًا لدعوته أحرق كل كتاب أو ورقة تخالف هذه التعاليم.
(٧) دولة الدراويش
هذا ما كان من أمر محمد أحمد المهدي زعيم هذه الثورة، فقد مات وقلبه عالق بما أوتيه من النصر؛ لأنه غرس غرسًا ولم يذق ثمر غرسه، فترك تلك الشجرة وقد آن إثمارها لأقوام اختلفوا على اقتسامها، وتوكئوا على أغصانها حتى كادوا يكسرونها؛ فقد تولى التعايشي الخلافة وهو يخاف مناظرة الخليفتين الآخرين ويخشى أحزابهما، على أن الأعمال الحربية ما زالت في بادئ الرأي سائرة بقوة الاستمرار كما كانت على عهد المهدي.
وكان المهدي قد بعث أمراءه على الأنحاء لبثِّ دعوته وتأييد سلطته وحث الناس للمهاجرة إلى أم درمان، فسعى خالد في دارفور فأتم إخضاعها، وسار أبو عنقر (أو أبو عنقة) إلى كردوفان، وكانت قد سلمت إلى المهدي إلا سكان الجبال الجنوبية منها فأخضع بعضهم وبقي البعض مستقلًّا. أما ما بقي من السودان الغربي من ضفاف النيل الأبيض إلى حدود وداي فقد دانت للمهدي برُمَّتها.
أما في السودان الشرقي فما زالت سنار وكسلا محاصرتين، وقد دافعت حاميتهما دفاعًا حسنًا حتي اضطرت إلى التسليم، فلم تنقضِ سنة ١٨٨٥ حتى بلغ نفوذ المهدي وسلطته جنوبًا إلى لادو من مديرية خط الاستواء، ولم يبقَ من السودان في حوزة الحكومة المصرية إلا سواكن وحدها.
واتفق في أثناء حصار سنار أن القوة المحاصرة لها كانت تحت قيادة الأمير عبد الكريم وهو من أقارب المهدي، فدافعته حامية سنار فأنفذ التعايشي ولد النجومي وهو من أعظم قواد الدراويش، ففتحها في أوغسطس سنة ١٨٨٥، فبعث التعايشي إلى عبد الكريم أن يأتي هو ورجاله إلى أم درمان، وكان قد أخذ معه لحصار سنار الجنود السودانية بلواء الخليفة الشريف، وهو من أقارب المهدي أيضًا، فلما فُتحت سنار على يد ولد النجومي، ثم دعي عبد الكريم إلى أم درمان حمل عبد الكريم ذلك من التعايشي محمل الإهانة، له وذاع على الألسنة إذ ذاك أن عبد الكريم قال لو ضُمَّت إليه رجاله ورجال الخليفة الشريف لأخرج الخلافة من يد التعايشي ودفعها إلى الخليفة الشريف؛ لأنه أولى بها من ذاك. فبلغ ذلك الكلام مسمع التعايشي، فبعث إلى أخيه يعقوب وهو عمدته وقائد جنده وأخبره الخبر، وأوصاه أن يكون الجند على استعداد عند وصول عبد الكريم، فلما وصل عبد الكريم لاقاه التعايشي بالتحية والتهنئة وأثنى على ما بذله في حصار سنار ثم شرفه وبعث إلى الخليفتين وسائر الأشراف (أقارب المهدي) فأدخلهم غرفة داخلية، ولما استتبَّ بهم المقام أمر كاتبه فتلا عليهم منشورًا كان قد كتبه المهدي في الأبيض يحرض أتباعه به على طاعة التعايشي.
فلما تمت تلاوة المنشور، قال لهم عبد الله: إن عبد الكريم خائن، فأنكروا ذلك عليه ودافعوا عن صداقته وأمانته، فتظاهر بالعفو عنه، ولكنه اشترط إخراج الجنود السودانية من قيادته إلى قيادة أخيه يعقوب، فقبل الشريف وسائر الأقارب بالرغم منهم ثم أشار التعايشي إلى الخليفة علي ولد الحلو بطرف عينه أن يجددوا المبايعة ويمين الطاعة فوضعوا أيديها على القرآن، وأقسموا أن يسلموا الجنود السودانية وأن يحافظوا على الطاعة، ولا ريب أن الشريف ورجاله فعلوا ذلك بالرغم منهم وفي أنفسهم حزازات يودون لو أنهم يذهبون بحياة التعايشي، وكانت تلك الحادثة أمثولة ذات بال أصبح بها مقاوموه مقصوصي الأجنحة لا يستطيعون حراكًا ولكنهم حقدوها عليه، وأخذ كلٌّ من الفريقين ينظر إلى الآخر بعين الحذر، على أن الظواهر كانت تدل على اتحاد وارتباط متينين. أما التعايشي فما انفك يدعو الناس من الجهات البعيدة للمهاجرة إلى أم درمان ليعمرها ويحشد فيها قوة عظمى يستعملها عند الحاجة.
وفي أثناء ذلك تعدى بعض السودانيين على الأحباش في بلاد الحبشة، وأخربوا كنيسة من كنائسهم، والتجأ المعتدون إلى قلابات، وهي في بلاد الدراويش مما يلي حدود الحبشة، فحماهم حاكم المدينة، فجاء الأحباش بجند كبير تحت قيادة الرأس عادل وأخربوا البلدة وأحرقوها حتى صارت قفرًا يأوي إليها الضباع والذئاب، وساقوا الأولاد والنساء أسارى إلى الحبشة، فبلغ التعايشي ذلك، فكتب إلى يوحنا نجاشي الحبشة إذ ذاك أن يرسل الأسرى ويعين الفدية التي يريدها عنهم، ولكنه بعث أيضًا يونس أحد قواده بجند إلى قلابات، وأمره أن يحصنها ويقيم فيها حتى يأتيه أمر آخر، وبعث ولد النجومي إلى دنقلا وأبا جرجا إلى كسلا، وكتب إلى عثمان دقنة يؤمِّره على السودان الشرقي بين كسلا وسواكن؛ أراد بذلك كله أن يثبت سلطته على تلك الأماكن، وأخذ من الجهة الأخرى ينظم حكومته في أم درمان، ففرض ضريبة سماها «فطرة» تُدفع بانقضاء عيد الفطر، لا يُعفى من دفعها أحد كبيرًا كان أو صغيرًا، وأخذ في تنظيم المالية وعهد بذلك كله إلى إبراهيم عدلان فوضع أنواع الضرائب واتخذ كل وسيلة يمكنه اكتساب المال بها وفي جملة ذلك تجارة الرقيق.
وفي أواسط سنة ١٨٨٦ عاد أبو عنقر إلى أم درمان ومعه الغنائم والأسلاب، فاحتفلوا باستقباله احتفالًا عظيمًا حضره التعايشي وسائر الخلفاء والأمراء وضُربت به الطبول وغيرها.
وبعد قليل جاء التعايشي نبأٌ أن يونس في ضيق، فبعث أبا عنقر يتولى قيادة الدراويش في قلابات، فسار في جنده وأنقذه من ضيقه، وسبب ذلك الضيق أن بعض رجال يونس ادَّعى أنه عيسى المسيح والتف حوله تلامذة كثيرون، بعضهم مؤمن به والبعض الآخر تبعوه نكاية في يونس لأحقاد بينهم وبينه، فلما وصل أبو عنقر قبض على ١١ أميرًا ظهر له أنهم تآمروا على قتل يونس، وبعث إلى الخليفة يستشيره في أمرهم فبعث إليه أن يقتلهم، ثم ندم فبعث أن لا يفعل ولكن سبق السيف العزل.
وكان جند أبو عنقة إذ ذاك أكبر جند اجتمع في حوزة الخليفة عبد الله مؤلفًا من ١٥ ألفًا من حملة البنادق و٤٥ ألفًا من حملة الرماح والنبل وثمانمائة فارس، فجمع أبو عنقر هذه القوة وسار نحو رأس عادل لينتقم منه، فوُفِّق في هذه الحملة على غير انتظار وتغلب على رجال رأس عادل وأخرجهم من محلتهم، واستولى على الخيم والمؤن وكل الأمتعة، وأسر امرأة رأس عادل وابنته وكأنه بهذه الغلبة قد فتح كل مقاطعة أمحرة، فسار توًّا إلى غندور على أمل أن يلاقي فيها خزائن وأموالًا فلم يجد شيئًا، فأحرق البلدة وعاد وهو ينهب ويسلب كل ما مر به بطريقه، حتى ساقوا أمامهم قطيعًا من نساء الأحباش وأطفالهم سوق الأغنام، فلما وصلوا قلابات بعثوا الأسرى إلى أم درمان، فأخذ الخليفة خمسهم وضموا الباقي إلى بيت المال وقد مات منهم في الطريق مئات من الجوع والتعب، وأصبح الطريق بين قلابات وأبي حراز مملوءًا بجثث أولئك المساكين وفي جملتها جثتا ابنة رأس عادل وابنه.
وبعث التعايشي إلى أبي عنقر أن يحصن قلابات؛ لأن الأحباش لا يتقاعدون عن الانتقام، ولكن المنية عاجلت أبا عنقر فمات شابًّا لم يتجاوز ٣٢ سنة من عمره.
ثم ما لبث النجاشي يوحنا ملك الحبشة أن جنَّد للانتقام من الدراويش على خراب غندر، فحمل بجند كبير على قلابات، وكانت جنود أبي عنقر لا تزال هناك ولم تفقد إلا قائدها الأكبر فتأهبوا للدفاع، فوصل النجاشي وعسكر بالقرب من قلابات فانقسم جنده فرقتين هاجمت المدينة من ناحيتين، فدخلت إحداهما المدينة من أثلام في السور واشتغلت بالنهب والقتل، وبقيت الأخرى تهاجم السور من الخارج وفيها النجاشي، وقد وقف يستحث رجاله ويحرضهم على الدراويش فأصابته رصاصة قتلته، فبعد أن كان النصر للأحباش عادت العائدة عليهم فخافوا وتقهقروا في أثناء الليل، فأصبح الدراويش وهم يحسبون لهجمة الأحباش ألف حساب فإذا بالأرض خالية من الخيم، فبعثوا الجواسيس فعلموا أن النجاشي قُتِل فتعقبوهم، وكان الأحباش قد عسكروا على مسافة نصف يوم من قلابات فباغتهم الدراويش، ففر الأحباش وتركوا المعسكر غنيمة للدراويش، فوجدوا في جملة الغنائم تاج النجاشي يوحنا مصنوعًا من الفضة ومحلًّى بالذهب وسيفه وكتابًا مرسلًا إليه من ملكة الإنكليز، فحملوا ذلك غنيمة إلى أم درمان.
(٨) فتح مصر
ومن أغرب مطامع التعايشي فتح مصر وضمها إلى مملكته على حين أن المهدي نفسه لم يجاهر بذلك صريحًا، فلما تُوفِّي هذا كتب التعايشي كتابًا إلى جلالة السلطان، وآخر إلى سمو الخديوي، وآخر إلى ملكة الإنكليز يطلب إليهم جميعًا أن يسلموا له ويذعنوا لسلطانه وأرسل الكتب مع رسل خصوصيين إلى مصر، فعاد الرسل ولم ينالوا جوابًا غير الاحتقار والازدراء، فشق ذلك عليه وحقده عليهم.
فلما قدِّر له الفوز على الأحباش حدثته نفسه أن يجرد على مصر فيفتحها ويقيم نخاسًا من البقارة أو التعايشة أميرًا يتولى حكومتها أو يأتي هو بجلالة قدره من بيته في أم درمان فينصب عنقريبه في سراي عابدين.
ففي أوائل سنة ١٨٨٩ استشار بعض رجاله في التجريد على مصر فشوقوا إليه سكناها ووصفوا له قصورها وغياضها وأموالها ونساءها، فما أشبه وصفهم هذا بما وصفها به عمرو بن العاص للخليفة عمر بن الخطاب يوم حثه على فتحها قبل ظهور التعايشي بثلاثة عشر قرنًا، فتاقت نفس التعايشي إلى فتح مصر ولم يرَ بين قواده أولى بهذه المهمة من عبد الرحمن ولد النجومي، وكان من أشد الدراويش بطشًا، وأصعبهم مراسًا، وأكثرهم استهلاكًا في نصرة الدعوة، وكان قبل ظهور المهدي تاجرًا بين مصر والسودان قد خبر الأرض وعرف الطرق، فأرسله في حملة أكثرها من قبائل الجعالين والدناقلة وغيرهم ممن جاوروا حدود مصر العليا وخالطوا سكان تلك الأقاليم متظاهرًا أن قصده بذلك فتح مصر برجال هم أدرى بها من غيرهم، ولكن الحقيقة أنه لم يجهل الخطر الذي يهدد ذلك المشروع فلم يجعل في تلك الحملة أحدًا من أقاربه وأبناء عشيرته ولا من قبائل البقارة وغيرهم من عرب غربي النيل الأبيض؛ لأنهم من حزبه فادخرهم لحين الحاجة. أما الدناقلة والجعالين فأكثرهم من حزب الخليفة محمد الشريف، وقد رأيت ما قام بينه وبين التعايشي وما كان من تغير قلبيهما، فما انفك هذا بعد ذلك يعتبر الشريف عدوًّا له تحت طي الخفاء، فبعث أحزابه في حملته هذه وفي نيته أنهم إذا فتحوا مصر عاد الفخر له واتسعت مملكته، وإذا انكسروا تقهقروا إلى دنقلا وقد ضعف شأنهم وتخلص هو من دسائسهم.
فجعل دنقلا محط رحال تلك الحملة، وأقام يونس ولد الدغيم أميرًا على دنقلا يقيم فيها ويدير شئونها، وولد النجومي يقود الحملة ولا يعمل إلا بمشورة يونس.
واتفق في أثناء تجريد تلك الحملة حادث يدلك على ظلم التعايشي وعسفه فتعلم أن دولته لم تقم إلا لأجَل قصير؛ لأن الظلم مرتعه وخيم، والحادثة أن التعايشي أمر جماعة من قبيلة البطاحين أن يرافقوا تلك الحملة وفيهم أحمد ولد جار النبي، والبطاحين قبيلة تسكن شمالي النيل الأزرق بين قبيلة الشكرية والنيل مشهورة بالشجاعة والاستقامة من عهد الحكومة المصرية، وكان التعايشي قد استعمل جماعة كبيرة منهم في دنقلا وبربر فلم يروا في أعماله خيرًا، فلما أوعز إليهم أن يرافقوا تلك الحملة أبَوا، وفر ولد جار النبي فتعقبه بعض رجال الخليفة فجرح واحدًا منهم، فشق ذلك على التعايشي، فأنفذ جماعة قبضوا على البطاحين عن بكرة أبيهم إلا نفرًا قليلين تمكنوا من الفرار، فجيء بسبعة وستين منهم بنسائهم وأولادهم فأوعز التعايشي إلى القضاة أن يحكموا عليهم فحكموا أنهم مخالفين، عصاة، فقال: «وما قصاص العاصي» قال القضاة: «قصاصه الموت»، فنصب المشانق، وقسم هؤلاء المنكودي الحظ إلى ثلاثة أقسام: قتل قسمًا بقطع الرأس، وقسمًا بالشنق، والقسم الثالث أمر فقُطعت أطرافهم، وكان ذلك اليوم يومًا مشهودًا في أم درمان جاء فيه عبد الله على جواده إلى ساحة السوق وحوله ملازموه وفي جملتهم سلاتين باشا ووقفوا لمشاهدة ذلك المنظر المريع، وكان بعض المحكوم عليهم معلقين بالمشانق أزواجًا، وأثلاثًا، والبعض الآخر مكتوفي الأيدي جاثين أمام الجلادين، وفيهم من قد قُطع رأسه وزهقت روحه، ومن قد أصابه السيف بضربة لم تفصل رأسه، فتململ وتوجع في باطن سره لئلا يقال إنه جبان، وفيهم الجاثي مكتوفًا ينتظر مجيء الساعة إلى غير ذلك مما يفتت الأكباد. أما هم فكانوا يلاقون الموت بصدور منشرحة، ومنهم من ينادي بأعلى صوته: «هذا هو يوم العيد عندي فمن لم يرَ شجاعًا يُقتل فلينظر إلي»، أما التعايشي فدار بجواده حول تلك الساحة ينزِّه نظره بذلك المنظر حتى قضي الأمر فعاد بموكبه وحاشيته.
(٩) عود إلى مصر
فلما أعد التعايشي تلك الحملة بعث كتبًا أخرى إلى مصر وفيها الإنذار الأخير، فبقي الرسل مدة في أصوان ثم أُعِيدوا بلا جواب، فبعث التعايشي رأس النجاشي يوحنا إلى يونس أمير دنقلا على أن يرسله إلى وادي حلفا تهديدًا للمصريين، وأمر أن يسير النجومي بحملته على مصر فلا يحرك ساكنًا في حلفا، بل يهاجم أصوان فإذا فتحها يقيم فيها حتى تأتيه أوامر أخرى.
فخرج ولد النجومي من دنقلا في مايو سنة ١٨٨٩ في جيش لا نظام له، والحكومة المصرية عالمة بكل حركة من حله وترحاله، وكان سردار الجيش المصري إذ ذاك الجنرال غرانفل باشا المشهور بالتأني وحسن الروية، فضلًا عن الرقة ولين الجانب، فحصَّن حلفا وأصوان وسائر الحدود، فلما دنت حملة الدراويش من أرجين بجوار حلفا اقتربت شرذمة منهم إلى النيل وولد النجومي لا يعلم بها، فخرجت إليها الحامية المصريون بقيادة وودهاوس باشا فكسروها شر كسرة.
وكان غرانفيل باشا قد خرج من أصوان فبعث إلى ولد النجومي يبين خطر موقفه، وينصح له أن يسلم فيسلم فأبى، فسار السردار بجيش معظمه على البر الغربي للنيل، وبعضه على البر الشرقي؛ لأن الدراويش كانوا قادمين على البر الغربي فجرت بينهم وبين الحاميات مناوشات ليست بذات بال حتى وصلوا توشكي، وهناك حصلت الواقعة التي قضت على تلك الحملة، فقُتِل قائدُها وتشتت شملها، وإليك التفصيل.
(٩-١) واقعة توشكي
توشكي قرية حقيرة على البر الشرقي وبعضها على البر الغربي للنيل بين كروسكو وحلفا على بضعة أميال من هيكل أبي سمبل شمالًا مؤلفة من أعشاش صغيرة من الطوب والقش متفرقة على ضفة النيل في مسافة من الأرض على موازاة النيل يبلغ طولها ثلاثة أميال وعرضها منه إلى الصحراء نحو نصف ميل وفيها بعض النخيل.
وفي البر الغربي مقابل توشكي على بعد أربعة أميال منها جنوبًا سلسلة تلال عالية من حجر الغرانيت، تمتد من الضفة غربًا نحو ثلاثة أميال في الصحراء، وعند طرف هذه السلسلة وإلى جنوبيها كان معسكر الدراويش بقيادة ولد النجومي، وعلى نحو تلك المسافة شمالًا سلسلة أخرى، وبين السلسلتين سهل واسع متصل بالصحراء، وفي هذا السهل جرت الواقعة.
وكان السردار مقيمًا في توشكي، فبعث طلائعه في صباح ٣ أوغسطس سنة ١٨٨٩ باكرًا لاستكشاف معسكر، العدو فعادوا وأخبروا بأن العرب يستعدون للمسير، فخرج السردار لمجرد الاستكشاف فلم يكد يشرف على معسكرهم حتى رآهم هاجمين كالجراد، فبعث إلى الجند في توشكي وكان بعضهم لم يتناول طعامًا ولا تهيأ للمسير، فساروا بأسرع من لمح البصر، وهم لم يأكلوا بعد ولا حملوا من الماء إلا شيئًا قليلًا، فعزم السردار إذ ذاك أن لا يكف عن الدراويش حتى يشتت شملهم في ذلك اليوم، وكان قد علم بما كانوا فيه من الضيق والجوع، وهاك أسماء الأرط التي شهدت تلك الواقعة وهي: الأرطة التاسعة بقيادة البكباشي دن، والثالثة عشرة بقيادة اليوزباشي كمستر، والطوبجية بقيادة البكباشي رندل، فضلًا عن البيادة الراكبين، والأورطة الثانية من البيادة جاءت متأخرة، وقال الذين شهدوا واقعة توشكي أن الأرط السودانية عملت في ذلك اليوم أعمالًا عجيبة وبالغوا برغبتهم في الحرب حتى عصوا أوامر قوادهم لما دعوهم إلى الكف عنها، والخلاصة أن الواقعة المشار إليها لم تنقضِ إلى الساعة الثانية بعد الظهر من ذلك اليوم (٣ أوغسطس سنة ١٨٨٩).
وبلغ عدد قتلى الدراويش ١٢٠٠ قتيل، وزاد عدد أسراهم على أربعة آلاف وفيهم النساء والأولاد، فضلًا عن الأسلاب والأعلام والسيوف والرماح، ولم يُقتل من الجيش المصري إلا ٢٥ وجُرح ١٤٠.
ووجد بين قتلى الدراويش إذ ذاك أعظم أمراء تلك الحملة ما عدا عثمان الأزرق، وعلي ولد سعد، وحسن النجومي، وميرغني سوار الذهب، وشيخ الأبيض، فقد نجا هؤلاء بنحو ألف وأربعمائة شريد وهم الذين استطاعوا الفرار من تلك الموقعة فقط. أما ولد النجومي فقد قُتل وحُزَّ رأسه وجيء به إلى السردار.
شُيِّدَ هذا الأثر تذكارًا لواقعة توشكي التي حصلت في ٦ ذي الحجة سنة ١٣٠٦ﻫ وانهزم فيها جيش العصاة السوداني المرسل تحت إمرة عبد الرحمن ولد النجومي، فتشتتوا بعد قتل أميرهم، وكان الجيش المصري تحت قيادة سعادة السردار غرانفل باشا، وفي هذا القبر دُفنت جثث العساكر المصرية الذين استشهدوا بالميدان.
(٩-٢) قحط عظيم
وكان خبر ذلك الانكسار صدمة قوية على الدراويش في أم درمان، فعرفوا قدرهم ووقفوا عند حدهم، ولكنهم لم يكادوا يتخلصون من عواقب تلك الكسرة حتى داهمهم قحط غلت فيه أثمان الحنطة، وقلَّ الزاد واشتدت وطأة الجوع على الفقراء حتى أكلوا سيور الجلد التي يشدون بها مقاعدهم، فكثر النهب وازداد الضغط، وقد بالغ سلاتين باشا في وصف هذا الجوع وحال الجائعين، ومما حكاه قوله: «خرجت في ليلة مقمرة، وبينما أنا عائد إلى منزلي في منتصف الليل اقتربت من الأمانة (مخازن الأسلحة والذخيرة) فآنست عن بعد شبحًا يتحرك على الأرض، فدنوت منه فرأيت ثلاث نسوة عاريات (تقريبًا) وقد أرخين شعورهن مجعدة على أكتافهن وجلسن القرفصاء حول جحش صغير ملقًى على الأرض ولعله مولود حديثًا لم يكد يخرج من جوف أمه حتى سرقنه وجئن به إلى حيث لا يراهن أحد، فشققن جوفه وأخذن يلتهمن أحشاءه، والجحش المسكين لا يزال حيًّا يتنفس فلما رأيت ذلك المنظر المريع صحت بهن فنظرن إليَّ وقد حملقن بأعينهن كأنهن أصبن بجِنَّة، وكان بعض الجاعة المتسولين من الفقراء قد لحقوا بي يلتمسون حسنة، فتركوني وهمُّوا باختطاف الفريسة منهن فتركتهم وسرت في طريقي آسفًا لتلك الحال.»
وكانت وطأة الجوع في الغالب أشد على المارين بأم درمان والقادمين إليها مما بأهلها حتى اتصلت الحاجة ببعضهم إلى بيع أولادهم بيع الرقيق إنقاذًا لهم من الموت جوعًا. قال سلاتين: وكانت الجثث ملقاة في الشوارع والمنازل مئات وليس من يدفنها، فأصدر التعايشي منشورًا قال فيه: إن كل صاحب منزل مسئول بدفن الجثث التي تشاهد ملقاة قرب منزله، فقلَّت الجثث عن الشوارع ولكن بعضهم كانوا يحفرون حفرًا بقرب المنازل يدفنونها بها تخلصًا من مشقة الحمل إلى المدافن، وكانت مياه النيلين الأزرق والأبيض تجري أمام أم درمان حاملة مئات من الجثث فارق أصحابها الحياة على ضفاف النيل أو بالقرب منها، فألقوها أهلهم أو أصحابهم فيه، وخلاصة القول أن الجوع أهلك من الدراويش أضعاف ما أبادته الحروب منذ ظهور المهدي إلى ذلك اليوم، ورافق هذا الضيق جراد جارف أكل ما بقي من الزرع.
على أن التعايشي ما زال يبث دعاته في سائر الأنحاء لتأييد دعوته، وكانت بقية من خط الاستواء لا تزال على ولاء الحكومة بقيادة أمين باشا، فأنفذت ألمانيا حملة بقيادة ستانلي الرحالة الشهير لإنقاذ أمين باشا، فقاست في ذلك مشقات جسيمة تمكنت بعدها من الخروج به وببعض الحامية، فدخلت مديرية خط الاستواء بحوزة الدراويش، ولم يبقَ للحكومة من السودان المصري إلا سواكن وطوكر.
(٩-٣) خصام بين خلفاء المهدي
أشرنا غير مرة إلى النفور الواقع بين التعايشي ومحمد الشريف؛ لتناظرهما على الخلافة، فالتعايشي تولاها بإرادة المهدي، ويرى الشريف أنه أولى بها بحق القرابة، على أن هذا لولا استبداد التعايشي واحتقاره الأشراف (أقرباء المهدي) ما حدثته نفسه بسوء، ولكنه رآه لا يدع فرصة لا يحط بها من شأنه، فحقد عليه وما انفك ساعيًا في ذلك سرًّا بمساعدة ابني المهدي؛ وهما شابان لا يتجاوز عمر أحدهما عشرين سنة، وكثيرين من الأشراف، فاتحدوا سنة ١٨٨٩ وعقدوا الخناصر على خلع التعايشي والقبض على أزمَّة الحكومة، فألَّفوا لذلك جمعية سرية في أم درمان ضموا إليها جماعة من القائلين بقولهم، وكاتبوا إخوانهم الدناقلة المقيمين في الجزيرة (بين النيلين الأبيض والأزرق) يدعونهم إلى أم درمان للتضافر على ذلك العمل، فجاء منهم جمع كبير، إلا أن أحد أمراء الجعالين وشى بهم إلى التعايشي، وكان قد أقسم الأيمان المعظمة أن لا يبوح بسرهم لأحد غير إخوته وأعز أصدقائه، فأفتى لخيانته هذه بأنه يعتبر التعايشي من أعز أصدقائه، فأخذ هذا في تدبير الوسائل الفعالة لعرقلة مساعي الأشراف، وعلم هؤلاء أيضًا أن سرهم قد انكشف فأسرعوا في تنفيذ مشروعهم قبل أن يستعد التعايشي لدفعهم، فاجتمعوا في المنازل المجاورة لقبة المهدي وعاضدهم البحارة وغيرهم ممن اعتبروا تصرف التعايشي في أحكامه مخالفًا للشريعة الغرَّاء.
وكان الأشراف قد أعدوا الأسلحة وخبئوها في مكان، فأخرجوها ذات ليلة من مخابئها وفرقوها في رجالهم، ولكنها لم تكن تزيد على ١٠٠ بندقية «رمنتون» وشيء من الذخيرة وبعض المدافع، وكان زعيم تلك الحركة أحمد ولد سليمان، فقال للقوم: إن المهدي ظهر له في الرؤيا وأنبأه بفوز الأشراف، ولم يبقَ من الأشراف أحد إلا تقلد الحسام أو البندقية واستعد للقتال حتى أرامل المهدي أنفسهن؛ فقد كنَّ إلى ذلك العهد محجوزات في منازلهن لا يخرجن ولا يرين أحدًا، فخرجن تلك الليلة في جملة المطالبين، وخصوصًا «أم المؤمنين» فإنها تقلدت الحسام وتهيأت للحرب.
- (١)
أن يعفو التعايشي عفوًا عامًّا عن كل المشتركين في تلك الثورة.
- (٢)
أن يجعل لمحمد الشريف عملًا يليق بمقامه ويخلي له كرسيًّا في مجلسه.
- (٣)
أن يرجع له الرايات التي مات أمراؤها في واقعة توشكي لكي ينصبها ويجمع رجالًا تحتها.
- (٤)
أن يخصص لأقارب المهدي أموالًا تُنفق عليهم من بيت المال.
- (٥)
أن يسلم الأشراف كل سلاحهم ويطيعوا أوامر التعايشي إطاعة عمياء. فكتبت هذه الشروط وأمضاها الفريقان، وعادت الأحوال إلى الهدوء ظاهريًّا، ولكن القلوب ما فتئت على غلِّها.