مصطفي رشيد باشا
هو الوزير الخطير والسياسي العثماني الشهير، المعروف بحبه لوطنه وحسن خدماته لدولته وأمته، ابن مصطفى أفندي روزنامه جي الأوقاف الهمايونيو، وُلد سنة ١٢١٥ﻫ بالآستانة العليَّة وتهذب على أيدي والديه إلى سن الشبوبية، فأدخل بقلم مكتوبجي الباب العالي، وكان يختلس الفرص ويذهب إلى المساجد لتناول العلوم العربية عن أئمتها.
وكان رؤساؤه يحبونه لاستعداده ودرايته فترقى بمدة وجيزة، وصار من الكتَّاب الممتازين في القلم المذكور، ونال فوق ذلك رتبة رئاسة التعليم ولم تكن تُعطى لحديث السن مثله، وكان على صغره يفصل المشاكل المهمة فصلًا يقصر عنه الشيوخ، فكان يسمع مدحه وتنشيطه من الرؤساء فيزداد همة ونشاطًا، وكان برتو باشا الشهير من جملة من قدَّر مزِيَّتَه واقتداره.
ولما ارتقى إلى درجة باش خليفة (باشكاتب) أرسلته الدولة العليَّة إلى المورة برفقة الأودو الهمايوني تحت قيادة خسرو باشا، فابتدأ من ذلك الحين يصرف ذهنه إلى استطلاع أسباب تلك الحادثة، وما يضمن رجوع النفوذ العثماني.
وبعد رجوعه من المورة أُرسل إلى القطر المصري مرتين برفقة برتو باشا على عهد المغفور له محمد علي باشا، فأظهر من الدراية في حل المشاكل ما اشتهر بين الخاص والعام.
ولما تبوَّأ السلطان عبد المجيد خان كرسي السلطنة كان المشار إليه بمأمورية آمدي الديوان الهمايوني، وكانت المذاكرات جارية بمجلس الوكلاء (الوزراء) إذ ذاك بشأن إصلاح شئون الدولة؛ لوقوعها في ارتباك عظيم بمسألة المورة واستقلال اليونان وإلغاء أجواق الإنكشارية ومحاربة روسيا، وكان السلطان حريصًا على أمته وصيانة ممالكه حتى كان يود إصلاح ذلك كله دفعة واحدة، ولكن مقاصد الوزراء إذ ذاك متباينة متضادة مثل ما كانت أحوال الولايات، ولما لم ينتج من تلك المذاكرات نتيجة فعالة ضاق السلطان ذرعًا، فجاء يومًا بغتة إلى الباب العالي ودعا الوكلاء إليه وكان من جملتهم رشيد بك صاحب الترجمة.
فأخذ السلطان في تلك الجلسة يبين الخطر العظيم المحيط بالدولة من جميع أطرافها، وطلب إلى الوكلاء إبداء آرائهم في تخليص الممالك والأمة، فلم يكن جوابهم إلا التأوُّه والتأسف، فأثر ذلك برشيد بك تأثيرًا، فوقف وصرَّح برأيه بكل احترام وأدب ووعد بأن يقدم رأيه خطًّا للأعتاب السلطانية، وهكذا فعل؛ فإنه قدم لائحة كانت السبب الوحيد لخلاص الأمة والمملكة من تلك الوهدة المخطرة، ونال بسببها الشهرة العظمى، فوُجهت إليه رتبة الوزارة مع لقب باشا، ثم أُرسل سفيرًا إلى باريس ولندرة لحل مسألة مصر وهو لم يتجاوز الثلاثين من العمر، وزد على ذلك أنه كان يجهل اللغات الغربية فأُرسل برفقته ترجمان يسمى المسيو كور. ولكنه رأى أن لا بد له من دراسة لغة أوربية، فتعلم الفرنساوية وطالع بواسطتها نظامات المماليك وأسباب نجاحها وثباتها، وكان ينظر إلى تلك الممالك نظرةً وإلى حال دولته نظرة أخرى، ويقابل بين الحالتين توصلًا إلى دواء يشفي الدولة مما كانت فيه من الأمراض العضالة.
وكان الغربيون ينظرون إلى الشرق نظر الاحتقار؛ لما كان يتصل إليهم من المبالغات بشأنه، فكان صاحب الترجمة يبذل جهده لتكذيب تلك الأراجيف بالدليل والقياس استجلابًا لحسن ظنهم بالدولة العليَّة، وكان الملك جورج (ملك إنكلترا إذ ذاك) يصغي إلى كلامه حتى اقتنع منه بأن المحافظة على قوام الدولة العليَّة ووقاية ملكها يعودان بالنفع على سائر ممالك أوروبا، فانعقدت المعاهدة المسماة (بروتوكول لندرة) ومن مقتضاها التخلي لمحمد علي باشا عن ولايتي مصر وعكا طول حياته، ولكن محمد علي باشا لم يوافق على ذلك، فاضطرَّت دولة إنكلترا إذ ذاك أن ترسل سفنها الحربية إلى تلك الأمصار، وكانت النتيجة احتراق السفن الحربية المصرية أمام بيروت، وإخراج عساكرها من البلاد السورية وإعادة البلاد التي افتتحها إلى الدولة العليَّة، وحصر ولاية محمد علي باشا بالقطر المصري مدة حياته، ثم يتوارثها أكبر أولاده بموجب الشروط المذكورة بالفرمانات الهمايونيو، وترى ذلك مفصلًا في كتابنا تاريخ مصر الحديث.
وكانت دول أوروبا حينئذٍ تنظر إلى الدولة العليَّة نظرها إلى المغتصب، ولم تكن تصادق على تملُّكها ولا تَعدُّ الدولة العليَّة من جمعية الدول الأوربية، وربما كان ذلك ناتجًا عن إهمال عمال الدولة وما تمكن من الخلل في داخليتها حتى شغلهم عن علاقاتها الخارجية.
وكان السلطان عبد المجيد خان قد تحقق صداقة رشيد باشا فصار يعتمد عليه الاعتماد التام، فاتَّخذه مستشارًا خاصًّا، وفي سنة ١٢٥٦ﻫ قام على الكرسي العالي بالنيابة عن جلالته في ميدان الكلخانة، وقرأ الخط الشاهاني المعلن المساواة بين سائر أصناف العثمانيين، فاعتقدت الدول الأوربية فلاح الدولة العليَّة بذلك وابتدأت تثق بالباب العالي كل الوثوق، وكان هذا الخط الشريف صورة من لوائح صاحب الترجمة قد أُفرغت بقالب رسمي.
وعلم أيضًا أن قلة الرجال المقتدرين يقف عثرة في طريق الإصلاح، فأخذ يرقِّي أصحاب اللياقة والاقتدار من شبان الوطن إلى أعلى المراتب بمدة قليلة، وفي جملة من ترقَّى على يده فؤاد باشا وعالي باشا وأحمد توفيق باشا الذين اشتهروا بخدماتهم للدولة العليَّة.
ولما وجهت إليه الصدارة العظمى كانت الأحوال وخيمة جدًّا — كما اتضح مما تقدم — فأخذ بإصلاح الأمور الملكية والعسكرية، فأسس سفارات دائمة في برلين وباريز وفيانه ولندرة، فكان يطَّلع بواسطتها على الحقائق السياسية في حينها، ويتخذ الاحتياطات اللازمة والتدابير المصيبة لصيانة حقوق الدولة والملة، وإن ما ناله من التوفيق في مسألة إعادة المجرمين التي ظهرت بعد الاختلال الكبير في المجر سنة ١٨٤٩ كان نتيجة ما اتخذه من المسلك القويم في طرق السياسة، وبرهانًا على فرط حميَّته وغيرته؛ وتفصيل ذلك أنه لما ضيقت روسيا والنمسا على المجرمين التجأ جماعة منهم إلى حدود المملكة العثمانية، فطلبت الدولتان المشار إليهما وهددتاها بالحرب إذا خالفت طلبهما، فأصدر رشيد باشا لهما ردًّا وفقه على الحقوق الدولية وصان شرف الدولة، وكان السلطان يؤيد كل ما يقوله أو يعمله، ومن جملة كلام جلالته بهذه المسألة، قوله: «ومن المحال أن أُسلم هؤلاء المساكين وقد التجئوا إلى باب سلطنتي السنية، وهذا ما تقتضيه الحمية والعدالة.» وقد اختار الحرب على تسليمهم، فعلمتا أن الدولة ساهرة على حقوقها وشرفها بهمة وزيرها رشيد باشا فأذعنتا إلى أن يتلافى الأمر بالمخابرات السياسية والقانون الدولي وتحققتا أن التهديد لا يفيدهما شيئًا.
وتقلب رشيد باشا في مناصب متعددة على مقتضى الأحوال، فتقلد منصب الصدارة ست مرات، ونظارة الخارجية أربعًا، وتقلَّد سفارات متعددة، وتعيَّن واليًا لأدرنة مرة واحدة، وكان الفوز مرافقًا له في كل أمر شرع فيه، وأول جريدة عثمانية نشرت في الآستانة «تقويم وقائع» كان هو مؤسسها، وقد أسس أيضًا نظارة المعارف ومجلس المعارف ونظامنامه المعارف وسالنامه الدولة والمكاتب الرشدية وغيرها من عوامل الارتقاء.
واتفق في أيامه ظهور مسألة القدس، وهي الاختلاف الذي حصل بين الكاثوليك والأرثوذكس بحق التصرف في الكنيسة الشرقية، وتداخلت روسيا في أمره وأرسلت «منشيقوف» الشهير إلى الآستانة ليبلغ الدولة العليَّة مطاليب الدولة الروسية الباهظة، فاتخذ رشيد باشا الاحتياطات اللازمة، فأودع المسألة حالًا إلى مؤتمر فيانه، وطلب تسويتها وفقًا لقانوني الدول والملل، فأصدر المؤتمر لائحة إلى الدولتين، فقبلتها الروسية ولم تقبلها الدولة العليَّة لاشتمالها على شروط تحتاج إلى التعديل، فطلبت تعديلها وإجراء المذاكرات بذلك، فصرحت الدول الأوربية بأنها لا تستطيع معاضدة الدولة العليَّة، وإذا لم تقبل بالشروط المذكورة فالمسئولية تعود عليها إذا آلات الحال إلى حرب.
فنهض رشيد باشا حينئذٍ بهمَّة وغيرة فائقتين، وجمع الوكلاء والوزراء والعلماء والأمراء والمأمورين والأعيان في الباب العالي بموجب إرادة سنية، وشرح المسألة وأبان لهم أن بعض مواد تلك اللائحة مخلٌّ بحقوق الدولة العليَّة، وأن الدولة الروسية لم تقبل تلك الشروط إلا رغبة بمواد فيها قابلة للتأوُّل، ثم أخذ رأيهم ودارت المذاكرات بذلك، فأعلنت الدولة العليَّة الحرب على دولة روسيا سنة ١٢٦٩ﻫ، وكان رشيد باشا عالمًا بقصور الدولة عن مناهضة الروس إذ ذاك، ولكنه رأى قبول الشروط أكثر ضررًا من الحرب فاختار أهون الشرَّين، ولم تمضِ برهة على ذلك حتى تأكدت فرنسا وإنكلترا وسردينيا أن الدولة الروسية قد تجاوزت الحد، فأعلنَّ عليها الحرب وأوقفنها، وكانت نتيجة تلك الحرب الاعتراف بحقوق الدولة العليَّة، وإدخالها في عداد الدول الأوربية سنة ١٢٧٣ﻫ وهذا ما كان يتمناه رشيد باشا، ويسهر الليل والنهار لأجله، وهي خدمة تكفي لتخليد ذكره إلى الأبد.
وكان رحمه الله طويل الباع في الكتابة، والأوراق المحفوظة الآن بخطه في الباب العالي دليل واضح على ذلك.
وفي سنة ١٢٧٤ﻫ وافاه الأجل فلبَّاه، وأودع حسرة في قلوب العثمانيين كافة، ولم يزل العثمانيون يذكرون اسمه بكل احترام وإكرام.