محمد شريف باشا
هو الوزير الخطير الجامع بين العلم والسياسة والفضل والرئاسة والشهير بين أقرانه الوزراء بالغيرة على الوطن المصري غيرة خالصة من كل شائبة كما سيتضح لك من سيرة حياته رحمه الله.
وُلد في القاهرة في سنة ١٨٢٣ من عائلة تركية الأصل عريقة في الحسب والنسب، وكان والده قد جاء الديار المصرية في أيام المغفور له محمد علي باشا بمنصب قاضي القضاة، فأقام فيها زمنًا ثم عاد إلى الآستانة حتى أذن ساكن الجنان السلطان محمود الثاني نقَّاد الرجال بتقليده منصب القضاء في الحجاز، فمرَّ في طريقه بمصر أقام فيها أيامًا وولده صاحب الترجمة معه وسنُّه إذ ذاك بضع سنين، وكان محمد علي باشا رحمه الله لحسن فراسته ينتقد الرجال بمجرد النظر إليهم، فلما رأى الغلام تنبأ بعظم مواهبه وفرط ذكائه فاستبقاه عنده، وجعله كأحد أولاده فأدخله المدرسة العسكرية التي أنشأها في الخانكاه بضواحي القاهرة وجعل فيها أولاده وأولاد الأمراء والأعيان، وبعد أن درس فيها مدة بعثه محمد علي باشا في الرسالة المصرية التي كان يبعث بها إلى أوروبا للتخرج في العلوم، وكانت تلك الرسالة مؤلفة من ثلاثة وأربعين تلميذًا، أُرسِلوا إلى المدرسة المُعدَّة لأبناء مصر في باريس، وكان في جملة تلك الرسالة محمد سعيد باشا ابن محمد علي والي مصر، وإسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وغيرهما من أبناء العائلة الخديوية، وعلي باشا شريف، وعلي باشا مبارك، ومراد حلمي باشا، وعلي باشا إبراهيم، وغيرهم من أبناء الأعيان والوجهاء.
وكان صاحب الترجمة رحمه الله ميَّالا ميلًا طبيعيًّا إلى العلوم العسكرية والحركات الحربية، ولا سيما في إبَّان شبيبته، فاختار تعلُّمها؛ لأن التعلُّم كان في تلك الرسالة اختياريًّا فأدخلته الحكومة مدرسة سان سير المُعدَّة لتعليم الضباط العسكرية سنة ١٨٤٣، وبعد سنتين أتمَّ دروسها وامتاز عن رفاقه، فانتقل منها إلى مدرسة تطبيق العلوم العسكرية، قضى فيها سنتين أظهر فيهما كل ما دل على النجابة والذكاء، فانتظم في الجند الفرنساوي للتمرن عملًا بمقتضى قوانين تلك المدرسة حتى تُوفِّي المغفور له إبراهيم باشا ووالده محمد علي باشا سنة ١٨٤٩م فلما تولى المرحوم عباس باشا حلمي الأول استرجع الرسالة المصرية فرجع صاحب الترجمة وقد نال رتبة يوزباشي أركان حرب في الجيش الفرنساوي، وأُلحِق بالجيش المصري ولقِّب من الحين بالفرنساوي، وما زال معروفًا به بين عامة المصريين بشريف باشا الفرنساوي إلى هذه الغاية.
وكان أعظم قواد الجنود المصرية إذ ذاك سليمان باشا الفرنساوي (راجع ترجمته) فلما رجع صاحب الترجمة من فرنسا كما تقدم أُلحِق بأركان حرب سليمان باشا وتقرب منه حتى تمكنت علائق المودة بينهما كثيرًا، وبقي في الجيش المصري إلى سنة ١٨٥٢، فلما رأى أنه لم يرتقِ عن رتبته التي جاء بها من فرنسا اعتزل العسكرية، ودخل في خدمة البرنس حليم باشا بوظيفة كاتب يده إلى سنة ١٨٥٣، فلما تُوفِّي المرحوم عباس باشا الأول استقدمه خلفه سعيد باشا، وأنعم عليه بما كان يستحقه من الالتفات، ورقَّاه إلى رتبة أميرالاي لحرسه الخصوصي، وبعد سنتين منحه رتبة لوا. أما علاقته مع سليمان باشا فكانت لا تزال ودية حتى تصاهرا، فتزوج صاحب الترجمة بابنة سليمان باشا، وأخذت مواهبه بالظهور من ذلك الحين فاشتهر بالحزم والعفة والاستقامة، فرأى المرحوم سعيد باشا أن الإدارة أحوج إليه من العسكرية فعينه ناظرًا للخارجية سنة ١٨٥٧، فلما تُوفِّي سعيد باشا سنة ١٨٦٣ خلفه إسماعيل باشا فعينه ناظرًا للداخلية مع بقائه على الخارجية؛ نظرًا لما كان له من المنزلة الرفيعة في عينيه، فقام بما عهد إليه أحسن قيام، وأظهر من الغيرة الوطنية والإخلاص في خدمة الديار المصرية ما زاد مولاه ثقة فيه حتى ولاه سنة ١٨٦٥ النيابة الخديوية أثناء غيابه في الآستانة العليَّة.
ولما عاد إسماعيل باشا من الآستانة قلَّده نظارة المعارف مع نظارة الخارجية، ثم رئاسة مجلسه الخصوصي سنة ١٨٦٧ ثم مناصب أخرى، حتى لم يبقَ منصب من المناصب المصرية الرفيعة إلا تقلده بين داخلية وخارجية وحقانية ورئاسة مجلس النظار وغيرها في أيامه وأيام الخديوي السابق المرحوم محمد توفيق باشا.
وكان صاحب الترجمة معروفًا بين الأهالي بالوطنية الخالصة، حتى إن الأحزاب العرابية الذين قاموا بالدعوة الوطنية، ولم يثقوا بأحد من وزراء مصر تقريبًا، ولم يرضوا سواه لتولي رئاسة مجلس النظار يوم حادثة عابدين الشهيرة، وقد تردد زمنًا في قبولها؛ لما كانت فيه البلاد من الاضطراب، ولكنه قَبِلَ بها غيرة على الأمن العام، وهو الذي أسس مجلس النواب المصري مراعاة للأمر الخديوي ولرغبة الأحزاب الوطنية إذ ذاك، ولما اشتدت الأزمة العرابية تنحى عن الوزارة ثم عاد إليها بعد تدمير الإسكندرية، وبقي فيها إلى عام ١٨٨٤ فتنحى عنها ولم يعد يتولاها ولا سواها من مناصب الحكومة.
وتنحِّيه هذا جاء مؤيدًا لإخلاصه للوطن المصري، وصدق طويَّته وعزة نفسه، وسببه أن المتمهدي السوداني كان قد استفحل أمره في الأقطار السودانية البعيدة وافتتح كردوفان ودارفور، وتهدد الخرطوم، وكانت الحكومة المصرية قد بعثت حملة هيكس باشا وبادت عن آخرها، فأشارت الحكومة الإنكليزية بإخلاء السودان وتركها للعصاة، فلم يقبل شريف باشا بتلك المشورة بدعوى أن السودان كلفت الحكومة المصرية مالًا ورجالًا منذ افتتحها محمد علي باشا إلى ذلك الحين، وهي مصدر ثروة تجاري للقطر المصري فضلًا عما يتهدد مصر من الخطر بسبب إخلائها إلى غير ذلك من الأدلة القاطعة، ولكن الإنكليز أصروا على مشورتهم، وطالت المخابرات بين مصر ولندرة وهو لم يتحول عن رأيه، ولما رأى من الحكومة المصرية ميلًا لموافقة الحكومة الإنكليزية تنحى عن الوزارة حتى لا يكون هو المؤذن بإخلاء تلك الأقطار، ولكي لا يُجري عملًا غير مطابق لما يناجيه به ضميره.
ومن تتبع الحوادث المصرية السودانية من وزارة شريف باشا الأخيرة إلى الآن يتحقق صواب رأيه، وأفضلية استبقاء الأصقاع السودانية تحت كنف الحكومة المصرية، ولكن حكم القضاء ونفذ المقدَّر.
وبقي رحمه الله معتزلًا الأعمال الإدارية منقطعًا إلى الدرس والمطالعة حتى أصيب بداء الكبد في أوائل سنة ١٨٨٧م، فأشار عليه الأطباء بتغيير الهواء، فسافر إلى الأقطار الأوربية، ولم يكد يصل مدينة غرانس من أعمال النمسا حتى فاجأه المنون، فتوفاه الله عن ٦٤ عامًا، ولما بلغ الحكومة الخديوية أمرت بإقفال الدواوين يومًا كاملًا حدادًا عليه، وبعث رئيس النظار رسالة برقية إلى ابن الفقيد يقول فيها: «إننا أسفنا على الفقيد بقدر حبنا له.»
وجيء بجثته إلى القاهرة في ٢٧ أفريل (نيسان) من تلك السنة، ودُفن بالتجلة والإكرام والناس يتأسفون على فقده ويستمطرون عليه الرحمة والرضوان.
وكان شريف باشا حسن الخلق والخلق، مهيبًا جليلًا، ممتلئ البدن، طويل القامة، تظهر في عينيه وجبينه ملامح الذكاء وحدة الذهن، وكان متمكنًا من أكثر العلوم العصرية وخصوصًا علم الفلك، حليم الطبع لين العريكة، وقد أجمع المصريون على ولائه ونال إنعام الحكومة الخديوية والحضرة الشاهانية، وسائر الدول العظام من الرتب والنياشين ما تتحلى به صدور الرجال، وتفتخر بنيله كرام الأنام رحمه الله وتغمَّده برحمته ورضوانه.