أحمد عرابي المصري
وبعد العودة إلى مصر صار ختان المرحوم الطيب الذكر طوسن باشا النجل الوحيد للمرحوم سعيد باشا، فأولم المرحوم الخديوي وليمة شائقة، دعا إليها جميع أعضاء العائلة الخديوية في قبة عظيمة حضرها جميع الضباط والذوات وغيرهم من الأجانب، وبعد الطعام انتصب الخديوي رحمه الله تعالى قائمًا، وقال خطبة ارتجالية ذكر فيها: «أن من أمعن النظر في تاريخ بلادنا هذه وتوالي حوادثها المحزنة لا يسعه غير الأسف والتعجب، كيف توالت الأمم الأجنبية على أهلها، وهم يظلمون سكانها، كالكلدانيين والفرس قبل الإسلام والترك والأكراد والشركس وغيرهم بعد الإسلام، وكلهم يُفسدون ولا يُصلحون، وإني عزمت على تثقيف أبناء البلاد وتهذيبهم وترقيتهم حتى تكون حكومة البلاد بأيديهم بصفة كوني مصريًّا منهم، وبالله الاستعانة.» فوقع هذا الخطاب على من حضر من غير المصريين وقوع الصواعق، وتهللت وجوه المصريين وشكروا ودعوا، وانقضت الحفلة، ثم في أواخر سنة ١٢٧٦ ترقيت إلى رتبة بكباشي، وفي أوائل عام ١٢٧٧ أحسن إليَّ برتبة القائمقام الرفيعة كما أحسن بها إلى السيد محمد باشا النادي وعلى المرحوم راشد باشا راقب الذي استُشهِد بحرب الحبشة في عام ١٢٩٣ وعلى المرحوم عثمان باشا رفقي الذي صار ناظرًا للجهادية قبل الثورة الوطنية، فكنا أربعة قائمقامات: اثنين مصريين واثنين شركسيين، وكلٌّ منا استلم قيادة آلاي بيادة، وفي السنة المذكورة سافرت بمعية المرحوم سعيد باشا إلى المدينة المنورة — على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام — برتبة القائمقام كما ذكرتم ذلك في كتابكم «تاريخ مصر الحديث».
وفي عام ١٢٧٨ رأى سعيد باشا أن الحكومة سقطت في دين يبلغ مقداره ٦ ملايين جنيه مصري، وذلك يساوي إيراد الحكومة في ذاك الوقت سنة كاملة تقريبًا، وكان ذلك المبلغ ثمن أسلحة ومهمات حربية وملبوسات وذخائر عسكرية موصى عليها في معامل أوروبا، وردت بعد وفاته رحمه الله تعالى، فأمر برفت جميع الآلايات وأبقى أورطة واحدة كان فيها يوزباشي سعادة مصطفى فهمي باشا رئيس النظار الآن وعلي فهمي باشا الذي نُفِيَ معنا إلى سيلان، وأمر باستيداع الضباط بالمحافظات والمديريات على حسب رغبتهم، ومن له بلد يتوجه إلى بلده ويصرف لهم نصف مرتباتهم في مدة استيداعهم، وأمر أن تضاف مرتباتهم على الأطيان مؤقتًا ريثما يتم تسديد الدين. فخص الفدان الواحد ٥٠ فضة؛ أي غرش واحد وربع، وقد حصل ذلك فعلًا، ثم صار بيع الخيول ومأكولات العساكر ومفروشاتها وكانت من البوسطى وغيرها، وكذا الفضيات الموجودة في خزائن الأمتعة والمسافرخنات وكذا الفوريقات الموجودة في جميع القطر المصري، والأطيان المتروكة في كل المديريات، كل ذلك رجاء تسديد الدين.
وفي أوائل عام ١٢٧٩ سافر المرحوم سعيد باشا إلى أوروبا لمعالجة نفسه من داء السرطان، وكان بمعيته المرحوم محمد علي باشا الحكيم المصري الذي استشهد في حرب الحبشة عام ١٢٩٣، فصدر أمره الكريم إلى قائمقام خديوي فخامة إسماعيل باشا الخديو الأسبق بطلب جميع الضباط المصريين من بلادهم، وإقامتهم في قصر النيل ومداومتهم على التدريس في القوانين العسكرية، يقول فيه: «إن الضباط الوطنيين المترقين من تحت السلاح قد اشتغلوا بملازمة نسائهم وتركوا دروسهم، ولو تركناهم على هذا الحال الذي لا يئول عليهم منه إلا بالوبال لفقدوا العافية والنظر، وصاروا عبرة لمن يعتبر، وبما أننا نحن الذين ربيناهم ورقيناهم وأظهرناهم فلا يصح لنا تركهم في هذا الحال الذي ذكرناه، فقد اقتضت إرادتنا جمعهم من بلادهم وعدم تمكنهم من نسائهم حتى ولا بالنظر إليهن بالعين، والتشديد عليهم بمداومة التدريس ليلًا ونهارًا في قصر النيل.» وبناء على هذه الإرادة صار اجتماعنا في قصر النيل، وفي ربيع الأول انتُدِبت لفرز الصف ضباط في الوجه القبلي، وتعيَّن معي حكيمًا للفرز المرحوم سالم باشا سالم الحكيم، وكان برتبة قائمقام أيضًا.
وفي ٢٧ رجب من تلك السنة تُوفِّي المرحوم سعيد باشا، ودُفن في الإسكندرية بالمدفن المجاور لمسجد النبي دانيال — عليه السلام — بعد عودته من أوروبا، وجلس على الأريكة الخديوية ابن أخيه إسماعيل باشا الخديو الأسبق وصار ترتيب الآلايات، فكان ترتيبي قائمقام ٦ جي آلاي بيادة، وأما سعادة نادي باشا فتعيَّن على آلاي جميع ضباطه من المصريين المترقين من زمن سعيد باشا، وأُرسل إلى السودان. وحاصل الأمر أني دخلت العسكرية نفرًا بسيطًا في أوائل سنة ١٢٧١ وبلغت رتبة القائمقام في أواخر عام ١٢٧٧ بجدِّي واجتهادي وسهر الليل والنهار على حد قول القائل: «ومن طلب العلى سهر الليالي»، ونجح كثير من تلامذتي نجاحًا تامًّا حتى كانوا في مقدمة جميع الضابطان في الامتحانات العمومية، وكان السبب في هذا الاجتهاد الغريب الذي فاقوا به المتخرجين من المدارس الحربية وكان أغلبهم أميين، رغبة المرحوم سعيد باشا في تقدم أبناء الوطن ومساواتهم لغيرهم كما ذكر، ومحبته لهم وانعطافه إليهم، ومعاملته للجميع بالعدل والمساواة مع تفقُّد أحوالهم ومراعاة سيرهم، وحسن سلوكهم كأنهم أولاده، وكفى بالأمر الصادر منه وهو في بلاد أوروبا في حقهم المذكور آنفًا برهانًا صادقًا على حسن معاملته للوطنيين، كأنه كان وصية منه عليهم لمن يخلفه، وهذا هو الذي أوغل علينا صدور إخواننًا من الترك والشركس وغيرهم، ولقد قال لي مرة رحمه الله تعالى وأنا برتبة قائمقام: «إن جميع الناس عادوني حتى أهلي رجالًا ونساء بسبب مساواتكم بغيركم، فحققوا أملي فيكم.» فأجبته: ولكن الله سبحانه وتعالى يرضى عنك، والأمة المصرية ترضى عنك بمراعاتك للحق والإنصاف. هذا وبسبب عدله وقناعته أَثْرَت البلاد في زمنه وأخصبت الأرض، وانتعشت الأمة حتى صار الرجل المزارع بعمل يده يحصل له فوق ٢٠ جنيهًا في السنة، وهذا ما حفظ مصر من الإفلاس في مدة خلفه الذي بلغ دين الحكومة في زمنه مائة ألف ألف وألف ألف جنيه كما هو مدون في بطون الدفاتر.
ديوان جهادية ناظري سعادتلو باشا حضرتلري.
٦ جي بيادة سابق قائمقامي أحمد عرابي بكك إشبو عرضحال منظورم أولدى خطاسني عفو إيتمش أولد يغمدن حله مناسب خدمه ظهورنده استخدام إيتدير لمسى حقنده إيجابتي إجراء إيلمكز إيجون أشبو أمرم إصدار قلتدئ.
وحيث إن ناظر الجهادية المذكور كان مساعدًا لخسرو باشا كرهت الخدمة في العسكرية، وطلبت إحالتي على ديوان المالية، وفي التاريخ المذكور صار تعييني محافظًا على بحر مويس وجزء من البحر الأعظم بمديرية الشرقية زمن فيضان النيل بمعرفة المرحوم الشهيد المخنوق في خرائب دنقلة إسماعيل باشا صديق، وبعد انقضاء زمن النيل من غير أن يحدث أدنى ضرر في مديرية الشرقية كما حصل من الغرق بقطع نادر وقطع بطُرة وغيرها ترتبت مأمورًا لتشهيل بناء قناطر فم الإسماعيلية بقصر النيل وتشهيل قطع الأحجار في معامل طرة، والدقيقة بالعباسية والجبل الأحمر بالبساتين، وشحنها بالمراكب إلى القناطر المذكورة وإلى سد فم الرياح في شبرا وإلى القناطر الخيرية وإلى جميع مديريات الوجه البحري، وتشهيل مراكب النقل وتفريغها بقناطر الإسماعيلية وسد الرياح في شبرا، وكان عملًا شاقًّا جدًّا من غير مراعاة الحكومة لأسباب التسهيل، فكنت أتنقل في كل يوم إلى المحلات المذكورة على ظهر فرسي أو حماري حتى جاء سنة ١٢٨٥ فانتُدِبت لتشهيل بناء كبري قشيشة العظيم بمديرية بني سويف، وكبري الرقة بمديرية الجيزة، وكبري أبو راضي على سكة حديد الفيوم، وبعد تمام تلك الأشغال كوفئ غيري بخمسة آلاف جنيه مصري لكوني وفرت عن طلب المقاولين من الأجانب ٢٥٠٠٠ جنيه مصري، ثم أُحِيل إلى عهدتي تمديد سكة الحديد من محطة المنيا إلى محطة مللوي، وبعد نهوها تصادف جعل المرحوم قاسم باشا فتحي ناظر الجهادية، وكان يعرف قدر أعمالي واقتداري، فطلبني وكلفني الانتظام في سلك العسكرية ثانية، فأجبته إلى ذلك وترتبت قائمقام في ٣ جي آلاي بيادة في أوائل سنة ١٢٨٧ وفي سنة ١٢٨٨ انتقلت إلى رئاسة ٢ جي آلاي بيادة، ولكن برتبة القائمقام، وفي أواخر سنة ١٢٩٠ توجهت بالآلاي المذكور برًّا إلى رشيد للإقامة فيها وفي ٢٤ شعبان سنة ١٢٩٢ انتدبت إلى ترتيب عساكر محافظين للقلاع الحجازية من أهالي تلك الجهات، وإرسال العساكر النظامية المصرية إلى مصر، فتوجهت إليها وحيدًا فريدًا على مصاريف نفسي من أول يوم من شهر رمضان حتى وصلت إلى قلعة نخل، ورتبت لها العساكر اللازمة للمحافظة عليها، وجعلت فيها مكتبًا لتعليم أبنائهم القراءة والكتابة، ثم ذهبت إلى قلاع العقبة والمويلح والوجه، وأجريتُ فيها كما أجريت في قلعة نخل، وأرسلت العساكر النظامية إلى مصر، ثم عُدتُ قافلًا بحرًا إلى بندر القصير ثم برًّا إلى قنا وبحرًا إلى أسيوط وبرًّا إلى مصر، ولما عرضت انتهاء مهمتي على ناظر الجهادية فخامة صاحب الدولة حسين باشا كامل، قال لي: إني لاعتمادي عليك ووثوقي بك قد عينتك مأمورًا للحملة الحبشية فاستعد لذلك بعد عشرة أيام، فانتخبت مَنْ أعتمد عليهم من الضباط والكتبة، وسافرنا جميعًا إلى مصوع، وبعد انتهاء تلك الحرب المشئومة عدت إلى مصر، فأمرني دولة المشار إليه أن أعود إلى السويس لتشهيل المحضرين من مصوع وزيلع، وإرسال الذخائر اللازمة لتلك الجهات بدل المرحوم علي غالب باشا، حيث إنه تعيَّن مديرًا لمديرية الدقهلية فذهبت إليها، وبعد انتهاء تلك المأمورية أيضًا عدت إلى الآلاي الذي بعهدتي برشيد، وفي أوائل سنة ١٢٩٦ صدر لنا الأمر بحضور الآلايات الموجودة برشيد إلى مدينة القاهرة، وتسليم الأسلحة والمهمات وإرسال العساكر إلى بلادهم فحضرنا، وكنا ثلاثة آلايات وسلمنا المهمات في يوم وصولنا، وفي اليوم الثاني صباحًا ذهبت إلى منزل سعادة محمد نادي باشا، وكان أميرالاي أحد الآلايات المحضرة من رشيد حينذاك، فما نشعر إلا وأحد الضباط اسمه أحمد أفندي نجم حضر، وأخبرنا أن تلامذة الحربية وبعض الضباط أحاطوا بالمالية، فجاءت العساكر من ١ جي آلاي وضربت عليهم بالسلاح، فاندهشنا لهذا الخبر المريع، وأرسلنا غيره من الضباط ليستكشف الأمر ويأتينا بالحقيقة، فذهب وعاد وأخبرنا بما صار، وبعد يومين صار طلبي وطلب نادي باشا بطرف سر تشريفاتي خديو سعادة عبد القادر باشا حلمي، فذهبنا إليه في بيته فأخبرنا: «أن الخديوي بلغه أنكما وعلي بك الروبي قد أغريتم التلامذة والضباط على حصر المالية، وأنه سيجري تحقيق ذلك، فإن ثبت هذا عليكم صارت مجازاتكم بأشد الجزاء.» وصار يهددنا تارة ويوعدنا بالسلامة تارة أخرى، فأجبناه بقولنا: «يا سبحان الله! إننا حضرنا أمس من رشيد، وكنا مشغولين بتسليم الأسلحة والمهمات بمخازن العسكرية وصرف العساكر إلى بلادهم، فكيف يُتصور أننا نغري تلامذة الحربية والضباط ونحن لسنا موجودين بالقاهرة، ولا كان أحد من ضباط عساكرنا موجودًا في هذه الحركة أصلًا، على أن هذا العمل الخارج عن حد التعقل يلزم تدبيره وترتيبه من قبل إجراءاته بمدة!» فضحك؛ لأنه يعلم أن تلك الحركة كانت بإيعاز الخديو نفسه وعمل جاهين باشا جنج؛ لأجل التخلص من نظارة ويلسن المختلطة، وأيضًا صار طلب المرحوم علي بك الروبي بطرف مأمور الضبطية محمود سامي باشا البارودي، وبلَّغه تلك التهديدات بعينها والافتراءات الظاهرة فتنصَّل منها، وبعد ذلك صار تشكيل مجلس عسكري فوق العادة تحت رئاسة رئيس أركان الحرب أسطون باشا الأمريكي، وعضوية سعادة أفلاطون باشا، والمرحوم مرعشلي باشا، وجميعهم يعرفون الحقيقة كما يعرفون آباءهم، ولكن المسألة خرجت عن مركزها المعين، ثم بعد ذلك صار طلب الضباط والمتهمين من رتبة بكباشي فما فوقها بسراي عابدين، وقام الخديوي يطيب خواطرنا ويوعدنا بخير ولكن …
هكذا قلت لسعادة محمد باشا النادي، والمرحوم علي باشا الروبي المتهمين معي في مسألة الإحاطة بديوان المالية، وفي ذلك الاجتماع صار جعلنا نحن الثلاثة من ضمن الياوران الذين بمعيته — عجبًا وألف عجب — لكن بعد أسبوع انخلع علي الروبي من العسكرية، وتعيَّن رئيسًا لمجلس المنصورة، وأُبعد نادي باشا بآلايه الجديد إلى الإسكندرية، ثم صار طلبي إلى ديوان المالية فذهبت إلى ناظرها المرحوم راغب باشا، فأخبروني أن أهالي جرجا وأسيوط ومديريات الوجه القبلي قد انتخبوني أمينًا من طرفهم في تسليم ٧٠٠ ألف إردب قمح وشعير وفول إلى بنك قطاوي، وبيجة وأجيون بإسكندرية لسداد ما عليهم من الديون، والله أعلم أن الأمر غير ذلك، وأنا أعلم أيضًا … ومع ذلك توجهت إلى الإسكندرية وأديت تلك المأمورية التي حقيقتها سلفة نصف مليون تنتوا أخذتها الحكومة لتسديد بعض الأقساط من أرباح الدَّين المصري. وفي ٧ رجب سنة ١٢٩٦ صار خلع المرحوم إسماعيل باشا وتولية المرحوم توفيق باشا، وشاهدت الاحتفال بتوديع الخديوي المخلوع بحق حين إنزاله في السفينة من أسكلة سكة الحديد منفيًّا إلى بلاد إيطاليا، كما أنزل منها عمه حليم باشا منفيًّا إلى القسطنطينية، فانظر إلى آثار قدرة الله تعالى، واعلم أنه يكال لك بالكيل الذي تكيل به، وعلى هذا انتهت مدة ولاية إسماعيل باشا كما علمت ولم أنل منه رتبة ولا نيشانًا ولا اختصني بجارية من جواريه، ولا أصبت منه خيرًا قط، ولا أقسمت على الدفاع عنه كما ذكرتم، ولا خدمت بمعيته أصلًا، ولا انتهرني أبدًا، ولا صِحْت حول سرايه، ولا قال عني ما ذكرت أن صوتي أكثر قعقعة أو قرقعة من الطبل وأقل نفعًا منه، وقد تحملت مدة ولايته بكل صبر وثبات جأشٍ على تحمل الظلم والاستبداد بل الاستعباد، ومكثت برتبة القائمقام ١٩ سنة وأنا أنظر إلى اليوزباشية والملازمين الذين كانوا تحت إدارتي، وقد صار بعضهم أميرالاي، وبعضهم أمير لواء، وبعضهم أمير الأمراء أعني باشوات وفرقاء وانهمرت عليهم سحب الإنعامات والإحسانات فاقتطعوا الإقطاعات الواسعة، وأخذوا القصور العالية، وأغدقت عليهم الخيرات، وهم يعلمون قوتي واستعدادي، ولقد اجتهد صاحب الدولة حسين كامل باشا عم الحضرة الفخيمة الخديوية إذ ذاك في ترقيتي إلى رتبة أميرالاي، ولكن لم يُقبل منه، وأخيرًا قال لي: «إني بذلت ما في وسعي في طلب ترقيتك، ولكن قيل لي: إنك من رجال سعيد باشا.» فعجبت لذلك، وقلت له: إني من رجال الوطن، وبلدي اسمها هرية رزنة بمديرية الشرقية، ولست مملوكًا لأحد، فطيَّب خاطري ولاطفني وقال لي: «لا تُفتِر همتك، وسأواصل السعي في إنصافك» فشكرت له، وخرجت وأنا أشعر بأني لا أنال خيرًا في مدة أبيه، وكنت أتوسم كل خير في المرحوم توفيق باشا، ولكن من اعتمد على غير الله سبحانه وتعالى أخلاه الله منه؛ لأنه سبحانه غيور على عباده المؤمنين.
فلا وأبيك ما كان إلا هنيهة حتى جاءت أورطتان من آلاي الحرس الخديوي بقيادة الشهم الهمام محمد أفندي عبيد البكباشي وأحدقوا بديوان الجهادية، ثم أسرع بعض الضباط والصف ضباط وفتحوا الأبواب وأخرجونا من السجن، وقد فر ناظر الجهادية الغشوم هاربًا، وكذا رجال المجلس وغيرهم من المجتمعين، ولما فرج الله علينا أسرعت إلى العساكر وحذَّرتهم وأنذرتهم، وقلت لهم: «لا تمدوا أيديكم بسوء إلى أحد من الجراكسة، فإنهم موالينا وإخواننا استأثروا بأنفسهم علينا، ونريد الإنصاف والمساواة معهم ليس إلا.» ثم نظرت فوجدت بجانبي المرحوم إسماعيل باشا؛ أنِفَتْ نفسه أن يفرَّ مع الفارِّين فأخذته بيدي وضممته إلى صدري أمام العساكر، وقلت: «هذا جركسي كما تعلمون، ولكنه أخي، حرام عليَّ دمه وماله وعرضه، وكذلك غيره من الجراكسة.» فانصرفوا بانتظام على بركة الله، ثم سرنا جميعًا إلى قشلاق عابدين وكانت الأورطة الأولى من الحرس الخديوي حكمدارية البكباشي المرحوم أحمد أفندي فرج واقفة أمام سراي الخديوي لحفظها منها، عسى أن يطرأ من الأمور كما أمرت بذلك من قبل أميرالاي الحرس علي فهمي بك، ولما تم وجود عساكر الآلاي المذكور أمر أمير الآلاي العساكر بحمل أسلحتهم بحركة «سلام دور» وعزفت الموسيقة بالسلام الخديوي، ونادوا جميعًا: «يعش الخديوي» ثلاثًا، وذلك كان إشارة وإعلانًا للقوم بأننا على إخلاصنا للحضرة الخديوية، وكان جميع الذوات الذين كانوا بديوان الجهادية التجئوا إلى حمى الحضرة الخديوية، ثم إنهم تشاوروا فيما بينهم فقال أسطون باشا الأمريكي: هذا عصيان ظاهر، والواجب حصر القشلاق المذكور بالطوبجية وآلايات البيادة، ويُطلب من هذا الآلاي تسليم الثلاثة أمراء، فإن أبوا تُضرب عليهم المدافع وتُمطر عليهم البنادق نارًا حامية حتى يضطروا إلى التسليم. فاستحسن الجميع ذلك الرأي الأمريكي، ولكن ابتدره المرحوم إسماعيل كامل باشا المذكور آنفًا، وقال: «أنا أعتقد اتفاق جميع أصناف العساكر على رأي واحد، فلا يجدي هذا الرأي نفعًا.» وفي أثناء مفاوضتهم حضر آلاي السودان من طرة، وانضم إلى آلاي الحرس ثم عزفت الموسيقة بالسلام الخديوي وهتفوا جميعًا: «أفندمز جوق يشا»، وأنا العاجز الضعيف كتبت إلى وكيل فرنسا السياسي في مصر الكونت «دورنج» من غير أن يكون لي به ولا بغيره من قناصل الدول الأوربية سابق معرفة ولا مقابلة ألتمس منه مخابرة باقي قناصل الدول بما حصل بيننا وبين حكومتنا من الخلاف، وأطلب منهم التوسط في إصلاح ذات البين، ثم بتنا على ذلك، وفي صباح الغد حضر لنا المرحوم أحمد خيري باشا مهردار الخديوي ومعه محمود سامي باشا ناظر الأوقاف من قبل الخديوي، وقال لنا: «ماذا تريدون؟» فقلنا: «العدل والمساواة.» قالا: «ثم ماذا؟» قلنا: «استبدال ناظر الجهادية برجل وطني، وتشكيل مجلس نواب للأمة ينظر في مصالحها وصوالحها، وتعديل قوانين العسكرية، وإبلاغ الجيش إلى ثمانية عشر ألفًا ونحن على طاعتنا للحضرة الخديوية.» فذهبا إلى الخديوي ثم رجعا، وقالا: «قد عُزِل عثمان رفقي فمن الذي تريدونه ناظرًا للجهادية؟» قلنا: «الذي يختاره الخديوي من الوطنيين.» فذهبا، وعادا ثانية وقالا: «إن الخديوي يقول: اختاروا أنتم من ترضونه حتى لا يحصل منه مثل ما حصل من عثمان رفقي.» فقلنا: «قد اخترنا هذا: محمود سامي باشا، وهو من أولاد المماليك الأول، ولكنه صدق معنا ولم يقصد الغدر بنا.» ثم صدرت الأوامر الخديوية بإعادة كل منا إلى آلايه، وعزل عثمان رفقي وصار تولية محمود سامي على نظارة الجهادية مع نظارة الأوقاف، وأخذ في سن القوانين العادلة، وتعديل القوانين الأصلية وتنقيحها.
ثم لما شاعت الأراجيف الكاذبة في أوروبا بخروج العساكر المصرية عن الطاعة، حضر من الحكومة العثمانية وفد برياسة المشير علي نظامي باشا، وبمعيته أحمد راتب باشا والي الحجاز الآن لتحقيق أمر العصيان، فرده الخديوي قائلًا: إن عساكري على طاعتي، وأن ليس ثَمَّ عصيان، وبعد ذلك اجتهدت الحكومة في غدرنا، وأخذنا على غِرَّة أو بحيلة من ضروب الحيل، ولما لم يوافقها ناظر الجهادية محمود سامي باشا على نواياها صار عزله بتذكرة من رياض باشا رئيس النظار، وتشدد عليه بأن لا يجتمع بنا ولا يقيم بالعاصمة، وتعيَّن بدله داود باشا يَكَن وهو عديل الخديوي، ولكنه رجل جاهل أحمق مشئوم، فأسرع بإصدار أوامر لا يستطاع قبولها، فرُدَّت إليه ونفرت القلوب منه، فكتبت له في ٩ سبتمبر سنة ١٨٨١ بأننا سنحضر بجميع العساكر الموجودين في القاهرة إلى ساحة عابدين؛ لعرض طلباتنا على فخامة الحضرة الخديوية في الساعة الرابعة بعد الظهر من يوم الجمعة الموافق ٩ سبتمبر سنة ١٨٨١، وكلَّفته عرض ذلك على الحضرة الخديوية، ثم كتبت إلى جميع قناصل الدول بذلك، وأعلنتهم بحفظ جميع رعاياهم فلا خوف عليهم ولا على أموالهم، وفي الوقت المعين اجتمعت الآلايات البيادة والسواري والطوبجية في رحبة عابدين، وكان ما هو مسطر في بطون التواريخ، وهو إسقاط الوزارة وترتيب مجلس النواب، وإبلاغ الجيش إلى القدر المحدد بالفرمان السلطاني، وقد حبانا المرحوم الخديوي بإجابة تلك الطلبات العادلة، وقد تعرَّض لنا المستر كوكسن قنصل إنكلترا بالإسكندرية حين ذاك وهددنا فلم نعبأ بتهديده لاعتمادي على صدق عزيمتي وطهارة ذمتي، ثم صار استدعاء المرحوم شريف باشا من الإسكندرية، وتعيينه رئيسًا للوزارة على حسب اختيارنا له، وتعيَّن محمود سامي باشا ناظرًا للجهادية ثانية، وقد توقف شريف باشا في قبوله ٧ أيام ثم رضي بعد ذلك، وصار توظيفي وكيلًا للجهادية، وفي تلك النظارة صارت الامتحانات، وترقَّى كثير من الباشوات وأمراء الآلايات والقائمقامية وغيرهم من جميع الرتب، واستُكملت الآلايات، وأُنشئت القوانين العادلة، وتعدلت الرواتب والماهيات بنسبة كل رتبة إلى ما دونها، وصُرفت الحقوق الموقوفة من زمن مديد، وأنشئ مجلس النواب وجُعل رئيسه أبو سلطان باشا، وعم العدل واستقامت الأمور، وحين ذاك عُرضت عليَّ رتبة لواء (باشا) فرفضتها؛ لئلا يقال إني إنما اشتغل لمصلحتي فقط، وبقيت في رتبة الميرالاي مدة وكالتي للجهادية، وأما رفقاي عبد العال حلمي وعلي فهمي فقد تشرَّفا برتبة الباشوية الرفيعة، ثم إن مجلس النواب قرر في لائحته الأساسية أن يكون لهم الحق في نظر ميزانية الحكومة، ومعرفة كيفية إيرادها ومصروفها بشرط عدم الخروج عن دائرة التعهدات الدولية وقانون التصفية، فلم يُجبهم المرحوم شريف باشا لذلك؛ لأنه — سامحه الله — أخذ رأي السير مالت وكيل إنكلترا السياسي في مصر وقنصل فرنسا أيضًا، فأشاروا عليه بعدم قبول لائحة المجلس، فأصر مجلس النواب على الطلب في تنفيذ لائحتهم فلم يوافقهم، وقدم استعفاءه واستعفت هيئة نظارته، ثم تشكلت هيئة جديدة تولى رئاستها محمود سامي باشا، وجعل من رجالها حسن باشا الشريعي — رحمه الله تعالى — والمرحوم سليمان باشا أباظه، والمرحوم عبد الله باشا فكري، والمرحوم محمود باشا فهمي، وسعادة مصطفى باشا فهمي رئيس الوزارة المصرية الآن. وجعلوني أيضًا ناظرًا للجهادية لأجل اطمئنان خاطر العسكرية الذين لا يأمنون غيري في ذاك الوقت، فقبلت ذلك، ثم أحسن عليَّ برتبة لواء باشا من لندن المرحوم الخديوي توفيق باشا، وكنت لا أريد، ولكن قالوا: إنه لا يليق أن يكون ناظر الجهادية برتبة أميرالاي وفي نظارته اللواءات والفرقاء، فقبلتها للضرورة وشكرت للحضرة الخديوية وقد انتظمت الأمور وهدأت الأحوال، وصارت العساكر في أمن من الغدر، ولكن أوروبا لا يروق في نظرها انتظام حكومات الشرق، فأقلقوا حكومة الدولة العليَّة، فأرسلت وفدًا مندوبًا من طرفها تحت رئاسة المشير المرخص درويش باشا؛ لتحقيق ما يقال من العصيان، فجاء درويش باشا وبحث في الأمر وكتب للحضرة السلطانية بأن العساكر على الطاعة، وكذلك كتب المرحوم الخديوي بالحقيقة، فأرسلت الحضرة السلطانية إلى الحضرة الخديوية أربعمائة نيشان من أنواع مختلفة للإحسان بها على المستحقين من ضباط العساكر، وأحسن عليَّ بنيشان الدرجة الأولى المجيدي، وحضر بوابور مخصوص يحمله سعادة سليم بك ياور الحضرة السلطانية، فأبيت استلام النيشان المذكور إلا من يد مولاي الخديوي، ثم كتبت تلغرافًا إلى المابين الهمايوني برفع تشكراتي الخيرية للحضرة المقدسة السلطانية، وتشرفت تلغرافيًّا بقبول تشكراتي لدى جلالة السلطان الأعظم وحصول المحظوظية لدى جلالته. كذا قيل بالتلغراف.
وفي شهر مايو سنة ١٨٨٢ جاءت الأساطيل الحربية الإنكليزية والفرنساوية إلى ثغر الإسكندرية، وتقدمت للحكومة المصرية لائحة مشتركة من دولتي فرنسا وإنكلترا مجحفة باستقلال الحكومة المصرية وحقوق الدولة العليَّة، وتقدمت نسخة منها للخديوي، فرفضها مجلس النظار وقبلها الخديوي، فاستعفت النظارة من وظائفها، وهاجت الأفكار العمومية وطاشت العقول الزكية، واجتمع مجلس النواب وجميع قناصل الدول حولي كعرف الضبع يطلبون مني حفظ الأمن والراحة العمومية، فقلت لهم: لا قدرة لي على ذلك لأني قد استعفيت، فذهب وفد من مجلس النواب، وطلب من الخديوي إعادتي إلى نظارة الجهادية حفظًا للنظام والراحة، فصدر الأمر الخديوي بإعادتي إلى النظارة المذكورة، ثم دُعيت إلى الحضرة الخديوية فوجدت عنده جميع قناصل الدول ما عدا وكيل إنكلترا السياسي، وبحضرته درويش باشا المندوب السلطاني، فأُخذ عليَّ تعهد بحفظ رعايا الدول الأجنبية، وصار إعلان جميع مصالح الحكومة بذلك.
وفي ١١ يونيو سنة ١٨٨٢ حدثت حادثة إسكندرية المشئومة بتدبير ذوي الغايات لأجل تشويه أعمالي في نظر أوروبا، وخدش تعهدي بالحفظ والأمن العمومي، فأسرعت بإرسال العسكر إلى الإسكندرية حتى مُلِئت شوارعها بالعساكر، وانتهت الفتنة التي ابتدأ بها أحد المالطية من التبعة الإنكليزية مع أحد حمارة الإسكندرية بإيعاز وتعليم، ثم صار الشروع في تحقيقها في مجلس مختلط تحت رئاسة ذي الفقار باشا محافظ الثغر، ومن الغريب العجيب أنه لم يبحث أصلًا في الدماء التي سُفكت، بل كان البحث قاصرًا على مقدار البضائع التي انتهبها الرعاع ليس إلَّا، وبعد ذلك تشكلت الوزارة بمعرفة الخديوي تحت رئاسة المرحوم الطيب الذكر راغب باشا، وكنت من رجالها أيضًا، ثم انتقل الخديوي ودرويش باشا إلى الإسكندرية، وفي يوم ١١ يوليو سنة ١٨٨٢ وردت إفادة إلى قومندان عساكر الإسكندرية من طرف أميرال الأسطول الانجليزي، يقول فيها: إنه جاري تهديد العمارة الإنكليزية بترميم القلاع والاستحكامات، وإنه يطلب تخريب القلاع وهدمها بأيدي العساكر المصرية وإلا ضرب الإسكندرية وخرَّب المدينة ودمَّرها، فعُقد لذلك مجلس تحت رئاسة الخديوي حضره درويش باشا المندوب العثماني وقدري بك من رجال الوفد المذكور، وجميع النظار وكبار الذوات المتقاعدين، وبعد المذاكرة أجمعوا على رفض هذا الطلب والاستعداد للحرب، ولكن لا يبدأ بها إلا بعد إطلاق ثلاث قنابل من الأسطول الإنكليزي حتى لا نكون نحن البادئين بالحرب، فأعطيت الأوامر بذلك.
وعند إشراق يوم ١٢ يوليو بدأت مراكب الإنكليز بالضرب على مدينة الإسكندرية وجميع سواحلها، وانتشب القتال بين مصر والحكومة الإنكليزية، وأما الأسطول الفرنساوي فاعتزل جانبًا كالمتفرج، وضربت الطوابي حتى تهدمت استحكاماتها، وفي أثناء الحرب خرج سكان المدينة مهاجرين منها خوفًا وهلعًا، وفي اليوم الثامن انهزمت العساكر فرجعت إلى كفر الدوار، واتخذت خطًّا دفاعيًّا وتراجع المنهزمون إليَّ، وفي ١٤ يوليو أرسلت القطار الخديوي لاستحضار الخديوي ومعيته ومن معه من النظار، ولما وصلت القطارات إلى سراي الرمل لركوب الحضرة الخديوية ورجوعه إلى عاصمة بلاده أبى أن يعود، وأسرع في الذهاب إلى رأس التين بعائلته ومن بمعيته، وانحاز إلى العدو المحارب لبلاده، واستدام الحرب إلى أن قدر الله تعالى شأنه بالخذلان العظيم في التل الكبير كما هو معلوم للجميع، وتم الأمر بنفينا إلى مدينة سيلان، وخرجنا من مصر في يوم ١٦ صفر الخير سنة ١٣٠٠ على قطار مخصوص إلى السويس، وفي سبعة عشر منه بارحنا الثغر المذكور على مركب إنكليزي اسمه «مرتوطة». وفي أول شهر ربيع الأول خرجنا من السفينة إلى ثغر «كولومب» ومكثنا بها تسع عشرة سنة، إلى أن تشرفت جزيرة سيلان بزيارة كريم الشيم عظم الرأفة والحنو الدوق «كرنوال ويورك» ولي عهد الحكومة الإنكليزية، وتشرفت بزيارة سموه في مدينة كندي، وتفضل عليَّ بالسؤال عن حالي وما أقاسيه من تباريح الغربة وذل النفي، فقلت لسموه الإمبراطوري: إني أعتبر تشريف سموه إلى هذه الجزيرة وتشريفي بإقبال سموه عليَّ سببًا عظيمًا لإنالتي نعمة الحرية، والعود إلى وطني العزيز من لدن مولاي الخديوي عباس باشا الثاني، فقال لي: وهل تعرفه؟ فقلت: نعم، وقبلت يد سموه مذ كان في سن ١٠ أعوام، فوعدني خيرًا، فشكرت ودعوت ثم أحسن عليَّ بسيجارة ملوكية قبلتها أدبًا لحفظها تذكارًا للطف سموه، ولم أحرقها بنار، وفي ٦ صفر الخير سنة ١٣١٩ صدرت الإرادة الخديوية بالرخصة لي بالعود إلى مصر والإقامة فيها. وإني أرجو من مكارم سمو مولاي الخديوي عباس باشا تمام رضاه، وقد أعرضت لسموه العالي تشكراتي ودعواتي الخيرية الصادرة من صميم الفؤاد وإخلاص النية، وقد تفضل حفظه الله سبحانه وتعالى بحملي وعائلتي إلى مصر على مصاريف حكومته الخديوية، فأرجو من الله أن يوفقني لما يحبه ويرضاه، هذا وإني أبرأ إلى الله من حولي وقوتي في كل ما ذكرته أو فعلته، وأنَّى يكون للمخلوق العاجز الضعيف مثلي من قوة يدافع بها إرادة أوروبا وقوة إنكلترا العظمى فضلًا عن بطش حكومة مصر الاستبدادية القادرة، وموافقة جلالة السلطان الأعظم على الإعلان بعصياني في جورنال الجوائب، وانحياز حاكم البلاد إلى المحارب لبلاده، وإنما كان ما كان بقضاء الله وقدره، ولا رادَّ لقضائه وقدره، وليس لي فيه إلا مجرد الكسب الاختياري الذي أُثاب أو أُعاقب عليه، ولم يخطر ببالي أصلًا الاقتداء بالفاتحين والمتغلبين كما ذكرتم، ولا بتأليف دولة عربية كما أرجف المرجفون؛ لأني أرى ذلك ضياعًا للإسلام عن بكرة أبيه وخروجًا عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وآله، والبرهان على ذلك ارتفاع صوتي بالمحافظة على حياة المرحوم الخديوي السابق كمحافظتي على نفسي بكرةً وعشيًّا، مع احترام أعضاء عائلته الكريمة، يشهد لي بذلك ما هو واضح بدفتر الأخبار اليومية المحفوظ بالديوان الخديوي وإرادته الخديوية الصادرة إلى مجلس التحقيق بعد الخذلان العظيم بالتل الكبير، وسجننا مع جميع رجال العسكرية وأعيان البلاد وحكامها وعلمائها وقضاتها وتجارها، مما هو معلوم لدى الجميع وغنيٌّ عن البيان. والله الذي لا إله إلا هو فالق الحب، وبارئ النسمة، إني ما خدمت بذلك دولة إنكلترا ولا فرنسا ولا كنت آلة لدولة ما، ولا للخديوي الأسبق المرحوم إسماعيل باشا، ولا للمرحوم حليم باشا، ولا أُوصي إليَّ بمساعدة الدولة العليَّة من عرش عظمتها. وإنما كنت أجتهد في حفظ استقلال بلادي مع نيل الحرية والعدل والمساواة لأهل بلادي المساكين، وأنا خادم لهم، وناديت سرًّا وإعلانًا بتأييدها وتأييدات الذات الخديوية، ولكن المقادير الإلهية غالية، فانعكست المرئيات وتوالت الصعوبات لنفاذ ما هو كائن في علمه أولًا سبحانه وتعالى، وإني والله لا أكره شركسيًّا، ولا روسيًّا لذاته، وإنما أكره الأعمال المغايرة للعدالة والإنسانية والآداب الشريفة، وأحب العدل والمساواة بين جميع بني الإنسان، والحمد لله أولًا وآخرًا والشكر لله وللحضرة الفخيمة الخديوية التي منحتني نعمة العود إلى وطني العزيز؛ لأحظى برؤية ذاته الكريمة، ورؤية أبناء وطني الكرام قبل أن أفارق هذه الحياة الدنيا، والحساب على الله.