بشارة الخوري
الأغنياء كثيرون في الأرض، ولكن المحسنين منهم قليلون، وأقلُّ من هؤلاء من جمع منهم بين الغنى والإحسان والتقوى، والمرحوم بشارة الخوري قد أضاف إلى هذه الفضائل حسنات يندر اجتماعها في رجل واحد كالدعة، واللطف، وحب السلام، والشهامة، والغيرة، وحسن الطوية، فضلًا عن النشاط والسهر على العمل، والعصامية، فإنه جمع ما جمعه من المال بجده واجتهاده كما يتضح ذلك من ترجمة حاله.
وُلد رحمه الله في عكاء سنة ١٨٣٨ من أسرة كريمة نشأت على التقوى والبر، فرُبِّي في الفضيلة منذ نعومة أظفاره، ثم حدث في سوريا ما حمل تلك العائلة على المهاجرة إلى القطر المصري، فنزلت الإسكندرية وكان صاحب الترجمة لا يزال غلامًا، وقد أحسن القراءة والكتابة فمال إلى التجارة، فعمل في بعض المحلات التجارية بصفة كاتب، فلم تمضِ مدة حتى اكتسب شهرة بين التجار بالاستقامة فتهافتوا على استخدامه.
ولكنه أبى إلا الاستقلال بالعمل لحسابه فافتتح محلًّا لنفسه، فاكتسب ثقة الناس واستمال قلوبهم بحسن معاملته، حتى صار مثلًا بالصدق والاستقامة، وطبيعي أن من كانت له خصاله لا بد من نجاحه، فربح أموالًا طائلة واتسعت ثروته بما اكتسبه من مقاولات عقدها مع الحكومة المصرية، فغلبت عليه القناعة، ومال إلى الراحة والتفرغ إلى المبرات، فاعتزل التجارة ونزح إلى بيروت، ولم يفتر منذ إقامته هناك عن بذل الأموال في سبيل المشروعات الخيرية والأدبية، وانتظم في جمعية القديس منصور ثم تولى رئاستها، وهي من أعظم الجمعيات الخيرية في بيروت، ثم تولى رئاسة الجمعية الخيرية للروم الكاثوليك هناك نحو ١٥ سنة، ولم تقتصر حسناته على سوريا وجمعياتها ومدارسها، لكنها بلغت إلى وادي النيل، فبذل الأموال الطائلة في تنشيط المشروعات الخيرية على اختلاف مواضيعها بقطع النظر عن المذاهب والطوائف، ومما يذكر من حسناته المأثورة أنه لما احترقت الإسكندرية سنة ١٨٨٢ أثناء الثورة العرابية كان للمترجم في الإسكندرية مخازن مملوءة بالأرزاق فلم تمسها النار مع أنها التهمت كل ما جاورها، فعدَّ الناس ذلك نعمة خصوصية نالها هذا الرجل لتقواه وحسن نيته، فلما أخذ مهاجرو المصريين بالعود إلى بلادهم وقد أصابهم ضنك مما تحملوا من تلك الثورة، فتح صاحب الترجمة يده بالبذل والعطاء، وفوض إلى بعض الأصدقاء الإنفاق على سفر أولئك المهاجرين من جيبه الخاص، وتظاهر أنه إنما ينفق من أموال المحسنين، وبلغ مقدار ما أنفقه في ذلك العام ٢٥٠٠ جنيه.
ومما يُروى عنه رحمه الله أنه لما أراد الاقتران قصد بعض مدارس البنات في بيروت، فالتمس من الرئيسة أن ترشده إلى أتقى تلميذاتها بقطع النظر عن حالها من الجمال أو المال أو غير ذلك مما يبحث عنه شبان هذا العصر، فأرشدته إلى أتقاهنَّ، فتزوجها وعاش معها بالسلام والوفاق، وولدت له أولادًا رباهم بخوف الله وغرس في قلوبهم حب الفضيلة، وقضى أيامه ساعيًا في إلقاء السلام بين أهل الخصام، يضرب المثل بإحسانه وحسن سريرته حتى توفاه الله في بيروت.