سليم صيدناوي
المراد عندنا من نشر تراجم العظماء إما تدوين أعمالهم ليبقى ذكرهم إقرارًا بفضلهم وإعجابًا بمواهبهم، أو نشر تلك الأعمال للاعتبار بسير أصحابها قدوة لسواهم، أو للسببين جميعًا، فترجمة بونابرت والإسكندر ومعاوية وبسمارك وغلادستون يراد بها تخليد أعمال أولئك العظماء والإعجاب بما أتوه من الأعمال العظمى، وترجمة كولمبوس مكتشف أميركا، وباستور مكتشف المكروب، وغونمبرج مخترع الطباعة وغيرهم من أصحاب الفضل على المجتمع الإنساني يراد بها على الغالب تدوين أفضالهم على صفحات التاريخ، وأما تراجم دزرائيلي وبالسي وسليني وروتشيلد وغيرهم من رجال النشاط والاجتهاد الذين وُلدوا فقراء واكتسبوا الثروة أو العلم أو الصناعة بجدِّهم ونشاطهم فيراد بها — فضلًا عن تخليد ذكرهم — الاقتداء بأعمالهم، وكلما اقتربت سير هؤلاء من حاجات القراء زادت الفائدة من نشر تراجمهم، فترجمة رجال السياسة أو الإدارة أو الحرب لا تفيدنا شيئًا فيما نرجوه من التقدم في أعمالنا. وأما رجال العلم أو التجارة أو الصناعة إذا كانوا قد نالوا ما نالوه من الثروة أو الجاه بجدهم وأمانتهم فترجمة حالهم فيها قدوة حسنة للشبيبة من أبناء هذا الجيل، ودِرْهَم قدوة خير من قنطار تعليم.
شروط النجاح
- (١)
المعرفة: أول ما يحتاج إليه طالب النجاح في هذه الحياة أن يكون متقنًا لعمل من الأعمال الصناعية أو التجارية أو الزراعية أو القلمية، كأن يكون نجارًا ماهرًا أو تاجرًا محنكًا في أصناف التجارة، أو عارفًا الحساب التجاري، أو مزارعًا يعرف أصول الزراعة علمًا وعملًا، أو عالمًا بفن من الفنون القلمية، أو متقنًا مهنة من المهن العلمية كالطب أو المحاماة أو الترجمة أو الإنشاء أو نحو ذلك، ويكفي أن يعرف مهنة واحدة معرفة جيدة لا أن يعرف غير واحدة معرفة ناقصة؛ فإن المكثر لا يتقن، والنجاح يحتاج إلى إتقان.
- (٢)
حسن الاختيار: وهو أن يحسن الإنسان اختيار المهنة الملائمة لمواهبه ويضعها في المكان الموافقة له، فلا يتعاطى الصناعة وهو مفطور على التجارة، ولا يشتغل بالعلم إذا لم تتوفر فيه المواد اللازمة له، ولا يتعاطى عملًا حيث لا يُرجى له رواج، كأن يتجر بالأقمشة السميكة في البلاد الحارة، أو ينشئ معملًا لمصنوعات لا تروج في تلك البلاد، أو أنها تُكلف أكثر مما تُكلفه إذا حُملت إليها من الخارج، أو نحو ذلك مما لا يمكن حصره وإنما يتكفل بتمييزه الذوق السليم.
- (٣)
الثبات: كثيرًا ما يفشل العامل ولو توفرت فيه المعرفة اللازمة وحسن الاختيار، ويغلب أن يكون سبب فشله استعجاله في استثمار عمله، فإذا لم يذق ثمر سعيه عاجلًا عدل عنه وشكا سوء حظه أو نقم على الزمان لأنه لا يساعد غير الجهال، وقد يأتي بالشواهد القريبة عن أناس أفلحوا وهم أقل منه معرفة، وقد فاته أنهم إنما أفلحوا بالثبات أو بغيره من الأسباب التي لم تتوفر فيه وهي لازمة للنجاح.
- (٤)
الاستقامة: من الأمثال الشائعة على ألسنة صغار الباعة أن هذا الزمان لا ينفق فيه غير النفاق، ولا يروج فيه غير الغش، وهم يقولون ذلك في كل زمان، وهو غير الواقع؛ لأن الاستقامة والأمانة من أهم شروط النجاح، ولا سيما في هذا العصر: عصر الحق والحرية، وما نجاح الكاذبين إلا إلى حين، على أن الاستقامة لا تفيد شيئًا؛ لأن المستقيم إذا جرَّدته من المعرفة والثبات كان كالعجماوات؛ لأنها سليمة القلب لا تعرف الغش ويندر أن تسرق أو تخدع، وإنما يشترط في الاستقامة أن تكون دعامة للمعرفة لا أن تكون هي رأس مال العامل وحدها.
- (٥)
الاجتهاد: قد تتوفر في الرجل المعرفة والاستقامة والثبات وحسن الاختيار ولا يصيب إلا نجاحًا قليلًا؛ لكثرة المناظرين له في مهنته أو لأسباب أخرى فلا يتم نجاحه إلا بالجد والسهر، وقد يكون الرجل متوسط الذكاء والمعرفة فيعوض جدُّه عن ذلك النقص.
- (٦)
مراقبة الفرص: إن اغتنام الفرص من أكبر أسباب النجاح، وهي على الغالب أهم وسائل الإثراء؛ إذ قد تسنح للإنسان فرصة إذا تنبه لها واغتنمها أغنته عن سعيٍ كثير أو فتحت له بابًا للكسب الطائل الذي لا يتوقعه من عمله الاعتيادي.
- (٧)
أسلوب المعاملة: هذا سرٌّ عظيم من أسرار النجاح؛ إذ قد يكون الإنسان متقنًا ثابتًا مستقيمًا مجدًّا ساهرًا ولا يصيب نجاحًا كبيرًا؛ لأنه لا يحسن معاملة الناس أو أنه اتخذ في معاملتهم أسلوبًا لا يرضيهم، وينبغي لطالب النجاح أن يتحلى بالأخلاق الرضية مع خفة الروح، ورقة الطبع، ودقة الشعور، فإننا نعرف غير واحد من أشهر المتقنين لأعمالهم وقد فشلوا لأنهم لم يحسنوا الأسلوب في المعاملة، وكثيرًا ما يتوقف نجاح المرء على حسن أخلاقه أكثر مما على حدة ذهنه وذكائه.
فسليم صيدناوي الذي نحن في صدد ترجمته وُلد فقيرًا، ونال ثروة طائلة وشهرة واسعة بجدِّه واستقامته وثباته وحسن أسلوبه على ما تراه فيما يلي:
(١) ترجمة حاله
وُلد سليم في دمشق سنة ١٨٥٦ من عائلة معروفة هناك، وكان أبوه المرحوم يوسف صيدناوي سمسارًا تجاريًّا، فرُبِّي في حضن والديه وتلقن مبادئ القراءة والكتابة على قدر ما تسمح به أحوال تلك الأيام، فقد كانوا إذا أتقن أحدهم القراءة في المزامير أو الأناجيل وعرف شيئًا من الحساب قالوا: «إنه ختم علمه»، وكان والده كثير التفكير في مستقبل بنيه، ويرى أن الشاب لا يأمن الفقر ما لم يتعلم صناعة من الصنائع الضرورية، فأدخل سليمًا في محل خياطة إفرنجية، وكانت حديثة العهد في سوريا يومئذٍ، فتعلمها وما زال يشتغل بها حتى انتقل إلى مصر سنة ١٨٧٩.
وكان أخوه سمعان وهو أصغر منه بسنتين قد أتى مصر سنة ١٨٧٧ وفيه ميل إلى التجارة من صغره، فخدم وهو في دمشق في محل تجاري نحو ثلاث سنوات مع رغبة أبيه في تعليمه الصناعة؛ عملًا بالمبدأ الذي قدمناه، وقد علمه صناعة الحياكة، لكنه كان أكثر ميلًا إلى التجارة، وجاء مصر سنة ١٨٧٧ بلا رأس مال فلقي فيها عمه المرحوم نقولا صيدناوي، وكان تاجرًا في الحمزاوي يبيع الحرائر والخردوات، فخدم عنده ونفسه لا تطاوعه على البقاء في الخدمة، واتفق بعد خمسة أشهر من خدمته عند عمه أن تاجرًا سوريًّا اسمه إلياس جهامي تُوفِّي عن أولاد قاصرين، وله محل تجاري في الحمزاوي أراد الأوصياء تصفيته، فاغتنم سمعان هذه الفرصة وتصدى لتصفيته فسلموه إليه، وعمل في أثناء التصفية على استخدام بعض ما يقبضه من ثمن المبيع في ابتياع بعض الأصناف وتصريفها مع سائر البضائع، على أن يكون له نصف ربحها وللمحل النصف الآخر، ولما قارب الفراغ من التصفية بلغت تلك الأرباح ٢٨٥ جنيهًا نصفها له، فاتفق مع الأوصياء على استبقائها كلها بيده، وأن يدفع عن النصف الآخر وعن ثمن بضائع باقية في المحل قيمتها ١٤٠ جنيهًا فائدة قانونية، فكان رأس مال ذلك المحل نحو ٥٠٠ جنيه ثلثها دين على سمعان يدفع فائدة ٢٠٠ غرش كل شهر.
فصرف سمعان عنايته في طلب النجاح بالطرق الحلال، وكان سبب نجاحه على الأكثر أنه اهتدى بتفكيره وسهره إلى المصدر الأصلي للبضائع التي كان يبيعها في محله وهي الحرائر والمناديل، وكان تجار القاهرة يستوردونها من الآستانة، فعرف هو أن تجار الآستانة يستجلبونها من أوروبا، فاستجلبها من هناك رأسًا وباعها بأرخص مما كان غيره يبيعها، فراجت تجارته واتسع شغله.
فلما قدم سليم إلى مصر كان سمعان في محله المشار إليه، فاشتغل سليم أولًا بالخياطة من طريق التجارة، فاشترك مع الخواجه متري صالحاني في محل للخياطة والتجارة، وحصة سليم من رأس المال دفعها أخوه، وبعد قليل احترق المحل وذهب رأس المال كله، وكان بين سليم وسمعان تآلف وتحابٌّ فوق تآلف الإخوة، كأنهما شخص واحد، وكان للمرحوم سليم انعطاف على أخيه منذ الصغر، فلما احترق المحل أغضى سمعان عن تلك الخسارة، وشارك أخاه في الباقي معه، ففتحا حانوتًا في الموسكي عند مدخل شارع منصور باشا لا تزيد مساحته على أربعة أمتار مربعة، أقام فيه سليم وظل سمعان في الحمزاوي، وعقدا الشركة رسميًّا باسم «سليم وسمعان صيدناوي» سنة ١٨٧٩ أي منذ ٣١ سنة، وأخذا في العمل بنشاط وأمانة وهما عازبان يقيمان في غرفة بوكالة يعقوب بك بالحمزاوي ليس فيها من الأثاث إلا سرير ينام عليه أحدهما، ومقعد ينام عليه الآخر، ويأكلان في مطعم بغاية ما يكون من البساطة والاقتصاد، وقد سمعناهما يذكران ذلك بعد أن بلغا ما بلغاه من بسطة الجاه، وسعة الثروة، لا يرون في ذكره حطَّة ولا صغارًا.
(١-١) أساس النجاح
وأساس نجاحهما بعد الشركة حادثٌ يشبه ما يُروى عن نجاح بيت روتشيلد يدلُّ على ثمار الأمانة والاستقامة، وذلك أن سليمًا وهو في حانوته المشار إليه أتته خادمة من قصر البرنس مصطفى فاضل باشا، وابتاعت منه ثوبي دانتيلَّا بستة عشر غرشًا (تعريفة) وفهمت أنه يعني ١٦ غرشًا صاغًا، فدفعت المبلغ ومضت وهو لم ينتبه لمقدار ما دفعته لاشتغاله بسواها، ثم عدَّ النقود فرأى المرأة دفعت ضعفي ما طلب منها، ولم يكن يعرف مكانها، فجاءت في اليوم التالي لتبتاع ثوبين آخرين وبيدها ١٦ غرشًا أخرى، فأخبرها أن الثمن ٨ غروش وهي القيمة التي بقيت لها بالأمس، وأعطاها الثوبين ولم يأخذ منها شيئًا، فدهشت المرأة لهذه الأمانة، وهي نادرة الوقوع، لا سيما في معاملة الأغنياء؛ لطمع الناس بأموالهم، وقصَّت ذلك على سيدتها فشاع خبر تلك الحادثة في بيوت الوجهاء من الأمراء وأقاربهم، فرغبوا جميعًا في معاملة ذلك التاجر المستقيم، وكان سليم يعرف شيئًا من التركية سهَّل عليه معاملتهم، وما زالوا يزدادون ثقة بأمانته كل يوم حتى أصبحوا لا يبتاعون فرشًا أو ثيابًا أو قماشًا إلا بمشورته أو على يده.
فاشتهر بالأمانة والاستقامة بين الأغنياء، فزادت مكاسبه، وضاق ذلك الحانوت عليه فانتقل سنة ١٨٨١ إلى حانوت أكبر منه في الموسكي أيضًا يطل على الخليج، ثم وسَّعوه من داخله بعد ذلك، وهو شطر محلهم الحالي، وفيه أصناف السجاد والفرش، ولما أخذا ذلك المحل اجتمع الإخوان للتعاون على العمل، وظل محل الحمزاوي لهما، وما زالت أشغالهما تتسع ورأس مالهما يكبر، وكلما ضاق المحل وسَّعاه حتى لم يبقَ سبيل إلى توسيعه، فأخذا محلًّا تجاهه جعلاه المحل المركزي وفيه الكتاب والحساب.
ومما يعدُّ خطوة كبرى في طريق النجاح اعتمادهم في المسواق على أوروبا. بدءوا بذلك سنة ١٨٨٥ في فرصة عرضت لهما؛ وذلك أن المرحوم سليمًا أصيب بانحراف في صحته فوصفت له الأطباء الاستشفاء بأوروبا، فاغتنم وجوده هناك وخابر المعامل التي تشتغل بأصناف تجارته، ورأى فرقًا كبيرًا بالأثمان فعاملها رأسًا، فصار ذلك قاعدة في المسواق كل عام، وانقسم الشغل بين الأخوين فتولى سليم المسواق والحسابات وانفرد سمعان بتنظيم إدارة البيع، وما زالا في تقدم، والشغل ينمو ويتسع ويتفرع حتى أصبح محلهم في القاهرة أعظم محل تجاري في الشرق، عدد عماله يناهز ١٥٠ عاملًا من الباعة والكتَّاب غير المستخدمين الصغار وغير مستخدميهم في أطيانهم وعقاراتهم وأعمالهم الأخرى، فضلًا عن محلاتهم الفرعية في منشستر وليون وباريس والإسكندرية وغيرها، وغير البنك الذي أنشأه قبل وفاته شركة مساهمة باسم «بنك صيدناوي وظريفة ونحاس وشركاهم»، وأنعم عليهما الجناب العالي بالرتبة الثانية مع لقب بك، وفي ذلك العام جعلا محلهما التجاري بالقاهرة شركة مساهمة اسمها «سليم وسمعان صيدناوي ليمتد»، وظلت شركتهما الأصلية في العقار والطين باسم «سليم وسمعان صيدناوي» أما ثروتهم فنحو ثمانمائة ألف جنيه، ثلثاها عقار وأطيان والثلث الآخر في التجارة.
حساب الحق أو العشور
قد رأيت أنهما أسسا شركتهما على الاستقامة والأمانة، وقد سيَّجاها بالإحسان على أسلوبٍ جعلا الإحسان فيه فرضًا عليهما لا يتوقعان عليه أجرًا؛ وذلك أنهما تعاهدا منذ تأسيس الشركة — وهما في ذلك الحانوت الصغير — أن يخصصا خمسة في المائة من الربح تفرَّق على الفقراء على سبيل الزكاة، فأصبحا يجردان المحل في كل سنة، فإذا عرفا الربح أخرجا خمسة في المائة منه للإحسان، وسمَّيا هذا المال «الحق أو العشور» تُنفق في سبيل البر، وما زال ذلك دأبهما إلى الآن، وقد زادت أموال العشور بزيادة أرباحهما ففتحا لها حسابًا خاصًّا في دفاتر خاصة وربما بلغ مقدارها الآن نحو ٢٠٠٠ جنيه في العام تُنفق في إعالة الفقراء لا يفرقان في ذلك بين المسلم والمسيحي واليهودي وغيره، للكساء أو الطعام أو المأوى أو بتزويج العذارى اللواتي يحول الفقر دون زواجهن، فكم من عائلة سترها إحسانهما، وكم من بيوت أمست لولاهما خرابًا، يفعلان ذلك ولا يعدانه إحسانًا، وإذا أردت التنويه بذكره تجاهلَا، وقد ينكرانه، ولكن الحق يأبى إلا الظهور، فلا عجب إذا رأيت آثار إحسانها ظاهرة في الجمعيات والعائلات والمستشفيات والمدارس والكنائس، وهي أمثولة للأغنياء يحسن تحذِّيها والعمل بها، فإن المحسنين بينهم قليلون، وإذا عملوا بِرًّا نفخوا بالبوق وضربوا بالطبل وأشاعوا ذلك على صفحات الجرائد التماسًا لحسن الأحدوثة.
(٢) صفاته وأخلاقه
كان سليم رحمه الله ربع القامة، ممتلئ الجسم، مخلص الطوية، صادق اللهجة، لا يحلف ولا يُخلف، وكان واسع الصدر، طويل الأناة، شديد الميل إلى المسالمة والتساهل، صبورًا على العمل، شديد المحافظة على الوقت، كثير الرغبة في مواساة الحزانى، وإعالة المساكين، فإذا احتضر والدٌ وعلم قبل موته أن سليم صيدناوي سيكون وصيًّا على أولاده مات قرير العين مطمئن الخاطر؛ ولذلك كثرت الوصايات إليه وهو لا يبالي بما ينفقه في سبيلها من الوقت أو الصحة، فضلًا عن أعماله في خدمة أوقاف الطائفة الكاثوليكية، وعن توسطه في حل المشاكل بين الشركاء أو الأقرباء أو الأصدقاء.
ومع كثرة شواغله كان كثير الائتناس بأهله، لا يبرح بيته، زاهرًا مشرقًا بقرينته وهي ابنة عمه نقولا صيدناوي الذي تقدم ذكره في صدر هذه المقالة بما فطرت عليه من الذكاء واللطف والتعقل وحب المطالعة، فلم تكن تذخر وسعًا في سبيل راحته، فإذا أوى إلى منزله خففت عنه متاعب الحياة بلطفها وحسن أسلوبها، كما ينبغي أن تكون المرأة الفاضلة، ويعمد هو إلى ملاعبة أولاده أو أولاد أخيه ومداعبتهم فيذهب تعبه وتتجدد قواه، فيزداد نشاطًا على العمل.
(٣) العبرة والموعظة
نحن في مقام ترجمة المرحوم سليم صيدناوي، ولكننا لم نرَ بدًّا من الكلام عن أخيه أيضًا لارتباطهما في العمل وتعاونهما على الخير. أما العبرة بما تقدم فهي أن نجاح هذين الأخوين حجة دامغة على أن الاستقامة والصدق ضروريان للنجاح، ولا يكون مأمونًا إن لم يتعهده أصحابه بالإحسان زكاة أو صدقة، فتزداد المكاسب وينجو صاحبها من غوائل الحسد؛ ليس لأن الحسد يضر المحسودين، ولكن الإنسان إذا ارتقى بأي باب من أبواب العمل كثر حساده ومنتقدوه، وكلما كبرت نفسه كثر الطاعنون فيه، ومن الناس من لا يهمه ما يقال عنه، وإنما يهمه أن تزيد ثروته أحبَّهُ الناس أو أبغضوه، ومنهم من لا يهمه الكسب بقدر ما يهمه حب الناس، فهؤلاء يتلافون الطعن والحسد بالإحسان والتواضع والتلطف، وقد يكون إحسانهم عن إحساس ديني التماسًا للثواب، وكلا السببين الآخرين حسن نافع؛ لأن النتيجة منهما إعالة الضعفاء وعمل الخير، وأما الذين يقتصر همهم على جمع المال لا يبالون بما يقال عنهم فإنهم نموٌّ غريب في جسم الاجتماع ينمو بامتصاص غذائه ويعود بالضرر عليه.
أما الصيدناويان فإنهما أفضل مثال لما ينبغي أن يكون عليه رجال الثروة وأهل الجاه، وهما مع ثروتهما وجاههما يتوخيان البساطة في أساليب معاشهما ويبذلان الألوف في إعالة الفقراء، وهما مثال في الجد والنشاط، يشتغلان من الصباح إلى ما بعد العشاء شغلًا شاقًا يعرفه كلُّ من زار محلهما ورأى حركة العمل فيه.
ومن أسباب نجاحهما غير ما تقدم من الأمانة والنشاط واغتنام الفرص حسن الاختيار؛ فقد اختارا العمل، واقتسماه على حسب استعداد كل منهما: سليم للمسواق والإدارة والحسابات، وسمعان لإدارة البيع، ومن تلك الأسباب أيضًا الثبات؛ فقد ثبتا في شغلٍ واحدٍ ثلاثين سنة، وهو الاتِّجار بالحرير والخردوات لم يتحولا عنه، وإنما وسَّعوه بما يلائم أن يكون ملحقًا به، ومنها أسلوب المعاملة، وهما مشهوران باللطف والتواضع، فلا يخرج الشاري ولا البائع من محلهما إلا راضيًا.