علي باشا تيه دلنلي
- (١)
إيالة أشقودرا في الشمال وقصبتها مدينة اقشودرا.
- (٢)
إيالة يانيا في الجنوب وقصبتها يانيا وبلاد أميروس داخلة في حكمها.
- (٣)
روميليا في الوسط وقصبتها موباستير.
- (١)
قبيلة نجح أو العح ويقطنون في اشقود وما جاورها.
- (٢)
التوسك ويسكنون أواسط ألبانيا في لبرات والباسن غربي موناستير.
- (٣)
الليار وهم أحقر سكان ألبانيا ويقطنون الجبال بين التوسك وحدود أبيروس.
والألبانيون معروفون بقوة الأبدان، ويُضرب المثل بشدة بطشهم، ولكنهم لانقسامهم وتنازعهم فيما بينهم لم تتحد كلمتهم ولا تمكنوا من تأسيس الممالك، وما برحوا عرضة لمطامع الدول العظمى من أول عهد العمران، وكانوا مع ذلك يدافعون عن أوطانهم دفاع الأسود فلا يرضخون للسلطة إلا بعد شق الأنفس، فدخلوا أولًا في حوزة دولة اليونان حتى إذا مالت شمسها استقلوا ثم طمع فيهم البلغار فحاربهم الألبان وردوهم، فلما ظهرت الدولة العثمانية وفتحت الروملي وجهت أسنَّتها نحوهم على عهد السلطان محمد الفاتح، وكان على الألبان قائد شهير اسمه جورج كستريوت ويسميه الأتراك إسكندر بك قاد الألبانيين بمهارة وحذق فردوا الأتراك عن بلادهم، ولكنهم دخلوا في حوزة الدولة العليَّة قهرًا سنة ١٤٧٨ بعد موت إسكندر بك، ولا يزالون حتى الآن على أنهم ما انفكوا منذ أول رضوخهم للدولة يتذمرون ويتمردون فيكلفونها تجنيد الجند لقمع عصيانهم، حتى لقد كان خيرًا لها لو تخلت عنهم على أنها استخدمت بعضهم في بعض حروبها، ثم لم ينل الألبان استقلالًا بعد ذلك إلا ردحًا من الزمن على عهد علي باشا التيه دليلي صاحب الترجمة وإليك ترجمة حاله.
(١) علي باشا
وُلد هذا الرجل في بلدة دبيلين على نهر فوبوتسا بجوار جبل كليسورا بولاية موناستير، ومنها لقبه بالتركية «تبه أو دبه دلنلي» وهو من قبيلة التوسك، وكان أسلافه من أشرافها ويلقبون ببكوات دبيليني، ويتصل هذا اللقب في أعقابهم بالإرث، ولما كان حصار أهل البندقية لجزيرة كورفو سنة ١٧١٦ كان جد علي باشا إذ ذاك في جملة المدافعين عنها، فقُتل هناك فورث اللقب ابنه والد علي باشا، ويقول بعض عارفيه: إنه كان رقيق الجانب، محبًّا للسلام، ونظنه كان ضعيفًا فسطا عليه جيرانه وسلبوه أملاكه، فلا نعدُّ ذلك حبًّا منه للسلام، بل هو عجز. أما والدته فكانت عظيمة الأنفة، فلم يعجبها تصرف زوجها، وقد تُوفِّي وعليٌّ في الرابعة عشرة من العمر، فبذلت جهدها في تربيته على الخشونة وأرضعته حب الانتقام وكره الذين اختلسوا أموال والده، فشبَّ على النهب والسلب والسطو والغزو شأن أكثر شبان ألبانيا، فقضى شبابه الأول في الجبال مع زمرة من أصحابه يصادرون المارة، ويسطون على أعداء والده ويحاربونهم، حتى تمكن من استرجاع بعض أملاكه في دبيليني، ويقال إنه قتل أخاه وسجن والدته، وأن والدته لم تعش بعد سجنه إلا مدة قصيرة.
فلما استرجع أملاكه وصار بيكًا، تاقت نفسه إلى السلطة بتوسيع دائرة سلطانه، واتفق أن والي أشقودرا إذ ذاك كان متمردًا على الدولة فعرض عليٌّ على الباب العالي أن يخرج هو لتسكين الثورة، فأُذن له بذلك، فحمل عليه وقتله فكافأته الدولة بحق التمتع بكل أملاكه، وعيَّنته معاونًا لدرويند باشا الروملي، وهو لقب يسمى به حامي الطرق ومانع اللصوصية في الجبال.
ولكنه طمع بالمال وحاد عن واجباته، فكان يشارك اللصوص بسرقتهم ويطلق سراحهم، فعلمت الحكومة بذلك فاتهمت رئيسه بالأمر وحاكمته، وحكمت عليه بالإعدام. أما عليٌّ فنجا بمساعٍ خصوصية استخدم فيها الأصفر الرنان.
ثم كانت الحرب بين العثمانيين والروس سنة ١٧٨٧، وكان علي باشا في جملة القواد، فأظهر بسالة شديدة نال عليها إنعامًا عظيمًا، فتعيَّن واليًا على تريكالا من تساليا (اليونان) ودرويند الروملي في وقت واحد مع لقب باشا، فلم يمضِ زمن قصير حتى طهَّر البلاد من اللصوص بترغيبهم في الخدمة العسكرية، فأدخل في خدمته جماعة كبيرة منهم، فألف تحت لوائه جندًا كبيرًا، وكانت يانيا متمردة على الدولة فخرج عليها بجنده فأخضعها سنة ١٧٧٨ وأصلح أحوالها، فلما رأت الدولة منه ذلك ثبتته على كرسيها وسمي من ذلك الحين «والي يانيا» وهو اللقب الذي ما زال يُعرف به إلى اليوم.
فلما رأى نفسه حاكمًا وأنه توصل إلى الحكومة بعدَّتِهِ ورجاله، حدثته نفسه أن يوسع دائرة سلطانه، فجعل ينتحل أسبابًا يسطو بها على جيرانه كما فعل محمد علي باشا لما تولى مصر، وقد يرى القارئ مشابهة في ترجمة حياة هذين الرجلين من بعض الوجوه، وسنأتي على إيضاح ذلك فيما يلي.
فسطا علي باشا على حدود اليونان، ففتح غربي شماليها، وهي المقاطعة التي كانت تسمى ليفاديا، وطمع في جبال سوليوتس في الجنوب الغربي من أبيروس، وحاربهم طويلًا فلم يخضعوا فضيَّق عليهم إلى سنة ١٨٠٣ فقبلوا بإخلاء جبالهم والمهاجرة إلى جزيرة كورفو، فعاهدهم على ذلك ولكنهم لم يكادوا يخرجون حتى لقيهم رجاله وذبحوهم غدرًا.
وعلم علي باشا أن مطامعه هذه لا تسلم من عقاب الدولة إلا إذا تحصن وأكثر من العُدَّة، فاتفق سنة ١٧٩٧ أن الفرنساويين استولوا على البندقية، وكان كلما سمع ببسالتهم ونهضتهم أظهر إعجابه ولمَّح أنه يريد المسير على خطواتهم ولكنه يحتاج إلى الحصون والمعاقل، فخابر بونابرت إذ ذاك بالأمر، فبعث إليه مهندسين بنوا له حصون يانيا التي لا تزال باقية إلى هذه الغاية، فضلًا عن حصونها الطبيعية، وكان عدد سكان تلك المدينة إذ ذاك ٣٥٠٠٠ بين مسيحيين ومسلمين وبوهيميين.
ولم يمضِ قليل حتى فشل نابليون في مصر، فاغتنم علي باشا تلك الفرصة واستخرج بريفيزا عند خليج أوطا من أيدي الفرنساويين، ثم نال مصادقة السلطان على ما فتحه من البلاد، فأصبحت مملكته شاملة كل ألبانيا من الجبل الأسود إلى أبيروس، ولم تأتِ سنة ١٨١٧ حتى انضم اليها أبيروس وبعض تساليا والجزء الغربي من شمالي اليونان، وتولى أحد أولاده حكومة المورا فأصبح سلطانه واسعًا، واتضحت مطامعه لدى الباب العالي فلم ترَ الدولة طمأنينة إلا بقتله، وكان قد بلغ الثمانين من عمره، فلم تجد سبيلًا إلى ذلك وهو يتظاهر بموالاتها مع الاستعداد للدفاع، فلم تسمح العناية ببقاء دولته كما سمحت ببقاء دولة محمد علي في وادي النيل، فاتفق أن ضابطًا من جنده انتظم في جند الآستانة فغضب علي باشا، وبعث إليه من يقتله سنة ١٨٢٠ فشق ذلك على الباب العالي فبعث إلى سائر ولاة الدولة في تركيا وأوروبا أن يزحفوا عليه، فلم ينالوا منه مأربًا لمناعة يانيا بالحصون، فلم يرَ الباب العالي بُدًّا من العدول إلى السياسة، فبعث إليه خورشيد باشا أول سنة ١٨٢٢ أن يسلم فينال العفو السلطاني، فأذعن الشيخ تخلصًا من الحروب، وفي ٥ فبراير سنة ١٨٢٢ دعا خورشيد باشا عليًّا إليه ليسلمه الخط الشريف الناطق بالعفو عنه، فجاء وهو لا يدري ما نُصب له، فدخل عليه وجلسا برهة يتحادثان، ثم مد خورشيد يده فاستخرج الفرمان المؤذن بقتله ودفعه إليه، فلما رآه عليٌّ أجفل واعترض ودافع عن نفسه دفاعًا شديدًا ولكن الكثرة غلبته فقتلوه وأرسلوا رأسه إلى الآستانة، وانقضت دولته بعد حكومة بضع وثلاثين سنة.
(٢) علي باشا ومحمد علي باشا
لا يقرأ المطالع ترجمة علي باشا إلا ويتذكر سيرة رجل مصر المغفور له محمد علي باشا؛ لمشابهة بينهما في غرضهما الأساسي وهو تأسيس الدول، فقد سعى كل منهما إلى تأسيس دولة يستقل بها تمثلًا بمن سبقه أو عاصره من الرجال العظام، والمثل الأول لديهم بونابرت الذي كان معاصرًا لهم وارتقى بإقدامه وشجاعته وتدبيره من أدنى رتب الضباط إلى أسمى رتب الملوك، فكان قدوة رجال في الإقدام ومثال القواد العظام. وطبيعيٌّ أن ظهور مثل هذا الرجل ينبه أذهان معاصريه إلى الاقتداء به فضلًا عن النهضة العمومية التي نشأت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن على أثر الحروب وإشراق شمس العلوم، وما نتج عنها من الاكتشافات والاختراعات، فتحركت الهمم وثارت الأفكار، وكان ذلك بمنزلة الاحتكاك للأذهان فظهرت القوى الكامنة في الناس على اختلاف مراتبهم وأصقاعهم، فنبغ من نبغ ومات من مات عملًا بناموس الارتقاء العام.
وكان في جملة من ثارت قواهم، وظهرت مواهبهم العسكرية علي باشا في ألبانيا، ومحمد علي باشا في مصر وكلاهما من ولاة الدولة العليَّة، فسعيا سعيًا متشابهًا يلتمسان غرضًا متشابهًا، فانتهى بأحدهما إلى الانقضاء، وبالآخر إلى البقاء، فبعد أن بلغ علي باشا أوج سعده واستقلَّ تقريبًا بألبانيا وبعض ملحقاتها سقط وامَّحى أثره، وظل محمد علي باشا سائرًا في خطته، وأسس دولة يتوارث الحكومة فيها أعقابه من بعده (تحت رعاية الدولة العليَّة)، فما هي الأسباب التي قضت بزوال الدولة الأولى وبقاء الثانية؟
يلوح لنا أن السبب الأول في ذلك: اختلاف الرجلين في الأخلاق الغريزية؛ فقد كان علي باشا شجاعًا شديد البطش كبير المطامع طلَّابًا للعلى، ولكنه لم يكن عادلًا حسن السياسة لين العريكة مثل محمد علي؛ يدلُّك على ذلك معاملته لأهالي سوليوتس المتقدم ذكرهم، وفتكه بأهل كارديكي من ولايته، وذلك أنه علم بأن بعضهم ذكر والدته بالسوء فأعمل السيف فيهم، وذبح منهم مذبحة هائلة، على حين أن محمد لم يترك وسيلة في استرضاء المصريين، واستجلاب طاعتهم بالبذل، وإجراء العدل، ونشر العلوم، وضبط الإدارة.
وقد يُعترض على محمد علي بذبحه المماليك غيلة في القلعة، ولكنه فعل ذلك مضطرًّا استبقاءً لسلطته وتنفيذًا لأوامر الباب العالي السرِّية. أما علي باشا فإنه فضلًا عن تنبيه ذهن الباب العالي لمطامعه مدَّ يده إلى كرامة عاصمة الدولة فقتل أحد ضباط الجند العثماني في وسط الآستانة كما تقدم، وفي ذلك من ضعف السياسة ما فيه. أما محمد علي فكان عونًا للدولة العثمانية في كثير من حروبها؛ فدوَّخ لها الوهابيين، وأعانها في إخماد ثورة اليونان وإن لم ينجح.
ثانيًا: أن محمد علي باشا استعان في تأييد حكومته بمصر ونشرها إلى ما يجاورها بواسطة أولاده، فقد حارب الوهابيين بقيادة ابنه طوسون، وحارب الشام والمورة بقيادة ابنه إبراهيم القائد العظيم، وأخضع السودان بابنه إسماعيل، وأيد سلطانه فيها كلها بحسن سياسته مع الدولة العليَّة، والمحافظة على علاقته بها بالحسنى.
ثالثًا: أن المصريين فضلًا عن قربهم من الطاعة وسهولة حكومته، فقد سبق محمد علي قبل ولايته وطبع على أذهانهم صورة حسنة من عدله وكرمه حتى حملهم على أن يطلبوا ولايته من الباب العالي رأسًا، فلما تولاهم أحسن معاملتهم ورقَّى شئونهم وحافظ على رضاهم، فلم يأتِ عملًا يوجب نفورهم، وحافظ مع ذلك على رضاء جنده القديم من الألبانيين وغيرهم الذين كانوا له عونًا في ارتقاء أريكة الملك، حتى إذا أراد تنظيم جند جديد ورأى منهم تمردًا اقتصر على تنظيم ذلك الجند من أهالي البلاد الأصليين بلا مقاومة وأضمر للمتمردين من رجاله وسيلة يتخلص بها منهم، فأنفذهم لفتح السودان على أن يفتحوها أو يبيدوا فيها وهم لا يشعرون، وفي ذلك من الدهاء والسياسة ما لا يخفى على اللبيب. أما علي باشا فقد كان مطمعه في الولاية محصورًا فيما يرجوه من النفع المؤقت، وزد على ذلك أن الألبان قوم يصعب التسلط عليهم؛ لما تقدم من خشونة طباعهم وصعوبة مراسهم.
رابعًا: أن مصر نظرًا لبعدها عن مركز الخلافة كانت أقرب للاستقلال الإداري من ألبانيا؛ لأن هذه في الروملي قريبة من الآستانة، وكان الألبانيون أنفسهم كثيرًا ما يتجنَّدون في خدمة الدولة العليَّة مأجورين، فلم يكونوا قلبًا واحدًا مع واليهم، فلما قُتل لم يُبدوا مقاومة. ناهيك بغنى هذا القطر وما بذله محمد علي من المساعي الخيرية في تحسين الزراعة وتنشيط التجارة والصناعة، ففتح المعامل ونظم الجند ونشط العلم فدرَّت مصر ذهبًا وفضة، فلقي أهلها رغدًا وعيشًا هنيئًا أنساهم ما كانوا يقاسونه من البلاء على عهد المماليك، ولم يتأتَّ لعلي باشا أن يفعل شيئًا من ذلك، ولعل طبيعة البلاد الخشنة من جهة، وانطباعه على السلب والنهب من جهة أخرى كانا من أكبر العقبات في سبيل الإصلاح.
خامسًا: أن مساعي محمد علي في الولاية إنما كانت تحت ظل مصلحة الدولة، وفتح ما فتحه من البلاد باسمها، فلم يأتِ عملًا يوجب الضغينة عليه منها إلا في حربه في الشام، فلما سُئِل الرجوع عنها أذعن، وتوسطت بعض الدول فجعلت لكل من الجانبين حدودًا رضي بها الفريقان، ونال على أثر ذلك الامتيازات المعلومة.
سادسًا وأخيرًا: أن علي باشا هذا انخدع باقتراح خورشيد باشا انخداعًا آل إلى قتاله وانقراض حكومته مما لا نظن محمد علي ينخدع به لو كان في مكانه؛ يدلنا على ذلك أنه لما كان قائدًا لفرقة الألبانيين قبل أن يخطر بباله أمر الولاية، وتأخرت فرقته عن نجدة عساكر خسرو باشا في حرب المماليك، أراد خسرو الفتك به غيلة وطلب مقابلته سرًّا في منتصف الليل، فأدرك محمد علي بذكائه ودهائه أنه إنما يريد به شرًا فلم يقبل دعوته، بل كان ذلك سببًا قويًّا في سعيه إلى الولاية.