تسي هي إمبراطورة الصين
(١) حداثتها
هي من أصل منشوي، والمنشو قبيلة نزحت إلى الصين منذ قرنين ونصف ومنها العائلة المالكة، وكان والد «تسي» في أول أمره في سعة، ثم نُكب فخسر ماله، وسيق منكسر الخاطر إلى «كانتون» فأقام فيها ومعه امرأته وابنته «تسي» هذه وابن آخر، ورُبِّيت تسي قوية البنية، نشيطة سريعة الحركة؛ لأن النتولا يحبسون أقدامهم في أحذية الحديد كما يفعل سائر أهل الصين، ولعلها اشتغلت في حداثتها بجمع العيدان من الطرق والدروب وقودًا لبيت والدها.
نزح والدها إلى كانتون سنة ١٨٣٨ وسن ابنته أربع سنوات، فكان ذلك قبل حرب الأفيون التي أذلت إمبراطور الصين، وكسرت نفوس الصينيين، وكان والد تسي يغالب الفقر والفقر يغلبه، فلم يرَ له مخرجًا منه إلا ببيع ابنته، والصينيون إذا أصابهم فقر فرَّجوا ضيقهم ببيع بناتهم، وهم يرون في ذلك حكمة؛ لأن الفتاة إذا بيعت أمنت الجوع وخصوصًا إذا كانت جميلة وينتفع أهلها بثمنها، ويقال إن فتاتنا هي التي اقترحت على والدها أن يبيعها فأبى عليها ذلك في بادئ الرأي؛ لأنه منشوي من أهل الشمال، وبيع البنات شائع بالأكثر بين الصينيين الأصليين في ولايات الجنوب، ولكن الجوع اضطره بعد ذلك إلى بيعها فاشتراها تاجر أُعجِبَ بذكائها ونباهتها، ومن غرائب الأمور أنها تعلمت القراءة والكتابة قبل الثامنة من عمرها بمجرد رغبتها، مع صعوبة ذلك في الصين يومئذٍ حتى على الرجال، وأغرب من ذلك أن بعض كتبة الإنكليز يدعيها لأَمَتِهِ فيزعم أن فيها دمًا إنكليزيًّا، وهو من غرائب الادعاء.
(٢) زواجها بالإمبراطور
ولما بلغت «تسي» بضع عشرة سنة أصبحت في بيت سيدها كإحدى بناته، واتفق لإمبراطور الصين يومئذٍ «هيان فونغ» أن زوجته لم تلد له أولادًا فأعلن رغبته في فتاة يقع اختياره عليها فيتزوجها التماسًا للنسل، وعيَّن يومًا تحضر فيه الفتيات اللواتي يطمعن في ذلك النصيب، على أن يكون سنهن بين ١٤ و١٨ سنة وأن يكون حضورهن في قصر الإمبراطور في بكين.
قالوا: وكانت «تسي» مارَّة في بعض الشوارع فقرأت منشور الإمبراطور على بعض الجدران، فوجدت سنها يساعدها على ذلك مع كونها منشوية، فخطر لها أن تعرض نفسها في جملة العارضات، وأكبرت ذلك في بادئ الأمر، ولكنها عوَّلت على التجربة فاستشارت سيدها فاستغرب جرأتها، ولكنها أقنعته فسلم وادَّعى أنها ابنته لعله يصيب خيرًا بنجاحها.
وجاء يوم الاستعراض فبلغ عدد المعروضات بضعة آلاف فتاة حاز السبق منهن عشرٌ وفيهن «تسي»، ولما عُرضن على الإمبراطور اختارها هي من بينهن فتزوجها وسنها ١٧ سنة فولدت له بعد ثلاث سنوات ولدًا ذكرًا هو ولي عهد المملكة سموه «تونغ تشي».
وليس من الغريب في بلادٍ لجمال النساء سلطانٌ على قلوب ملوكها أن تنال المرأة حظوة في عيني الملك، ولكن الغريب أن هذه الفتاة مع صغر سنها وأنها دخلت على البلاط الإمبراطوري وفيه إمبراطورة قبلها، تمكنت بحسن سياستها ولطافة أسلوبها أن تجتذب قلب ضرتها وقلوب سائر أهل البلاط، وكانت منذ دخلت ذلك القصر تُظهر اللطف والأنس لرفيقتها الإمبراطورة، فلما صارت أم ولي العهد لم تغير شيئًا من ذلك.
(٣) الإمبراطور الجديد
وظلت الأحوال في استكانة ووفاق حتى كانت الحوادث المشومة على الصين سنة ١٨٦٠، يوم أغار عليها الإنكليز والفرنساويون يدًا واحدة، فهدموا حصون طاكو وحملوا على بكين، ففر الإمبراطور بامرأتيه وابنه وعمره ست سنوات إلى قصر له يسكنه في أزمنة الصيد في مكان يقال له: «ياهو». أما المهاجمون ففتكوا بالمدينة وأحرقوا قصر الصيف.
وفي السنة التالية تُوفِّي هيان فونغ وولي عهده لا يزال في السابعة من عمره، فعهد بالحكومة قبل موته إلى مجلسٍ أعضاؤه أميران من العائلة المالكة، ووزيره «لونغ تشي» وترك العناية بأمر الغلام إلى الإمبراطورتين، واختص الإمبراطورة الأولى بعهد مختوم دفعه إليها وفيه تفويض تام في أمر الغلام وتربيته، ولكنها كتمت ذلك التماسًا للوفاق بينها وبين ضرتها. قال الكاتب: «وهذه أول مرة اتفقت فيها سارة وهاجر».
وما لبثت «تسي» أن رأت نفسها إمبراطورة بالاسم فقط وأن الأحكام صائرة إلى قبضة مجلس الوصاية، فأغرت البرنس «كونغ» أخا الإمبراطور المتوفى على مشاركتها في التخلص من ذلك المجلس، فوافقها واتهمهم بتقصير ارتكبوه في جنازة الإمبراطور فقبض عليهم وقتلهم، فخلا الجو للإمبراطورتين في البلاط الملوكي، واستبد البرنس «كونغ» في إدارة شئون المملكة.
مضى على ذلك ثلاث سنوات والبرنس كونغ عمل على رد ما فقدته الصين بالحروب الماضية والثورات المتوالية، فشاع في المملكة أنه الفاعل لما يريد، فخافت «تسي» أن يجره ذلك إلى الاستبداد بالأمر دونها، فأصدرت في ٢ أفريل سنة ١٨٦٥ أمرًا بإغلال يديه عن مصالح الحكومة؛ لأنه تعدى الحد الذي وُضع له، فأطاع واعتزل، ولكن المملكة لم تكن تستغني عنه فأعادوه بعد خمسة أسابيع إلى كل ما كان فيه إلا رئاسة المجلس.
وفي سنة ١٨٧٢ أرشد الإمبراطور وآن زواجه فأخذت والدته على نفسها أن تختار له زوجة، فأعلنت غرضها، وتقاطرت الفتيات من أنحاء المملكة يعرضن جمالهن وفي يد كل منهن لوح فيه اسمها وسنها، فإذا مرت بين يدي الإمبراطورة دفعت اللوح إليها، فإذا وقعت منها موقعًا حسنًا سألتها بعض الأسئلة وإلا أمرت لها بحذاء من الفضة وزنه أوقية وخلَّت سبيلها.
فالفتيات اللواتي لم يأخذن تلك الهدية مررن ثانية، فاللواتي أُخرجن منهن هذه المرة أُعطين لفة من الحرير، وفي المرة الثالثة عينت الفتاة التي وقع اختيارها عليها، واسمها «ألوتى»، وهي جميلة عاقلة، وقبل الزواج بثلاثة أيام أرسل الإمبراطور العريس إلى عروسه حُلَّة الملك، ثم بعث إليها أمرًا بتسميتها إمبراطورة، وزُفت إليه باحتفال لم يسبق له مثيل، مشى فيه الأمراء واستقبلتها حماتها «تسي» في القصر الإمبراطوري بكل رعاية وإكرام.
وكانت «تسي» بعد ذلك لا تظهر لأحد من الوزراء، ولا يراها أحد من الناس، ولكنها كانت تستطلع حركاتهم وتتبع خطواتهم من وراء الحجاب، ولم تظهر للوزراء وجهًا لوجه إلا بعد أن أدركت العام الستين من عمرها.
وكان البرنس كونغ بعد ما آنسه من حرج مركزه قد احتال في الإيقاع ما بين الإمبراطورتين فلم يفز، وما زالتا في وفاق معًا حتى أرشد الإمبراطور الجديد، وتولى عرش الصين فافترقتا على وفاق، فسكنت «تسي» في جناح القصر الغربي وضرتها في الجناح الشرقي، وسُميت الأولى الإمبراطورة الغربية، والثانية الإمبراطورة الشرقية.
وأقامتا في سلام إلى سنة ١٨٧٣ على رواية مراسل كتب إلى بعض الجرائد عام ١٨٨٨ قال: «بعثت الإمبراطورة الشرقية إلى رصيفتها تطلب إليها الاجتماع في بعض شرفات القصر فاجتمعتا، وبعد السلام والكلام صرحت هذه الإمبراطورة أن من بواعث ذلك الاجتماع أن المهمة التي اجتمعنا لأجلها قد انقضت، وآن زمن الافتراق، وأنها تود من صميم فؤادها أن تتخلص من ثقل التبعة بعد أن وفقتا إلى التضافر على العمل كل ذلك الزمن الطويل بوفاق تام لخير المملكة ومصلحة الإمبراطور الصغير، وأشارت إلى التفويض الشرعي الذي بيدها من زوجها المتوفى، ولم تكن ذكرته قبل ذلك الحين، فاستخرجته حينئذٍ، وأطلعت رفيقتها عليه ثم أحرقته، وهي تقول: «لم يبقَ له نفع الآن.» فأثر ذلك الفصل المدهش في «تسي» تأثيرًا شديدًا، وأبغضت ضرتها من ذلك اليوم.
هذا ما رواه المكاتب، ولكن يظهر أنهما ظلتا في وفاق مدة أخرى؛ ففي سنة ١٨٧٤ أمر الإمبراطور بخلع البرنس كونغ وابنه لأنهما فاها بما لا يليق، ولكن كونغ عاد إلى منصبه في اليوم التالي بأمر الإمبراطورتين، وما زال فيه إلى سنة ١٨٨٤ حتى عزلته الإمبراطورة «تسي» نفسها.
(٤) إمبراطور ثالث
أما الإمبراطور تونغ تشي فإنه مات سنة ١٨٧٥ وترك زوجته «ألوتى» حاملًا، فاتفقت الإمبراطورتان ثانية على العمل، وكان لا بد لهما من انتظار الولادة ليريا إذا كان المولود ذكرًا أو أنثى، فإذا كان ذكرا كانت والدته هي الوصية على الملك ولا يبقى لحماتها وضرتها ذِكْر، وإذا كان أنثى قضت شرائع الصين بأن تتبنى الوالدة صبيًّا باسم الإمبراطور وتكون مع ذلك هي الوصية عليه.
فرأت «تسي» أنها فاقدة نفوذها في الحالين، فاتفقت مع رصيفتها والبرنس كونغ على حيلة أخرى، وذلك أنهم قبل أن تلد الحامل تبنَّوا ولدًا سنُّه أربع سنوات، هو ابن «تشون» أصغر إخوة الإمبراطور «هيان فونغ» فأصبحت «ألوتى» في زاوية النسيان، وعادت «تسي» ورفيقتها إلى الوصاية مرة أخرى، فبسطتا أيديهما في الحكومة واستبدتا في أعمال المملكة ومعهما البرنس كونغ.
وعهدتا بتربية الغلام وتثقيفه إلى رجل مشهور بالتعقل والصلاح اسمه «ونغ تونغ شو» وهو الذي غرس فيه الميل إلى قبول الآراء الحديثة، ويقال إن الغلام شب وفيه انعطاف إلى الإمبراطورة الأولى أكثر مما إلى «تسي». ولكن القضاء فصل بينهما، فماتت تلك سنة ١٨٨١، وخلا الجو لتسي، وما زال كونغ على الحكومة إلى سنة ١٨٨٤ فعزلته، وولَّت مكانه البرنس «تشون» والد الإمبراطور الغلام، ولم يكن تشون كفئًا لذلك المنصب العظيم، ولكنها استخدمته آلة، واستعانت في إدارة شئون المملكة بالرجل السياسي الصيني الشهير لي هنغ تشانغ، وفي سنة ١٨٨٨ آن وقت انتخاب عروس للإمبراطور الجديد، فاستعرضت البنات واختارت له فتاة اسمها «تيت هونالا» ابنة أحد رجال الحكومة.
وفي سنة ١٨٨٩ جلس الإمبراطور الجديد على كرسي المملكة وسمي «كوانغ سو»، والصين أرقى حالًا مما كانت عليه يوم تولاها سلفه، وكانت تسي قد شعرت قبل جلوسه أن النفوذ ذاهب منها، فأرادت حفظ حقوقها فكتبت عهدًا اشترطت لنفسها فيه بعض الحقوق في السلطة، وطلبت إلى الإمبراطور أن يمضيه قبل أن يتولى، فأمضاه، فلما تولى أنكر ذلك عليها فاعتبرت إنكاره خيانة، ونشأ النزاع بينهما من ذلك الحين.
(٥) الإمبراطور كوانغ سو
كان هذا الإمبراطور في حداثته ميَّالًا إلى الصناعة اليدوية والآلات الميكانيكية مع ميل قليل إلى الدروس والمطالعة، ولما تولى الملك أظهر من الجلَد على العمل ما يندر مثله في الملوك بالنظر إلى صغر سنه؛ فإنه ينهض من فراشه الساعة ٣ ونصف بعد نصف الليل فيتناول فطورًا خفيفًا، ويستقبل وزراءه من الساعة الرابعة إلى الساعة السادسة، ثم يخرج لإقامة الشعائر الدينية، ويتناول غذاءه الساعة الحادية عشرة، ويتعشى في العصر ويذهب إلى الفراش باكرًا جدًّا.
وهو نحيف البدن، أصفر اللون مع اسمرار، لوزيُّ العينين أسودهما، مرتفع الجبهة منتظمها، مقوَّس الحاجبين، لطيف الفم بارز الذقن، إذا ابتسم ظهرت أسنانه صفراء مستطيلة غير منتظمة، تلوح على وجهه النباهة يخالطها بعض السويداء، ولعل ذلك ناتج عن انقطاعه إلى العمل الشاق مع تحمله التبعة الكبرى في هذا المنصب العظيم، وكان اعتماده الأكبر على وزيره لي هنغ تشانغ، وكل ما تم من المشروعات المفيدة على يده إنما تم برأي هذا الوزير العظيم.
وفي عام ١٨٩٦ ظهر شاب اسمه «كانغ يومي» كان أستاذًا في كانتون، وكان مغرما بتاريخ بطرس الأكبر قيصر الروس الشهير، فحدثته نفسه أن يصلح الصين كما أصلح بطرس الأكبر روسيا، فرفع إلى الإمبراطور تقريرًا في الإصلاح اللازم لمملكته حرَّضه فيه على نقض عوائد أسلافه وتقاليدهم، وأن يتبع خطوات جيرانه اليابانيين والروسيين في التماس التمدن الحديث، وأن يجمع وزراءه ورجال حكومته إلى الهيكل الذي يصلون فيه ويأخذ عليهم المواثيق والعهود المقدسة بأن يجروا الإصلاح في المملكة، وأن ينقح قوانين الإدارة ويفتح لرعيته سبيلًا يرفعون به ظلاماتهم إليه رأسًا، وأن يختار لحكومته شبانًا أذكياء نشيطين بقطع النظر عن حالهم في دنياهم أو أنسابهم، وأن يُنشِئ ١٢ إدارة كسائر الممالك المتمدنة، وبسط له كيفيات الحكومة ووضع الضرائب وغير ذلك مما يطول شرحه.
ودفع هذا التقرير أولًا إلى أحد الوزراء، فكان جوابه: «وكيف نغير تقاليد أسلافنا وعاداتهم»، أما الإمبراطور فأعجب بما فيه وعول على العمل به وشرع في تنفيذ ذلك سريعًا، ولكنه لسوء حظه لم يكن له ما كان لبطرس الأكبر من القوة والمنعة، وكان في جملة مساعيه أنه أبعد الإمبراطورة «تسي» إلى جزيرة في ساحة القصر، فلما هاج الشعب من صدمة تلك الإصلاحات خابروا الإمبراطورة واتفقوا معها على محاصرة القصر، فحاصروه ثم دخلته «تسي»، وأصدرت سنة ١٨٩٨ أمرًا بإمضاء الإمبراطور يعترف فيه أنه بالنظر لعجزه عن إدارة شئون المملكة قد كلف الإمبراطورة «تسي» أن تنوب عنه فيها، فعادت إلى ولاية الأحكام، وفرَّ رجال الإصلاح وفي مقدمتهم «كانغ يومي»، وظل كوانغ سو محصورًا في قصره تصدر الأوامر باسمه وهو لا يعلم بها. أما نصراء الإصلاح فإنهم طافوا في أنحاء المملكة يطعنون في الإمبراطورة واستبدادها، فشق ذلك عليها فأمرت بإعدامهم ووعدت من يأتي برأس زعيمهم «كانغ يومي» بجائزة كبرى.
وقد يخيل للقارئ مما قدمناه أن هذه المرأة مفطورة على الأذى أو أنها وحش بصورة إنسان، ولكن بعض الذين قابلوها ودرسوا أخلاقها يقولون فيها ما يخالف ذلك، ومنهم كاتب إنكليزي قال في عرض كلامه عن فظائعها في القصر الإمبراطوري: «ولكنها بالنظر إلى العالم الخارجي لا تقل شيئًا في أخلاقها وسجاياها عن الملكة فيكتوريا.» وهو إطناب كبير وخصوصًا من رجل إنكليزي، وذكروا لها حسنات أخرى، على أن بعضهم عدَّد سيئاتها وبالغ في فظاعتها حتى لم نعد نعرف الحقيقة، والظاهر أنها جمعت إلى قوة العقل كثرة المطامع، والله أعلم.