الأمير عبد القادر الجزائري
وقد بذل قصارى جهده في تثقيفه لما آنس فيه من الذكاء والدراية، حتى إنه تمكن بمدة قصيرة من اكتساب جانب عظيم من العلم وحفظ القرآن الشريف حفظًا جيدًا، واشتهر في السابعة عشرة من عمره بشدة البأس، وقوة البدن، والفروسية، حتى كان يشار إليه بالبنان بين الفرسان لمهارته في ركوب الخيل واللعب على ظهورها، وكان يطارد الخنزير البري في الغابات ويصطاده، على أن ذلك لم يشغله عن القيام بواجباته الدينية.
وفي نوفمبر من سنة ١٨٢٥ صحب والده إلى الحرمين لأداء فريضة الحج فمرَّا بحاشيتهما بالإسكندرية، وزارا القاهرة وفيها المغفور له محمد علي باشا فأكرمهما، ومن القاهرة قصدا الحجاز عن طريق السويس، وعرجا بعد الحج نحو دمشق قضيا فيها زمنًا، وسارا منها إلى بغداد لزيارة مقام سيدي عبد القادر الكيلاني فنالا كل رعاية وإكرام، ثم عادا من هناك إلى الحرمين ثانية ومنها إلى وطنهما، فوصلاه في أوائل عام ١٨٢٨.
ولم يزدد عبد القادر بعد هذا السفر إلا شغفًا في العلم، فاعتزل لتحصيله ولازم الخلوة يطالع كتب العلم والفلسفة، فدرس رسائل أفلاطون، وفيثاغورس، وأرسططاليس، وتعمق في درس الفقه، والحديث، والجغرافية، والفلك، والتاريخ، وكتب العقاقير، وجمع مكتبة من أثمن مكاتب تلك الأيام.
وفي عام ١٨٣٠ استولى الفرنساويون على الجزائر، ونشروا المنشورات الرسمية بامتلاك البلاد واستخراجها من أيدي العثمانيين، فشق ذلك على القبائل العربية القاطنة في تلك الأنحاء وانتفضوا على الفرنساويين، وكان الفرنساويون تحت قيادة الجنرال برمونت وقد بلغوا جبل الأطلس فاضطروا للتقهقر إلى الشطوط، وأخذوا في تحصينها، ثم عادوا فاستولوا على مدينة وهران.
وتسبب عن تداخل الفرنساويين وخروج جانب من تلك البلاد من حوزة الدولة العليَّة اختلال الأحوال، فسادت الفوضى واجتمع المرابطون ورؤساء القبائل وفي جملتهم الأمير محيي الدين والد صاحب الترجمة، وتشاوروا في الأمر فقرَّ رأيهم على الانضمام إلى سلطان مراكش مولاي عبد الرحمن، فبعثوا إليه بذلك فوافقهم فدخلت الجزائر في سلطانه وخطب الجزائريون له وبايعوه، فغضب الفرنساويون وبعثوا إلى مولاي عبد الرحمن يهددونه بالحرب أو يسحب جنوده من الجزائر، ففضَّل الانسحاب فاجتمع كبار أهل الجزائر وتفاوضوا في أمرهم فقرَّ رأيهم على أن يقيموا عليهم الأمير محيي الدين سلطانًا يرجعون إليه، فذهبوا إلى القيطة (بلدته) وطلبوا إليه قبول اقتراحهم وأرادوا مبايعته فأمسك عن الإجابة، فأصروا عليه وهددوه بالقتل إذا تمنع، فأجابهم على أن تكون تلك السلطة لولده عبد القادر فقبلوا، وكان عبد القادر يحارب الفرنساويين في مكان يقال له: (حصن فيليب) فبعثوا إليه وبايعوه وسنُّه إذ ذاك ٢٥ سنة فذهب إلى الجامع وصلى وحث الناس على الطاعة والسير بمقتضى الشرع الشريف والاقتداء بالخلفاء الراشدين، وأول شيء باشره جمع كلمة القبائل وضمها بعضها إلى بعض حتى يقووا على مقاومة العدو الأجنبي وإخراجه من بلادهم، وحارب بهم عدة مواقع فاز في بعضها ولا سيما في موقعة وهران، فإنه انتصر فيها انتصارًا مبينًا، وكانت الجنود الفرنساوية تحت قيادة الجنرال ميشيل، فصار يهابه الفرنساويون ويخشون بطشه.
وكانت فرنسا على رغبتها في التفرد بسلطتها في الجزائر لا تحب المخاطرة بحملة كبيرة من جندها تقهر عبد القادر، فأوعزت إلى الجنرال ميشيل أن يعقد معه معاهدة صلح فخابره بذلك وتمت المعاهدة سنة ١٨٣٤.
ولما هدأت الأحوال تفرغ عبد القادر لإصلاح شئون داخلية بلاده، وإعداد المعدات الحربية لاعتقاده أن الحرب لا بد من العود إليها، فأنشأ معامل لعمل الأسلحة وصب المدافع واصطناع البارود، ونظم الجند، فاضطر من أجل كل ذلك للنفقات الطائلة، فطالب القبائل بالزكاة عن المواشي فانتقض عليه بعضهم، ولكنه تمكَّن بحسن درايته من إخضاعهم ولَمِّ شعثهم، فاتسعت سلطته وامتد نفوذه، فشق ذلك على الجنرال دي أورلين القائد الفرنساوي إذ ذاك، فبعث إليه أن يلازم حدوده ولا يمد يده إلى خارج وهران، فأجابه أن دائرة سلطانه غير محدودة بمقتضى المعاهدة المار ذكرها، فدارت المداولة بين الفريقين بالمسالمة، ولكن مطالب عبد القادر لم تحز قبولا لدى الفرنساويين، فأضمر لهم الشر وأمر بعض القبائل المقيمة بجوار وهران أن تنزح إلى داخل البلاد، فخاف هؤلاء بطش الفرنساوية وطلبوا حمايتهم، فطلب الأمير إلى الفرنساويين أن لا يحموهم فاستاءوا وأشهروا عليه القتال، وساروا في خمسة آلاف ماشٍ وعدة من الفرسان وبعض المدافع، ولكنهم رأوا من رجاله ما اضطرهم إلى الانسحاب حالًا، فعلم الأمير بجهة انسحابهم فسار لملاقاتهم في مضيق وهم لا يعلمون، فلما بلغوا المضيق هجم عليهم برجاله فأبلوا فيهم، ولم يُبقوا إلا على نفر منهم.
وكان لهذه الغلبة رنَّة في باريس، وقام الخطباء يحثون الحكومة على إرسال القوات اللازمة لقتال ذلك الأمير البدوي وقهره، وكان عبد القادر يعرف كل ما يدور في باريس من هذا القبيل؛ لأنه كان يطَّلِع على الجرائد الفرنساوية بواسطة تراجمة يحسنون فهمها، فكان على بينة من مقاصد عدوه.
وفي نوفمبر سنة ١٨٣٥ قدمت الجنود الفرنساوية إلى وهران لمحاربته فقاتلهم، ولكنه لم يفز فتفرق رجاله فعاد إلى عاصمته (مسكرا)، ونزل في بلد على مقربة منها وهو في حالة اليأس الشديد؛ خوفًا من نهوض الفرنساويين عليه، وكانوا معسكرين في مسكرا، فأصبح يومًا وقد أخلوها لغير سبب يعلمه، فعاد هو إليها ونزلها فعاد إليه رجاله واشتد أزره وأخذ في مُقاصَّة الذين عصوه.
أما الفرنساويون فاحتلوا تلمسان فلاقاهم أهلها بالترحاب، ولكنهم ضربوا على يهودها ضريبة كبيرة اعتذروا عن دفعها، فأجبروهم فندم هؤلاء على التسليم وصاروا يودون العود إلى عبد القادر، وكان ذلك مما شدد عزم الأمير فجاء وطارد الفرنساويين وأخرجهم من تلمسان.
فغضب الفرنساويون في باريس فبعثوا بالنجدات القوية فحاربها عبد القادر مرارًا، ولكنه انكسر في واقعة منها انكسارًا رديئًا انتقض من أجله العرب عليه، وفي جملة المنتقضين قاضٍ يقال له: «سيدي إبراهيم» كان في نيته خلع عبد القادر والاستيلاء مكانه، فحمي غضب الأمير لتلك الخيانة فجرد سيفه وعلقه بسرج جواده وركب، وأقسم إنه لا يغمد ذلك السيف حتى يقطع رأس ذلك الخائن، فلما بلغ منزله أمر بإحضاره، فأحضروه وهو يرتعش فضربه ضربة قطعت رأسه، فكان لذلك وقع عظيم في قلوب رجال عبد القادر، فاجتمعوا إليه، واستهانوا بالموت في سبيله، فحمل بهم على مواقع الفرنساويين وضايقهم مضايقة عظيمة حتى قلَّت المؤن لديهم، وقلَّت الذخائر لديه.
فدارت المخابرة بين الفريقين في أن يتبادلوا التجارة فيبتاع كلٌّ من الفريقين ما يحتاج إليه، وتم الاتفاق على ذلك وهدأت الأحوال.
- (١)
اعتراف عبد القادر بسيادة فرنسا.
- (٢)
تحديد مملكته إلى نهر الخليف.
- (٣)
أداؤه الجزية لفرنسا.
فعظمت هذه المطالب على عبد القادر، وأجاب أنه لا يحق لفرنسا أن تشترط هذه الشروط وهي ليست المنتصرة في مواقع الحرب معه، وهددها، فشق ذلك على الفرنساويين ولكنهم فضلوا الصلح على الحرب لعلمهم أن عدوهم عنيد باسل.
وبعد المخابرات والأخذ والرد، رأى بوجيد أن الحرب أولى له لأنه لم يستطع التوصل إلى وفاق موافق لدولته، فعرض عساكره فإذا هم لا يستطيعون مناوأة عدوهم فاستأنف المخابرة بشأن الصلح، وطال الجدال بشأنه حتى تم القرار عليه في ٢٠ أيار سنة ١٨٣٧ فعقدت المعاهدة المعروفة بمعاهدة «التافنا»، وفي جملة بنودها أن لا يسلم الأمير شيئًا من شواطئ بلاده لدولة أجنبية إلا بعد مشورة فرنسا، وأن يكون لكل من الأمير وفرنسا قناصل في بلاد الآخر.
ولما ارتاح الأمير من قبيل المعاهدة، وجه انتباهه إلى إصلاح الداخلية وتنظيم مملكته، والاستعداد للحرب؛ لأنه علم لحسن فراسته أن الحرب لا بد من استئنافها، فعصاه بعض القبائل فأخضعهم بالسيف وحسن الدراية، وكان الفرنساويون ينصرونه عند الحاجة، وفي جملة القبائل التي أقلقت راحته بعصيانها قبيلة أرارق، ولكنه ما انفك حتى أذلها وأدخلها تحت لوائه.
ثم ابتنى مدينة دعاها «تقدمة» وجعلها مركزًا تجاريًّا، وأنشأ كثيرًا من المعاقل، ونظم جيشًا على النمط الإفرنجي الحديث تحت قيادة قواد أوربيين، وأنشأ معامل للمدافع والأسلحة في تلمسان وغيرها، واستخرج المعادن ونشط الصناعة والزراعة والتجارة، وأخذ بناصر العلم فافتتح المدارس حتى في الأحياء الصغيرة، وكان في عزمه إنشاء مدرسة جامعية في تقدمة تجمع بين العلوم الدينية الإسلامية والعلوم الحديثة، وضرب نقودًا فضية ونحاسية نقش على أحد وجهيها: «هذه مشيئة الله وعليه توكلت»، وعلى الوجه الآخر: «ضُرب في تقدمة السلطان عبد القادر»، وكان شديد السهر والتيقظ على مصالح بلاده حتى كان يتفقدها بنفسه.
ولكن الأقدار لم تسمح باستمرار الأمن؛ لأن الفرنساويين بعد أن استولوا على قسطنطينة أرادوا مد سلطتهم على البلاد الواقعة بجوارها، وكانت في حوزة الأمير فعارضهم بدعوى أن معاهدة التافنا تقضي له بها، فأصروا على عزمهم، وأنكروا عليه الأمر بتحريف كلمة من كلمات المعاهدة، فاستأنف أمره إلى باريس فلم تنصفه الحكومة الفرنساوية، فأخذ على نفسه الدفاع بالقوة، وحصَّن الأماكن التي عليها الخلاف، وبعث إلى قائد الحملة الفرنساوية، وإلى المسيو تيرس وزير فرنسا الشهير إذ ذاك ينذرهم بأن الإصرار على طلبهم لا يفيدهم إلا سفك الدماء فلم يعبئوا بتهديده، ولكنهم قوَّوا جندهم وأخذوا يتظاهرون بالتأهب للحرب ظنًّا منهم أنه يخاف عَدَدهم وعُدَدهم فيذعن بدون حرب، وكان الأمر بالعكس؛ فإنه ثبت على عزمه حتى انتشبت الحرب وتقهقر الفرنساويون إلى الشطوط.
فعظم الأمر على الحكومة الفرنساوية، وبعثت بالنجدات القوية، فاشتد أزر الفرنساويين وقاتلوا الأمير بجوار جبال الأطلس وتغلبوا عليه، وكان جنده على النظام الإفرنجي فعدل عنه إلى النظام القديم فقوي على أعدائه، وأعادهم على أعقابهم، وكان يفوز عليهم في كل موقعة، ودامت تلك الوقائع ست سنوات، فتعبت فرنسا منه وهو لم يتعب، فأبدلت قائد الحملة، وبعثت القائد القديم الجنرال بوجيد ومعه الجيوش المجيشة، ولكنه لم يثبت أمام ذلك البطل المغوار.
ولما رأى الأمير أن البلاد أصبحت برمتها ميدانًا للحرب ابتنى مدينة نقالة دعاها «الزملة» يلجأ إليها المنهزمون بنسائهم وأولادهم ويقيم فيها الصناع والعمال والخفر، فحيثما انتقل الجند انتقلت تلك المدينة معهم، وهي مؤلفة من خيم جعلها على نظام المدن، فإذا نقلت من مكان إلى آخر يعرف كل واحد خيمته، وأمر رجاله أن لا يقتلوا أسيرًا، وأجاز من يأتي بالأسير حيًّا، وعلم الفرنساويون بالزملة وبما لها من المنفعة للأمير ورجاله فاهتدوا إليها بخيانة بعضهم، وهاجموها فأحرقوا وقتلوا ونهبوا ولم يُبقوا عليها، وكانوا قبل ذلك بقليل قد أحرقوا تقدمة المدينة التي ابتناها الأمير لنفسه.
وكان الأمير في أحراج سيرسو فبلغه خبر حريق الزملة وتقدمة فتكدَّر كدرًا لا مزيد عليه؛ لعلمه أن ذلك يقلل من نفوذه ويقود رجاله إلى الفشل، ولكنه أظهر الجلَد، وقال لمن حوله: «لا تخافوا ولا تحزنوا؛ لأن إخواننا الذين قُتلوا قد مضوا إلى النعيم.» ثم نهض وجدد قوته وألَّف زملة جديدة، واستنجد حكومة إنكلترا فلم تنجده، ثم استنصر سلطان مراكش فلم ينصره، فاضطر لأن يقوم بأعماله بنفسه وهو ثابت العزم لا يثنيه شيء ولا يخيفه أمر.
ولكن فرنسا أنجدت جندها، وأغرت سلطان مراكش على معاضدتها، فاشتد الأمر على الأمير ووقع في وهدة اليأس، حتى حدَّثته نفسه بنشر راية الجهاد والمسير برجاله إلى مكة المكرمة تاركًا البلاد خرابًا لمحتليها، وفيما هو يفكر في ذلك جاءته نجدات عديدة من بعض القبائل، فاشتد عزمه وعاد إلى الحرب، حتى أصبحت الجزائر بجملتها ميدانًا للقتال، وما زالت الحال كذلك إلى نهاية سنة ١٨٤٦ فملَّ العربان وانحاز جانب منهم إلى سلطان مراكش، فاغتنم الفرنساويون تلك الفرصة وأثاروا المراكشيين وأنهضوهم على الأمير وقتاله، فبعثوا إليه جيوشًا حاربته في أماكن مختلفة، وكان الأمير يقاتل بالأمر الممكن لا تثنيه كثرة أعدائه ولا شدتهم، ولكنه استاء من خيانة سلطان مراكش فبعث إليه يذكِّره بالصداقة القديمة، فأجابه إما أن يسلم نفسه أو أن يرحل إلى براري الجزائر، فكظم الأمير على نفسه وفضَّل الاعتزال عن الناس على التسليم، فأقام على الصلاة وتلاوة القرآن الشريف.
وفي أواخر سنة ١٨٤٧ علم بقدوم المراكشيين لغزو زملته، ولم يكن فيها أكثر من خمسة آلاف، والمراكشيون يزيدون على الخمسين ألفًا، فخاف الأمير على رجاله وإن لم يكن يعرف الخوف قبلًا، فعادت إليه نخوته فهجم ليلًا بذلك الجيش القليل، وفرق شمل المراكشيين ثم عادوا واجتمعوا ثانية وهاجموه فطاردهم وظهر عليهم، ولكنه خسر جانبًا من رجاله فرأى الانسحاب أفضل له، فرجع إلى الجزائر فوصل مكانًا علم بعد وصوله إليه أن الجيش الفرنساوي على مسافة ثلاث ساعات منه، ورأى أن جيشه قد أنهكه السفر والحرب فخشي أن يقع هو وزملته في يد الفرنساوية؛ لأنه لا يستطيع الرجوع والمراكشيون من ورائه يطاردونه، ولكنه عاد فرأى أن يبذل قصارى جهده، فجمع إليه رجاله وخطب فيهم مفصحًا عما هم فيه من الضيق، وقال: «أراكم قد وفيتم بما بايعتموني عليه وبذلتم جهدكم في معاضدتي، وأما الحالة الراهنة فتقضي علينا بالتسليم للعدو، وعندي أن التسليم للفرنساوية خير من التسليم للمراكشيين، فما رأيكم؟»
فأجابوه أنهم على رأيه، فنظر إليهم فإذا هم عدة من أحسن الرجال وأشدهم، وقد رافقوه في حروبه خمس عشرة سنة، فشق عليه أن ينتهي جهاده هذا بالتسليم للعدو، ولكنه أذعن لحكم الضرورة قسرًا وهو غير خائب؛ لأنه جاهد الجهاد الحسن مدة ١٥ سنة حتى نفدت الحيلة.
وأراد ليلة ٢١ دسمبر سنة ١٨٤٧ كتابة شروط التسليم فلم يستطع؛ لتساقط الأمطار وهبوب العواصف، فبعث اثنين من خاصته دفع إليهما ختمه شاهدًا على صدق نيابتهما عنه أمام قائد المعسكر الفرنساوي الجنرال لاموريسير، فذهبا وعرضا الشروط، ومن مقتضاها أن يبارح الأمير بلاده ويسكن في الإسكندرية بمن معه من الرجال والنساء والأولاد أو في مدينة بورصة، فقبل الجنرال الشروط بدون تردد، وسُرَّ لانتهاء متاعب فرنسا في حروب هذا الأمير، وأخبر فرنسا بذلك فابتهجت باريس، وهكذا سلم الأمير ولكنهم احتفلوا به عند قدومه المعسكر احتفالًا عظيمًا.
وفي ٢٥ منه سافر الأمير بمن أراد مرافقته من رجاله وعددهم ثمانون على دارعة إلى طولون فقوبلوا بالترحاب، ثم طلبوا إليه التنازل عن اشتراطه السكني في الإسكندرية أو غيرها من المدن العثمانية، وأن يقيم في فرنسا بكل احترام وبكل ما يحتاج إليه من النفقات فأبى، ثم انقلبت حكومة فرنسا من الملكية إلى الجمهورية، وبعد أخذٍ وردٍّ أجابوه إلى ما أراد، ولكنهم اشترطوا عليه التعهد بعدم الذهاب إلى الجزائر فتعهد بذلك كتابة هو ورجاله في آذار (مارس) سنة ١٨٤٨ وبات ينتظر الأمر بالذهاب، فورد عليه الجواب على غير المراد، ومفاده أن الجمهورية تعتبره أسيرًا كما تركته الحكومة السالفة، وزجُّوه في السجن مع رجاله، فتكدَّر الأمير كدرًا لا مزيد عليه، ولكنه كان يتأسى في سجنه بالكتابة والتأليف، ورأى رجاله يتذمرون من الأسر، فألح عليهم أن يتركوه ويذهبوا لأنهم غير مكلفين باحتمال الأسر من أجله، فأبوا إلا مرافقته في السرَّاء والضَّراء، وبقوا في ذلك الأسر إلى أكتوبر سنة ١٨٥٢.
فقدر الله أن البرنس نابليون كان متجولًا في أنحاء المملكة فمرَّ بأبيس حيث كان الأمير مأسورًا فزاره ووعده بالإنقاذ، وبعد بضعة أيام أطلق سراحه، ودعاه لزيارته في باريس، فقُوبل فيها بالتجلَّة والإكرام والباريسيون مُطِلُّون من الشبابيك والكُوَى لمشاهدة الأمير البدوي الذي شغل دولة فرنسا ١٥ سنة بالحروب، ثم دعي لزيارة البرنس نابليون في قصره فسار مع أربعة من أخصائه، وكانت الحفلة حافلة فتكلم الأمير معتذرًا عن عدم معرفته العادات الجارية في فرنسا وطلب الإغضاء عما ربما يأتيه مما يخالف ذلك، وتعهد له بعدم الرجوع إلى الجزائر، فشكره البرنس، وبعد الغداء طاف به في القصر وأهداه جوادًا عربيًّا، وبالاختصار إن احتفال البرنس نابليون بالأمير عبد القادر كان عظيمًا جدًّا، وبعد مضي شهر في باريس اتفق إجماع الفرنساوية على إرجاع الإمبراطورية، فكان الأمير في جملة المنتخبين، ووقع الانتخاب على البرنس نابليون، ولما تنصب زاره وهنَّأه، فلاقى منه كل رعاية وأعطاه سيفًا مكتوبًا عليه: «من الإمبراطور نابليون الثالث إلى الأمير عبد القادر بن محيي الدين.» وفي ٢١ دسمبر سنة ١٨٥١ برح الأمير فرنسا فوصل الآستانة، فاحتفل به سفير فرنسا هناك احتفالًا شائقًا، وبعد أيام سار إلى بورصة على نية الإقامة فيها، وله نفقات معينة من فرنسا تبلغ أربعة آلاف جنيه سنويًّا تنفق عليه وعلى رجاله، ولم يطِب له المقام هناك فاستأذن بالعود إلى فرنسا، فعاد ومكث فيها مدة ثم عاد إلى بورصة قضى فيها بضعة أسابيع ريثما أعدَّ نفسه ورجاله ومتاعه وبرحها إلى بيروت فوصلها في ٢٤ يونيو (حزيران) سنة ١٨٥٦ ومنها إلى دمشق، فخرج إلى لقائه جماهير كبيرة بالاحتفاء اللائق رجالًا ونساءً حتى وصل المحل المعد لإقامته، ثم اتخذ مسكنًا له في محل يقال له: «العمارة» في دمشق، وقام فيه، وقد طابت له المعيشة في تلك المدينة الفيحاء إلى آخر أيامه؛ لما لاقى من لطف أهلها وأُنسهم، وكان يقضي معظم وقته في المطالعة والصلاة والتأليف لا يخلو مجلسه من العلماء والفضلاء.
وفي سنة ١٨٦٠ كانت الثورة المشهورة في دمشق، وهي المذبحة التي ذُبِح فيها المسيحيون، وكان الأمير من أكبر المعارضين لإجرائها، ولما نفدت حيلته في منعها أصر على بذل قصارى جهده في كف الأذى عن المسيحيين.
فلما علم يوم الإثنين في ٩ يوليو (تموز) سنة ١٨٦٠ بابتداء المذبحة تكدر جدًّا وبعث حالًا إلى كل مغربي في دمشق وفرقهم في أحياء المدينة لإنقاذ من يستطيعون إنقاذه من المسيحيين فكانوا يهجمون كالأسود بقلوب لا تهاب الموت، ورءوس قد ثارت فيها الحمية والمروءة فيأتون بمن يستطيعون إنقاذه رجالًا ونساءً وأولادًا إلى دار الأمير، ولما علم النصارى بما عزم عليه الأمير كانوا يفرون إليه من تلقاء أنفسهم ويقيمون في بيته حتى غصت داره فأخذ البيوت المجاورة له وأخلاها وأقام فيها اللائذين به وفي جملتهم قناصل الدول وغيرهم، وكان ينفق عليهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام وغيره، وممن عاضده في هذا العمل الخيري العالمان الشريفان: محمود أفندي حمزة، وأخوه أسعد أفندي، رحمهم الله أجمعين.
في ثالث يوم من المذبحة هجم الأكراد الثائرون على بيت الأمير للقبض على النصارى، فدافعهم الأمير ورجاله والشريفان بكل ما في وسعهم فعاد الأكراد خاسرين، ثم إن والي دمشق إذ ذاك وعد النصارى إذا سلموا ودخلوا القلعة أنهم يكونون فيها آمنين من القتل، فاجتمع فيها نحو من خمسة آلاف وكأنه أراد بهم الغدر بعد ذلك بجماعة من الدروز كانوا قادمين للنهب، فخرج إليهم الأمير ورجاله وهددهم بالرصاص فخافوا وكرُّوا على أعقابهم، وبقيت الثورة سبعة أيام متوالية لم يفتُر فيها الأمير لحظة عن نصرة المظلومين وإنقاذهم من القتل وتطبيب الجرحى وتعزية الثكالى والأرامل واليتامى.
وكان يقضي أكثر الليالي ساهرًا والبندقية في يده حرصًا على من هم في حماه، فإذا غلب عليه النعاس أسند رأسه إلى فمها قليلًا، وفي ١٥ يوليو سنة ١٨٦٠ جاء دمشق والٍ جديد وعزل القديم وأخذت الأحوال في الهدوء، وقد كان في حمى الأمير من النصارى يوم جاء ذلك الوالي نحو أربعة آلاف نفس وفي القلعة نحو ستة آلاف، وبعد يسير جاء فؤاد باشا لتحري المسألة ومقاصة المعتدين، وهكذا انتهت المذبحة.
أما النصارى فهم كافة مدينون لفضل هذا الرجل العظيم؛ لأنه جاء عملًا برهن على عظم نفسه ومروءته وشهامته، وقد نال جزاءه من الدول الأوربية فبعثت إليه بوسامات الشرف ورسائل الثناء وخصوصًا الدولة العليَّة أيدها الله.
ولما هدأت الأحوال عاد إلى السكينة، وعكف على المطالعة والصلاة والتدريس.
وفي سنة ١٨٦٣ استأذن الإمبراطور في الذهاب إلى الحج فأذن له، فزار الحرمين وقضى فروض الحج كما يجب، وزار الطائف والمدينة المنورة، وكان حيثما حلَّ يلاقي كل رعاية وإكرام، وفي أثناء عوده من الحجاز سنة ١٨٦٤ مرَّ بالإسكندرية وانتظم في سلك الجمعية الماسونية في ١٨ يونيو (حزيران) من تلك السنة، وبعد أيام عاد إلى دمشق، وعكف على ما اعتاده من التدين والصلاة، واشتهر بالتقوى حتى كان الصوفيون يعتبرونه مكاشفًا وينزلونه منزلة سيدي محيي الدين بن العربي والشيخ عبد الغني النابلسي، وكان له في قلوب أعيان دمشق منزلة رفيعة جدًّا، وقد كتب كتبًا في التصوف والتوحيد، ولم يترك ملابسه العربية مطلقًا، ونظرًا لمحافظته على عهوده مع نابليون كان يدعوه صديقه الباسل.
وكانت معيشته في بيته في غاية البساطة مع الترتيب، وما زال معظَّمًا مكرَّمًا محترمًا لدى كلِّ من عرفه حتى توفاه الله سنة ١٨٨٨ في منزله بدمشق، فأسف الناس عليه واستعظموا المصاب فيه وأبَّنَهُ الكُتَّاب والعلماء ورَثَتْهُ الجرائد في سائر الأقطار، رحمه الله.