رستم باشا
هو الوزير العثماني الشهير سفير الدولة العليَّة في لندرة مؤخرًا، وأصله إيطالي، وُلد سنة ١٨٠٦ من عائلة كرواتية عريقة في الحسب والنسب، ولكنه انتظم في خدمة الدولة العليَّة، وتخلق بأخلاق رجالها وأتقن لغتهم فضلًا عن لغته ولغات أخرى كما فعل كثير من خدمة الدولة العليَّة من الأوربيين، وكانوا غالبًا إذا انتظموا في سلكِ خِدْمَتِها اعتنقوا الإسلام. أما رستم باشا فبقي على مذهب آبائه وهو النصرانية، وكان منذ نعومة أظفاره جريئًا مقدامًا حاد الذهن ذكيًّا، فما لبث أن انتظم في خدمتها حتى أخذ يرتقي ويتقلب في المناصب حتى تعيَّن سفيرًا للدولة العليَّة في إيطاليا على عهد ملكها فيكتور عمانوئيل الثاني، وما زال في ذلك المنصب إلى سنة ١٨٧٣ فاستقدمه الباب العالي ليتولى متصرفية لبنان.
وكان الجبل قد حال بين أحكامه والعدل نفوذ ذوي الوجاهة والرئاسة وخصوصًا طائفة الأكليروس، وكان رستم باشا لحزمه وصرامته يتوخى القسط ولا يقبل الوساطة، فشق ذلك على بعض جماعة الأكليروس، وحاولوا استخدام نفوذهم فلم يروا منه إلا البقاء على عزمه، فنتج عن ذلك نفور بينه وبين جماعة منهم، وتمكن النفور حتى آل إلى حكمه على المطران بطرس البستاني بالنفي إلى القدس سنة ١٨٧٩ بواسطة قنصل فرنسا لنفور موقت كان بينهما، والمطران المشار إليه من ذوي الرأي والوجاهة والكلمة النافذة في الطائفة المارونية، فتزعزعت أركان لبنان، واشتدت الأزمة، فعادت فرنسا النظر في الأمر، فتحققت خطأ قنصلها فعزلته، ووافقت الدولة العليَّة على إعادة المطران إلى كرسيه، على أن هذا الحادث كان عبرة لسائر الأحزاب والعُصب في لبنان، فسارت الأحكام على ما يرام من العدالة والقسط وساد الأمن وعرف كل ذي حق حقه.
ويقول المدافعون عن المطران بطرس: إن سبب النفرة بينه وبين رستم باشا ذود المطران عن حقوق منحتها الدولة العليَّة لمواطنيه، فأغرى رستم باشا أن تقويض نظام لبنان وإثقال كاهله بضرائب جديدة يكسبانه رضاء الباب العالي، ولعلمه أنه لا يستطيع التسلط على أعضاء الإدارة والمطران على يمينه سعى في إبعاده.
وبقي رستم باشا في ولايته هذه عشر سنوات، ولا يزال أهل الشام كافة وخصوصًا أهل لبنان يتذكرون حكمه وعدالته، وقد شهد عقلاؤهم على اختلاف أغراضهم ونزعاتهم أن ولايته على لبنان خطت به خطوة كبرى نحو الإصلاح والتمدن، وفي سنة ١٨٨٣ عند انتهاء المدة المعينة لحكمه أُبدِل بالمرحوم واصه باشا، فتوفي سنة ١٨٩٢ فخلفه دولتلو نعوم باشا، ثم أُبدِل سنة ١٩٠٢ بمظفر باشا.
أما رستم باشا فتعيَّن سفيرًا للدولة العليَّة في لندرة، وهي أخطر سفاراتها، وذلك دليل على ثقة الدولة به، وما زال هناك حتى توفاه الله سنة ١٨٩٥ وله من العمر زهاء تسعين سنة ولم يخلف عقبًا.
وكان ربعًا نحيفًا، سريع الحركة، حاد العينين والذهن، صارمًا حرًّا، وقد نال بسبب ذلك شهرة كبرى لدى رجال أوروبا حتى صرح اللورد سالسبوري وهو يذكر وفاته، أن بموته ماتت رجال الدولة العثمانية، كأنه يريد أنه فريد في الدولة، وهو قول لا يخلو من المبالغة، ولكنه يدل على منزلة هذا الرجل عند قهارمة السياسة في أوروبا.