ناصر الدين شاه ملك الفرس
مملكة الفرس من الممالك القديمة التي عاصرت البابليين والمصريين واليونان والرومان، وامتدت سطوتها إلى الخافقين أجيالًا متطاولة، وتوالى على سرير ملكها دول متعددة أقربها عهدًا منا الأكاسرة، بدأ حكمهم فيها في القرن الثالث للميلاد حتى استخرجها العرب من أيديهم في صدر الإسلام، وما زالت في حوزة العرب إلى سنة ١٢٥٨م فتولاها التتر إلى سنة ١٥٠٠م، فأخرجها من أيديهم رجل عربي الأصل اسمه إسماعيل، فتولاها ٢٣ سنة وسمى نفسه الشاه، ثم تولى خلفاؤه بعده وعُرِفوا بالشاهات، واشتهر بينهم أفراد امتازوا بالحكمة والشجاعة. وآخر عائلة من شاهات الفرس عائلة قاجار أولها آغا محمد خان، تولى الملك سنة ١٧٩٤ وخلفه ابن أخيه فتح علي شاه سنة ١٧٩٧ ثم محمد شاه حفيد فتح علي سنة ١٨٣٥م ثم ابنه ناصر الدين شاه الذي نحن في صدده.
وُلد رحمه الله يوم الإثنين ٦ صفر سنة ١٢٤٧ (١٦ يوليو سنة ١٨٣١)، واسم والدته البرنسس وليت، فرُبِّيَ في حجر والده وتولى في صباه ولاية أذربايجان بحياة والده وفي ١٣ أكتوبر سنة ١٨٤٨ تُوفِّي والده محمد شاه فأفضت السلطة إليه، وهو لم يكد يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، فتولى الأحكام بعقل ودراية مع ميل إلى الإصلاح ومجاراة التمدن الحديث، وكان في أوائل حكمه كثير الاعتماد على مشورة وزيره الأعظم الأمير مرزا طاغي، وكان وزيره هذا رجلًا محنكًا عاقلًا، فكانت له باع طولى في سائر الإصلاحات التي أحدثها الشاه في بلاده وعرف الشاه له ذلك فكافأه بتزويجه أخته، وتلك نعمة قلَّما نالها وزير، فحسده بعض زملائه فوشوا به إلى الشاه، فنفاه، وقالوا: بل قتله.
على أن ذلك لم يقف في سبيل أعماله فتابع الإصلاح والأحكام بحكمة وثبات، ولكن موقع بلاد إيران الجغرافي جعلها عرضة لمطامع دولتين من أعظم دول أوروبا، وهما الروسية من الشمال وإنكلترا من الشرق، فملافاةً لما يخشاه تقرَّب من فرنسا فعقد معها سنة ١٨٥٥ معاهدة صداقة وتجارة، ولما انتشبت حرب القرم التزم الحيادة.
وفي سنة ١٨٥٦ احتلت جنوده هرات، فشق ذلك على حكومة إنكلترا فجردت عليه جندًا هنديًّا في آخر سنة ١٨٥٦ واستعرت نار الحرب بضعة أشهر، وانتهت بإخلاء هرات ومعاهدة عُقدت بباريس في ٤ مارس سنة ١٨٥٧ يعود النفع بها على إنكلترا، ولم يكد يستريح من مناضلة ذلك العدو الشديد حتى ثارت عليه بعض الولايات المجاورة فحاربها وتغلب عليها وأرسل حملة إلى التركمان وعاد ظافرًا غانمًا.
فلما هدأ باله من الحروب والفتن عمد سنة ١٨٦٠ إلى الإصلاح فغير نظام الجند، وأدخل الأسلاك التلغرافية إلى بلاده، وأول سلك نصبه احتفل بنصبه بنفسه سنة ١٨٦١، وفي سنة ١٨٦٦ عقد مع إنكلترا عهدًا بشأن إنشاء المواصلات التلغرافية بين أوروبا والهند عن طريق الفرس، وأنشأ المدارس والمكاتب ونشط المشروعات الأدبية والعلمية، على أنه لم يخل من أعداء يتربصون له ويغتنمون الفرص للفتك به، ففي سنة ١٨٦٩ اكتشف على مؤامرة سعى فيها جماعة من رعيته فانتقم منهم انتقامًا جاوز به حد الرأفة، وعرَّض اسمه للوم أمام أوروبا فهاجت خواطرها ولكنها لم تحرك ساكنًا.
وفي سنة ١٨٧١ أصاب بلاد فارس قحط رافقه الهواء الأصفر والحمى فأصاب الناس جهد شديد، فبلغ عدد الذين ماتوا في أصبهان وحدها ١٦٠٠٠.
فلما زالت النكبات وعاد الخصب، عزم ناصر الدين شاه على السياحة في أوروبا فسار في ١٢ مايو سنة ١٨٧٣ من طهران شمالًا فقطع بحر قزوين إلى أستراخان ومنها إلى موسكو فبطرسبرج فألمانية فبلجيكا فإنكلترا ففرنسا فسويسرا فإيطاليا فسالسبورج ففينَّا، ثم عاد إلى إيطاليا وسار منها إلى الآستانة ومنها إلى تفليس، ومنها إلى باكو بالعربة، وعاد إلى طهران مسرعًا فوصلها في ٦ سبتمبر سنة ١٨٧٣ وشاع عند عودته أنه إنما أسرع لملافاة مؤامرة كانوا يسعون فيها لخلعه فجازى المؤامرين بعصًا من حديد.
وفي سنة ١٨٧٥ ثار الجهادية وتمردوا على الشاه حتى اضطروه لمغادرة طهران، ولكنه ما لبث أن أخمد نارهم وعاد إلى كرسيِّه، وفي سنة ١٨٧٨ ساح سياحة أخرى في روسيا، وفي سنة ١٨٨٠ ثار عليه الأكراد فأبلى فيهم بلاءً حسنًا فثابوا إلى السكون، وفي سنة ١٨٨٨ مد أول خط حديدي بين طهران وشاه عبد العظيم على أن السكك الحديدية دخلت بلاد الفرس منذ سنة ١٨٦٥ وفي أوائل سنة ١٨٨٩ خرج للسياحة في أوروبا مرة ثالثة فلاقى ترحابًا عظيمًا، وعاد في أواخرها وقضى السنين الأخيرة بالراحة والسكينة مهتمًّا في شئون مملكته وترقية شأن رعيته، وقد أخذ الإيرانيون يشتغلون في إعداد المعدات للاحتفال بالعام الخمسين لملكه ففاجأهم ذلك المصاب بمقتله بغتة.
قتله رجل معتوه في أول مايو سنة ١٨٩٦ وهو داخل مسجد عبد العظيم ليصلي فأصابت الرصاصة قلبه فمات، وأفضى الملك بعده إلى أكبر أنجاله مظفر الدين شاه.
(١) النهضة العلمية الأخيرة في بلاد الفرس
(١-١) تمهيد
اشتهر الفرس من قديم الزمان بالعلم والأدب ونبغ منهم الشعراء، والفلاسفة، والحكماء، والأطباء، يوم كانت أوروبا لا تزال محجوبة بظلمات الجاهلية. حتى إذا ظهر الإسلام ودخلت بلاد فارس في حوزته كان الفرس من أكبر العوامل الفعالة في نشأة التمدن الإسلامي.
فلما قضي على الشرق بالتقهقر في الأجيال الأخيرة أصاب بلاد فارس من ذلك ما أصاب الشام ومصر، فانغمست تلك البلاد في حمأة الجهل إلا ما كان من بقايا العلوم القديمة الذائعة على أيدي المشائخ والفقهاء وغيرهم مما لا يلائم مقتضيات العصر الجديد عصر الاختراع والاكتشاف، وتفتخر مصر ويحق لها الفخر بأنها سبقت سائر بلاد المشرق في اقتباس أنوار التمدن ثم نسج الشرقيون على منوالها.
ومما لا يحسن السكوت عنه أن الفضل الأكبر في تأسيس النهضة العلمية في الشرق سواء كان ذلك في مصر أو الشام أو فارس إنما هو للفرنساويين، وأول من غرس بذور التمدن فيه إنما هو رجلهم بل هو رجل العالم وفرد أفراده «نابليون بونابرت» حمل هذا القائد على الشرق يريد اكتساحه كما اكتسحه الإسكندر قبله، لكنه لم يأته بالعدة والسلاح فقط، بل نقل إليه بذور التمدن وأصول المعارف؛ فأرفق حملته الحربية بحملة علمية جمعت نخبة من علماء فرنسا في ذلك الحين، ولم يوفق بونابرت في فتوحه الشرقية فعاد على أعقابه وظلت تلك البذور كامنة حتى نهض من رجال الشرق من أحسن تعهدها وتربيتها فنمت، وكان منها ما كان من نهضة مصر والشام، فالنهضة الأخيرة تبدأ فيهما من آخر القرن الثامن عشر، وقد نمت وازدهرت وأثمرت على يد أرومة العائلة الخديوية المغفور له محمد علي باشا الكبير ومن خلفه من أعقابه الكرام.
أما بلاد فارس فإن الفضل في نهضتها الأخيرة للمغفور له ناصر الدين شاه.
(١-٢) أساس النهضة
تبدأ هذه النهضة سنة ١٢٧٠ﻫ/١٨٥٤م؛ لأن في هذه السنة أرسل المغفور له ناصر الدين شاه أربعين شابًّا من أدباء الفرس وأهل العصبية برئاسة حسن علي خان أمير نظام من مشاهير قواد الفرس وأهل البيوت الرفيعة. سار أولئك الشبان إلى فرنسا فتلقوا فيها العلوم الحديثة بأنواعها من الطب والرياضيات والطبيعيات، وعادوا إلى بلادهم، وعملوا على نشر تلك العلوم بإنشاء المدارس كما سيجيء.
(١-٣) المدارس
- (١)
مدرسة الطب.
- (٢)
المهندسخانة.
- (٣)
مدرسة الميكانيك.
- (٤)
مدرسة المعادن (الطبيعيات).
- (٥)
مدرسة الصنائع.
- (٦)
مدرسة المبتديان.
- (٧)
التجهيزية.
وفي تبريز مدرسة كبيرة تُعلَّم فيها اللغات الفارسية والعربية والإنكليزية والفرنساوية والروسية وسائر العلوم العصرية، وكل من المدارس المتقدم ذكرها كانت تحت رئاسة عالم فرنساوي، وأكثر أساتذتها ورؤسائها من متخرجي مدارس فرنسا.
وأسس ناصر الدين شاه في مدينة طهران فضلًا عما تقدم مدرسة سماها «دار الترجمة» أقامها في قصره وتحت رئاسته لترجمة الكتب العلمية من اللغات الإفرنجية، وكان ينفق عليها من ماله الخاص.
(١-٤) مدرسة الطب
ومما يحسن ذكره أن الطب كان قبل هذه النهضة على ثلاثة أشكال: الطب الهندي، والطب اليوناني، والطب الفارسي، وكان كل منها يُعلَّم على حدة وله قوانين خاصة. فلما أراد ناصر الدين شاه إنشاء المدرسة الطبية استقدم من فرنسا طبيبًا ماهرًا اسمه الدكتور طولوزان، كلَّفه بإنشاء مدرسة طبية كلية على مثال مدرسة باريس، وفرض على كل طالب أن يتعلم الطبين الحديث والقديم، وأمر بترجمة الكتب الطبية من الفرنساوية إلى الفارسية، واستحضر سائر المعدات الطبية من الأدوات والتماثيل ونحوها؛ بحيث يخرج الطالب منها وشهادته مقبولة في سائر الممالك كأنها معطاة من أكبر مدارس فرنسا، وقد تُوفِّي مؤسسها الدكتور طولوزان وخلفه غيره، ونبغ من هذه المدرسة جماعة من الأطباء نذكر منهم الدكتور ميرزا علي خان، والميرزا محمد خان، وزين العابدين خان، وغيرهم من نُطُس الأطباء.
ولما تولى جلالة مظفر الدين شاه سنة ١٨٨٦ سار على خطوات المرحوم والده فنشط العلم ووسع الساعين في إنشاء المدارس، فأنشئ منها تحت رعايته ست عشرة مدرسة، بعضها في طهران والبعض الآخر في تبريز وبوشهر وغيرهما، ثم شُغلت الأمة بالقيام على الشاه المذكور التماسًا للدستور حتى أفضى الأمر إلى خلعه سنة ١٩٠٩ وتولية أحمد شاه الحالي.
(١-٥) المطابع
يظهر أن المطابع في إيران أقدم من المدارس الحديثة فيها، وأول مطبعة أنشئت في تبريز سنة ١٢٤٠ﻫ/١٨٢٥م سعى في إنشائها عباس ميرزا ولي عهد فتح علي شاه ملك الفرس يومئذ؛ فإنه استدعى اثنين من فحول العلماء، وهما: ميراز صالح شيرازي، وميرزا محمد جعفر التبريزي الشهير بأمير، وأرسلهما إلى موسكو وبطرسبرج فاستحضرا ١٤ آلة طباعة من الطراز القديم (مكبس) تطبع على الحجر (ليتوغراف) وأسسا دار الطباعة في تبريز باسم الحكومة، وبعد بضع سنين تنازلت لهما الحكومة عنها. ثم أنشئت في طهران مطبعة حروف (تيبوغراف) وأول كتاب طُبع فيها القرآن الشريف، ولكن هذه الحروف لم يطل استعمالها أكثر من بضع وعشرين سنة فأُهملت وانتشرت المطابع الحجرية في طهران وخراسان وشيراز، ثم عادوا منذ بضع سنين فأنشئوا مطبعة حروف في تبريز تسمى «مطبعة سركاري» سعى في إنشائها محمد علي ميرزا ولي العهد يومئذٍ، وفي تبريز وطهران فضلًا عما تقدم كثير من المطابع الأجنبية الفرنساوية والأرمنية.
(١-٦) الصحافة الفارسية
أول صحيفة فارسية ظهرت للوجود جريدة «روزنامه» صدرت في تبريز في أواسط القرن الثالث عشر للهجرة، وكانت أسبوعية، ثم جريدة «إيران» الرسمية، وجريدة «رومية» في أذربايجان، و«فرهنك» في أصبهان تحت رعاية السلطان مسعود ميراز، ظل السلطان الشقيق الأكبر للشاه السابق.
وظهرت في أيام مظفر الدين شاه جريدة «تبريز» في تبريز، و«صدى الفرس» بالفرنساوية و«اطلاع»، وشرف» (وهي جريدة مصورة و«خلاصة حوادث» يومية، و«تربيت» في طهران، ثم «شرافت» مصورة، و«ناصري»، و«احتياج»، و«أدب»، و«كمال» في تبريز، وجريدة «رومية» ظهرت في رومية باللغة الكلدانية، ولما أعيد الدستور الفارسي بالأمس ظهرت جرائد كثيرة لا محل لها هنا.
أما الصحافة الفارسية خارج إيران فأولها جريدة «اختر» (الكوكب) صدرت في الآستانة سنة ١٢٩١ (١٨٧٥م) لصاحبها آقا محمد طاهر تبريزي، ظلت تصدر إلى عام ١٣١٣ فتعطلت لضعفٍ ألمَّ بصاحبها، ثم صدرت «حكمت» في مصر القاهرة سنة ١٣١٠ وهي مجلة سياسية علمية لمنشئها زعيم الدولة الدكتور ميراز محمد مهدي خان التبريزي رئيس الحكماء، وهو من فطاحل علماء إيران، وعليه كان معتمدًا في أكثر ما ذكرناه عن النهضة الأخيرة في بلاد الفرس، ولا تزال «حكمت» تصدر بين ظهرانينا مرة كل أسبوع، ثم صدرت جريدة «كوكب ناصري» في بومباي، ثم «حبل المتين» في كلكتة من بلاد الهند سنة ١٣١٢ للسيد جلال الدين الكاساتي، ثم ظهرت جريدة «ثريا» في القاهرة سنة ١٣١٦ لمنشئها ميراز علي محمد خان، وظهرت منذ بضع سنين جريدة «جهره نما» بالإسكندرية وهي الآن تصدر في القاهرة. والفرس ميالون إلى المطالعة، وكلهم يقرءون العربية لأن تعلم هذه اللغة إلزامي في مدارسهم.
- (١)
علماء العلوم الدينية، وهم الفئة الكبرى، ومنهم الفقهاء، وكل اشتغالهم باللسان العربي مطالعةً وتأليفًا.
- (٢)
الحكماء، ويسمونهم الحكميين نسبة إلى الحكمة؛ أي الفلسفة، وهم كتار ومبتسرون ويكتبون بالعربية والفارسية.
- (٣)
علماء العلوم الحديثة، ومنهم الأطباء والمهندسون وغيرهم، وهم يعرفون العربية والفارسية والفرنساوية وغيرها.
- (٤)
الشعراء، وهم جماعة كبيرة لهم شأن عظيم عند الدولة والملة؛ لأن الشاه وأهل دولته يعظمون شأن الشعراء ويجلُّون مقامهم، ومنهم شاعر خاص يسمونه «ملك الشعراء» وآخر لولي العهد يسمونه «صدر الشعراء».
(١-٧) نظام الجند
ولا بأس من استطرادنا إلى ذكر نظام الجند الفارسي؛ لأنه من جملة مقتضيات التمدن الحديث. دخل هذا النظام سنة ١٢٢٨ﻫ/١٨١٣م، بدأ بتنظيمه فتح علي شاه، وكان قد سمع بنظام الجند الفرنساوي على ما وضعه بونابرت، فبعث إلى فرنسا استقدم أحد مشاهير قوادها ومعه عشرون ضابطًا جعلهم جميعًا تحت قيادة ابنه عباس ميراز ولي عهده، وكان يومئذٍ واليًا على أذربايجان، فدربوا الجند على نظام الجند الفرنساوي. ثم تراءى له إبداله بالنظام الإنكليزي، وسمي الجندي «سرباء» أي فادي الرأس. ثم أبدله ناصر الدين شاه بالنظام النمساوي سنة ١٢٩٢ﻫ/١٨٧٦م على أثر رحلته المشهورة إلى أوروبا، واختار لجنده ضباطًا نمساويين عقد معهم اتفاقًا على خمس سنوات، فلما قضوا تلك المدة طابت لهم الإقامة هناك فتجنسوا بالجنسية الفارسية وتوطنوا، ولا يزال هذا نظام جند فارس إلى اليوم.