الأمير بشير الشهابي الثاني
هو أعظم أمراء بني شهاب حكام جبل لبنان في الأجيال الأخيرة، وهم عرب يتصل نسبهم إلى قريش، قدموا بلاد الشام في صدر الإسلام، وما زالوا يتناوبون الأحكام في لبنان ووادي التيم مع الأسر الأخرى من الأمراء وغيرهم تحت رعاية الباب العالي إلى أواسط القرن التاسع عشر.
(١) ترجمته وأعماله
أما الأمير بشير فهو أعظم الأمراء الشهابيين سطوة وهيبة، وبسالة وبطشًا، وأطولهم حكمًا، تنصَّر والده في آخر أيامه ثم تُوفِّي عن ولدين: حسن وبشير، فتزوجت والدتهما وتركتهما وهما في ضنك من العيش، وكان حسن أكبرهما سنًّا فانتظم في خدمة الأمير يوسف الشهابي أمير جبل لبنان إذ ذاك، وأقام في قصبة الإمارة بلدة دير القمر، فأصبح الأمير بشير وحيدًا منفردًا، وكان لوالده خادمة أمينة فلازمت الغلام شفقةً عليه، وأقاما في برج البراجنة قرب مدينة بيروت. أما والدته فسكنت مع زوجها الجديد في قرية الحدت قرب البرج، وكانت تعول ولدها بشيرًا وتسعفه بما يقوم بأود حياته من الطعام واللباس.
ولما ناهز السادسة عشرة أنِفت نفسه من تلك المعيشة فغادر البرج قاصدًا دير القمر، ونزل في بيت الدين بالقرب من الدير في منزل رجل يقال له: الشيخ أبو علي البتديني، وكان شيخ مجلس (خلوة) محترمًا محبًّا للبر، وكان يؤانس في وجه الأمير بشير مهابة الأُسود وشهامة الرجال ففتح له صدر بيته، وأنزله على الرحب والسعة، فأقام عنده بضع سنين يقضي نهاره في الصيد وليله في التحرق لما هو فيه من ضيق المعيشة مع شرف الحسب والنسب، ولكنه كظم على مضض الحياة ينتظر فرصة ينهض بها من حضيض الذل إلى ما تطلبه نفسه من المعالي.
فاتفق أن دروز لبنان وهم الفئة الكبرى من سكانه أنفوا من حكومة الأمير يوسف، وأجمعوا على إنزاله وإقامة أمير سواه، وكان كبير الدروز إذ ذاك الشيخ بشير جنبلاط، وكان نافذ الكلمة شديد البطش، فتشاور العقلاء والأعيان فأخبره بعضهم عن الأمير بشير وقال: «إن هذا إذا تولى الإمارة كان آلة بيدنا لصغر سنه، وقلة أحزابه.» فقال الشيخ بشير: إليَّ به، وليكن مجيئه إلى منزلي سرًّا لأراه ولا يعلم به أحد، فبعثوا إليه فجاء في منتصف الليل، ودخل على الشيخ وحيَّاه، فسأله إذا كان يريد أن يتولى لبنان، فقال: «ومن أين لي ذلك ولا مال عندي ولا رجال؟» فقال: أما المال والرجال فنحن نقوم بتقديمهما لك، فكن ثابت الجأش وتربص ريثما نخلع الأمير يوسف، وأمر وكيله فجاء بصرَّة من الدراهم دفعها إليه قائلًا: خذ هذه الآن، ومتى أنفقتها أبعث إليك بمثلها، واحفظ هذا سرًّا حتى يئون الوقت، فشكره الأمير بشير، وخرج ولم يعلم به أحد.
ولكن صدق من قال: «كل سر جاوز الاثنين شاع.» فالأمير يوسف علم بما تواطأ عليه الدروز والأمير بشير، فعزم على إعدامه قبل تمكنه من الحكم، فبعث إليه أخاه حسنًا وأمره أن يقتله ويأتي برأسه، فسار حسن بالرغم منه حتى أتى بيت الدين، فبلغ الأمير بشيرًا ذلك فجاء ببندقيته وذخيرته وجلس في صدر الحجرة، فلما أطل عليه أخوه من بعيد ناداه قائلًا: «لا تقرب من هذا البيت وإلا فإني قاتلك لا محالة.» وهول عليه بالبندقية، فقال له: «إنما جئت لأخاطبك في أمر.» قال «لا تخاطبني في شيء، أما كفاكم أني مقيم هنا ولا ينظر إليَّ أحد كأنما أنا من السوقة؟! أليس ذلك عارًا على الأمير يوسف؟!» فخجل حسن وعاد وأخبر بما كان وحسَّن للأمير الرفق بأخيه، فبعث إليه جوادًا يريد تقريبه منه وهو غير واثق بما سمعه عنه.
أما الدروز فكتبوا إلى الجزار والي ولاية صيدا (وكان لبنان تحت ولايته) يشكون من الأمير يوسف واستبداده، فبعث إليه الجزار أن ينزل أو أن يبعث إليه أحدًا من ذوي قرابته رهنًا ضامنًا لتسديد ما تأخر عليه من مال الحكومة، فأرسل الأمير بشير تخلصًا منه، ويقال إنه لما أمره بالذهاب إلى عكا ليكون رهنًا عند الجزار قال له: «سر يا ولدي إلى الجزار في شغل.» فأجابه: «أخاف أن أُذهِب ولدك وأُرجِع ولد الجزار.» فلم يفقه الأمير لما قاله.
فوصل عكا ومعه كتب التوصية من الشيخ بشير للجزار وغيره من رجال حكومته وفي جملتهم رجل يهودي اسمه حاييم كان مديرًا لدائرة الجزار وبيده الحل والعقد، وعائلة سكروج، وكانوا كُتَّابًا في ديوانه فساعدوا الأمير بشيرًا مساعدة قوية، فولاه الجزار الإمارة على لبنان، وألبسه الفروة وأعطاه العُدَّة والرجال وأمره بالذهاب إلى دير القمر لاستلام مقاليد مصلحته، فسار في مائتي جندي، وعلم الأمير يوسف بقدومه ففرَّ من الدير ودخلها الأمير بشير وتولاها، وكان الشيخ بشير جنبلاط وأنصاره أنصارًا للأمير في كل ما يريد فتعززت سطوته وذاع صيته.
ولكن لم يستتب له الأمر إلا بعد مقتل الأمير يوسف؛ لأن اعوجاج حكم الجزار كان يقضي لمن يدفع إليه الرشوة الكبرى، فكان يتعهد له الأمير يوسف تارة بدفع قدر أعظم مما يدفعه الأمير بشير فيوليه، ثم يزيد هذا على ذاك القدر فيعيده ويعزل ذاك، وكان اللبنانيون يشتكون أحيانًا من قساوة الأمير فيتآمرون عليه ويتظلمون منه، وبقي الحال كذلك حتى قُتل الأمير يوسف في عكا بأمر الجزار سنة ١٧٩٠م، وكيفية ذلك أن الجزار كان سائرًا إلى الحج فوصل إليه وهو في المزاريب كتاب من الأمير بشير يشكو فيه من دسائس الأمير يوسف، وكان هذا قد التجأ إلى حمى الجزار في عكا، فكتب الجزار إلى نائبه هناك أن يقتله، ثم ندم على مسارعته فبعث إليه أن لا يقتله، ولكن سبق السيف العزل، فقُتِل الأمير يوسف شنقًا قبل وصول الكتاب الثاني، ويقال إنه وصل، وأخفاه ابن السكروج كاتب الجزار خدمة لمصلحة الأمير بشير، ولما عاد الجزار وتحقق ذلك منه قتله.
فاستتب الأمر للأمير بشير، غير أن الفتن بين ولايتي صيدا ودمشق لم تكن تنقطع، واللبنانيون تارة يثورون على أميرهم وطورًا يستبد فيهم محصلو الأموال، ونظرا لكثرة الفئات والطوائف في لبنان لم يكن يخلو ذلك الجبل من فتنة تُهرَق في سبيلها الدماء وتُسلَب الأموال، وكان الأمير بشير يتدبر كل ذلك حينًا بالحكمة، وآونة بالقوة، وتارة بالحيلة والدهاء، حتى بهر الحكام وسحر الرعية، وزد على ذلك أنه لم يكن في مأمن من صداقة رئيسه الجزار والي صيدا؛ لأن الجزار لم يكن يرعى ذمامًا ولا يتفاضل الأمراء عنده إلا بنسبة ما يدفعونه إليه من الخراج والأموال، وكان إذا ولَّى أميرًا لا يأمن انتقاضه فَيَسْتَرْهِن عنده ابنه أو أخاه أو زوجته، فإذا عزله بعث إليه بالرهن ويَسْتَرْهِن أحدًا من أبناء الأمير الجديد وهكذا.
وفي سنة ١٧٩٩م قدم بونابرت بجيوشه لافتتاح سوريا بعد أن دوَّخ الديار المصرية فافتتح يافا ثم جاء عكا وحاصرها، وكان الأمير بشير عونًا كبيرًا للفرنساوية يمدهم بالمئونة والزاد، وقد سُرَّ نصارى لبنان بقدوم تلك الجيوش وخاف الدروز، ولما طال الحصار على الفرنساويين وامتنعت عكا عليهم بمساعدة العمارة الإنكليزية تحت قيادة السير سدني سميث ملَّ الأمير بشير من معاضدتهم، ثم وردت عليه كتابات من السير سدني يبين له فيها: «أن الفرنساوية لما دخلوا مصر نشروا منشورات ادَّعوا أنهم مسلمون وقد كسروا الصلبان في رومية.» وبعث إليه بنسخة من ذلك المنشور فنفر الأمير من الفرنساوية وقطع المؤنة عنهم، وكان ذلك من جملة أسباب فشلهم وعودهم على الأعقاب، ولم يفتحوا عكا مع أنهم حاصروها زهاء شهرين.
وكان الجزار قد تغير على الأمير لمساعدته الفرنساوية ثم علم بكفه عن مساعدتهم، ولكنه لم يقرَّه في مكانه فتوسط له السير سدني سميث، وكان بين هذا والأمير صداقة ومهاداة، وسافر الأمير في أثناء تغير الجزار عليه في مركب من عمارة السير سدني إلى الإسكندرية، وكان ذلك المركب بانتظاره في طرابلس، وبالغ السير سدني في إكرام الأمير وأحبه محبة شديدة لما رأى من هيبته وجسارته، وأمر بتصويره وخاطب بشأنه الصدر الأعظم، وكان قد قدم غزة لمحاربة الفرنساوية ليعيده إلى منصبه في إمارة لبنان فأعاده.
ولكنه اضطر بعد قليل لمغادرة لبنان لعدم رضوخ أصحاب المقاطعات له، فسافر في عمارة السير سدني إلى قبرص وأقام فيها ستة أشهر ثم سافر معه إلى الإسكندرية، وما زالوا في البحر المتوسط بين ذهاب وإياب نحو شهرين، وبعد ذلك عاد إلى إمارته في لبنان وكانت بينه وبين الجزار ومن ولاهم مكانه حروب دامت أربع سنوات، ثم تصالح والجزار سنة ١٨٠٣م.
وفي السنة الثانية تُوفِّي الجزار وخلفه إبراهيم باشا (غير ابن محمد علي باشا)، ولم تطُل ولايته، فخافه سليمان باشا وكان من مماليك الجزار، وبينه وبين الأمير صداقة فأقرَّه في إمارته وأيد نفوذه، وكان أولاد الأمير يوسف من أكبر مناظري الأمير في الإمارة وكثيرًا ما كانوا يتمكنون من إغراء الجزار على عزله والتولي مكانه بمساعدة مديره جرجس باز وأخيه عبد الأحد، فلم يصفُ له الكأس حتى قتلهما بدسيسة سنة ١٧٠٧م، وفي سنة ١٧٠٩م بنى الأمير بشير جسر نهر الكلب، وبعد سنتين بنى جسر نهر الصفا، وكان للأمير ثلاثة أولاد: الأمراء (قاسم وخليل وأمين).
وفي سنة ١٨١٣م جاء إلى الأمير رجل حمصي اسمه بطرس بن إبراهيم كرامة، وكان شاعرًا فصيحًا ومُنشِئًا بليغًا حسن الخط، وكان قد قرأ صناعة الإنشاء والشعر على الشيخ أمين الجندي الشاعر المشهور فجعله الأمير نديمًا عنده ثم وكل إليه تعليم ابنه الأمير أمين، وصار بعد ذلك كاتب يده.
وكان بجوار دير القمر قرية يقال لها: بيت الدين — وقد تقدم ذكرها — فاتخذها الأمير مسكنًا له وبنى فيها الدور لسكناه ولسكنى أولاده وفي جملتها السراي الباقية إلى هذا العهد المعروفة بسراي بيت الدين، وفيها مقر متصرفية لبنان إلى هذه الغاية. وأجرى إلى بيت الدين قناة من ماء تحت عين زحلتا على مسافة ثلاث ساعات يسمى نبع القاع بجانب نهر الصفا، وغرس فيها المغارس والبساتين حتى أصبحت من أجمل المساكن وأبهاها.
وكان الجنبلاطية عونًا كبيرًا له في كل حروبه وأعماله؛ لأنهم هم الذين سعوا في إمارته وقد شدوا أزره وقاموا بنصرته وأيدوا حكومته ماديًا وأدبيًا، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك حبًّا بتعزيز سطوتهم وتأييد نفوذهم، فكانوا ينظرون من وراء مساعدتهم إلى ما يؤيد نفوذهم على الأسر الأخرى الدرزية التي كانت تناظرهم في السطوة ونفوذ الكلمة، وقد سعوا في استخدام الأمير بشير لأغراضهم حتى سئم هو من استبدادهم واعتراضهم له في أعماله، فرأى أن الجو لا يخلو له إلا إذا كسر شوكتهم وتفرد بالأحكام فعوَّل على التخلص منهم.
ولكنه لم يكن يتظاهر بذلك، فاتفق أن أحد الأمراء المدعو الأمير حسن أراد التزوج بابنةٍ ولم يرضَ أبوها به فغضب وقتله، فعل ذلك برضاء الشيخ بشير جنبلاط، فغضب الأمير بشير على الأمير حسن وأمر بالقبض عليه ففرَّ إلى دمشق، وهناك أسلم ووشى بالأمير أنه مسيحي وهيَّج عليه الوالي، فحقد الأمير على الشيخ بشير لأنه نسب ذلك إليه، وفي أثناء ذلك بنى الشيخ بشير جامعًا في المختارة بالقرب من بيت الدين وتظاهر بالإسلامية، فازداد حقد الأمير عليه وأضمر له الشر وعزم على تعضيد الأحزاب المضادة له من الدروز، ولكنه كتم ذلك في باطن سره وبقي مظهرًا الصداقة له كالعادة.
وفي سنة ١٨١٩م تُوفِّي سليمان باشا والي عكا وخلفه عبد الله باشا الخزنة دار بن علي باشا أحد مماليك الجزار، فأقر الأمير في إمارته ولكنه أخلف بعد قليل وولَّى غيره مدة قصيرة، ثم عادت الإمارة إليه فعاد مكرمًا مع الهدايا والتقادم على أن يكون أميرًا على لبنان مدة حياته، ولكن بعض اللبنانيين لم يذعنوا له بدسيسة ممن كان أميرًا قبله، وأبَوا دفع الأموال كما أراده هو فقامت بينه وبينهم حروب آلت إلى خصام طويل بين ولايتي صيدا ودمشق، وكان الأمير يحارب مع عبد الله باشا والي صيدا أو عكا ضد درويش باشا والي دمشق، وقد أخلص النية وبذل قصارى الجهد في تلك المساعدة حتى أوجس درويش باشا خوفًا منه، وكان عالما أن الفضل في ذلك النصر للأمير بشير فكتب إليه يستجلب رضاه ووعده بالولاية على صيدا ولقبه بوالي الشام وصيدا، فأعرض الأمير عن إجابته وبعث الكتاب إلى عبد الله باشا، فَسُرَّ هذا من صداقته وكتب إليه أن يثابر في محاربة الدمشقيين، ولقبه بوالي الشام وصيدا أيضًا. أما الأمير فجاء عكا يريد إرجاع عبد الله باشا عن عزمه في ذلك فلم يُجبه، فسار في الجند كما أمره وعاد إلى المحاربة، فاعتبرت الدولة العليَّة أعمال عبد الله باشا هذه تعديًا على حقوقها فأنجدت درويشًا وأنذرت الأمير بذلك فأذعن، ولكنها اشترطت عليه بواسطة الشيخ بشير شروطًا صعبة في إمارته فلم يرضَ، فاتفق الأمير والشيخ على تولية الأمير عباس فقبل درويش بذلك، وعقد الأمير مع الأمير عهدًا أن يحافظ هذا على بيت الأمير وكل ماله أثناء غيابه، وركب قاصدًا عكا فعلم أن درويش باشا بعث للقبض عليه، فعرج إلى صيدا ونزل من ضواحي بيروت في المراكب ومعه من الحاشية نحو المائة وخمسين رجلًا قاصدًا مصر سنة ١٨٢١م وفيهم إذ ذاك المغفور له محمد علي باشا واليًا فلاقى منه كل رعاية وإكرام.
وكان الغرض من قدومه إليه الالتماس منه أن يتوسط لدى الباب العالي في العفو عن عبد الله باشا؛ لأن الدولة كانت تحب محمد علي باشا وتراعي خاطره على أثر ما أوتيه من النصر في حرب الوهابيين في بلاد العرب بعد أن تعبت الدولة في قهرهم.
وكان محمد علي باشا إذ ذاك في شاغل من أمر الحرب في المورة، وكانت الدولة قد بعثت إليه أن يجند جندًا لمحاربتها، فلما جاء الأمير مستنجدًا طيب خاطره ووعده بالمساعدة وكتب إلى الباب العالي بذلك، وأسكن الأمير في بني سويف ريثما يرد الجواب، وشدد في طلب العفو تشديدًا كبيرًا؛ لأنه كان راغبًا في امتلاك قلب الأمير ولسانه ليكون له عونًا فيما نواه من فتح الشام.
ولبث الأمير في مصر حتى وردت الأوامر بالعفو عن عبد الله باشا فحملها شاكرًا بعد أن تداول مع محمد علي سرًّا بشئون كثيرة تعود إلى مقاصد الباشا في بر الشام، وسار الأمير من مصر إلى عكا بكل إكرام ومعه سلاحدار الباشا حاملًا العفو، فوصلوا عكا وبلغوه ذلك فَسُرَّ عبد الله باشا بفوزه، ولكن الجنود العثمانية في الشام طلبت النفقات المعينة في مثل هذا الصلح ولم يكن عند عبد الله باشا نقود، وكان الأمير قد جاء بنحو نصف القدر اللازم من محمد علي، فضرب عبد الله باشا الباقي ضرائب على المقاطعات وفي جملتها جانب على الأمير، وكان الأمير قد زاد حقدًا على الشيخ بشير، ولا سيما لما بلغه تواطؤه مع الأمير عباس عليه فأحب التخلص منه قطعيًّا ففرض عليه مبلغا كبيرًا من ذلك المال، فدفع جانبًا واعتذر عن الباقي، فألحَّ عليه ففر إلى دمشق، فطلبه من واليها فأمره بالذهاب، ثم التمس من عبد الله باشا التوسط له عند الأمير بالعفو فأظهر الأمير القبول، فحضر الشيخ بشير وكان لا يزال خائفًا من الغدر به فجاء في جماعة من رجاله إلى بيت الدين، وسار توًّا إلى مقابلة الأمير في قصره، فجعل رجاله صفين مر بينهما ذليلًا خائفًا من الغدر به حتى دخل على الأمير وسلم عليه فأمره بالجلوس فجلس مكتئبًا واجسًا، وأمر له بالقهوة فلم يستطع تناولها لما كان فيه من الارتعاش، ولكنه أمسك الفنجان وأراد الارتشاف منه فنظر إليه الأمير بعين الغضب فازداد ارتعاش يده حتى انسكبت القهوة على ثيابه، وكان منظر الأمير مخيفًا بغير غضب فكيف بالغضب! ولم يستطع الوقوف حتى حوَّل الأمير نظره عنه إلى نافذة بقربه، فنهض الشيخ مستأذنًا وخرج.
ثم بعث إليه الأمير أن يصرف من جاء بهم من الرجال لئلا يتكدر خاطره عليهم فانصرفوا عنه، فخاف الشيخ ففرَّ إلى حوران، فضبط الأمير أرزاقه وممتلكاته فعاد الشيخ بشير ناقمًا، وجمع إليه أحزابه الدروز وبعض أحزاب الأمراء مناظري الأمير وقدموا لمحاربته، فانتشبت الحرب بينهما شديدة حتى اضطر إلى استنجاد ولاة طرابلس وعكا ومحمد علي باشا في مصر، فبعث إليه محمد علي باشا «أن ألفي مقاتل متأهبة تنتظر أمركم.»
ولكن لم تبقَ حاجة إليها؛ لأن والي الشام قبض على الشيخ بشير وباقي المشائخ وقتل أحدهم الشيخ علي العماد؛ لأنه من أكبر زعماء الثورة، وكان لوالي دمشق ثأر عليه، وبعث بالباقين إلى عكا، أما الأمراء المتحزبون معهم فقبض عليهم الأمير، وأمر بسَمْلِ عيونهم وقطع رءوس ألسنتهم.
أما الشيخ بشير فكتب الأمير إلى عبد الله باشا أن يقتله لأن أصل الشر منه، ثم علم الأمير أن الباشا أطلق سراحه وأذن له بالسكنى خارج السجن، فبعث إلى محمد علي باشا على يد ابنه الأمير أمين — لأنه كان إذ ذاك في مصر — يخبره بالأمر ويلتمس منه كتابًا إلى عبد الله باشا بقتل الشيخ بشير، فبعث إليه برسول خاص بشأن ذلك فقتله شنقًا مع شيخ آخر، وبقيت جثتاهما معلقتين أمام باب عكا ثلاثة أيام.
وبقتل الشيخ بشير خلا الجو للأمير بشير ففرق أولاده وذويه حكامًا في المقاطعات، وهدأت الأحوال إلى سنة ١٨٢٦ حينما قدمت مراكب اليونانيين إلى بيروت، وكان قدومها عدوانيًّا؛ لأن اليونان كانوا في حرب مع الدولة العليَّة في المورة فبعثوا بمراكبهم إلى سواحل سوريا لافتتاح الثغور.
فلما بلغ الأمير قدوم تلك المراكب جمع إليه رجاله ونزل إلى حرج بيروت لدفعها، وكانت قد أطلقت بعض القنابل على المدينة، فلما علم اليونان بتجمع الرجال لدفاعهم تحولوا عن المدينة، وفي سنة ١٨٣٠م انتدبه عبد الله باشا لفتح قلعة سانور في نابلس فسار وفتحها فتحًا أيَّد ما عُرف به اللبنانيون من الشجاعة والإقدام، وفي السنة التالية قدم المغفور له إبراهيم باشا بن محمد علي باشا لحصار عكا.
والسبب الحقيقي لقدومه يكاد يكون مجهولًا؛ لأن المؤرخين قلَّما أفصحوا عن حقيقته، ولكننا قد عرفناه ممن عاصر الأمير وكان من حاشيته وسمع حقيقة الخبر من فيه، قال: إن محمد علي باشا لما قدم إليه الأمير بشأن العفو عن عبد الله باشا تداولا في أمور كثيرة تعود إلى التعاضد والتعاون عند الحاجة، ولذلك رأينا عزيز مصر لم يتقاعد عن نجدة الأمير في حروبه مع الشيخ بشير كما قدمنا، وأما محمد علي فكان عازمًا على توسيع نطاق حكمه بافتتاح سوريا، وكان يظن صنعه الجميل مع عبد الله باشا والأمير يكفي لبلوغ أمانيه، ولكنه رأى من عبد الله باشا اعوجاجًا عن غرضه، والغالب أن عبد الله كان طامعًا بمثل مطامع محمد علي، فلما علم بما نواه هذا صار يحاذره.
وأدرك محمد علي ذلك فعزم على اختياره والتعويل على تنفيذ مقاصده بالقوة، فبعث إلى الأمير بشير أن يبعث إليه بجانب من الأخشاب التي يحتاج إليها في بناء المراكب فباشر الأمير إجابة طلبه فمنعه عبد الله باشا، فشق ذلك على محمد علي واعتبره بظاهر الأمر مخالفًا لأوامر الدولة العليَّة؛ لأن تلك المراكب إنما هي للحكومة فجرد لمقاصته حملة تحت قيادة ولده إبراهيم باشا فسار لحصار عكا كما قدمنا.
فبعث عبد الله باشا إلى الأمير أن يعدَّ رجاله ويأتي لدفع الجنود المصرية عن عكا، وكتب إبراهيم باشا بمثل ذلك لما بينه وبين والده من العهود، فوقع الأمير في حيرة بين أن يطيع رئيسه الشرعي أو يقوم بمواعيده لدى والي مصر، وكان حاقدًا على عبد الله باشا؛ لأنه رأى منه استبدادًا فيه بعد أن كان هو السبب في عوده إلى ولاية عكا، فترجح إليه أفضلية نصرة الجنود المصرية، فجمع رجاله وسار قاصدًا عكا، وكان إبراهيم باشا قد استبطأ حضوره فكتب إلى والده بذلك، فغضب محمد علي وكتب إلى الأمير يهدده، فأدركه الكتاب وهو قادم إلى عكا، وفي جملة ما قال له فيه: «إذا تأخرتم عن الحضور إلى ولدنا إبراهيم أخربنا داركم وغرسنا موضعها زيتونًا»، فظل سائرًا إلى صحراء عكا فاستقبله إبراهيم باشا بترحاب؛ لأنه كان في حاجة كلية إلى مساعدته فيما جاء من أجله.
وكان الأمير عضدًا قويًّا للجنود المصرية في حصار عكا وغيره من أعمالهم في سوريا. وكان إبراهيم باشا يحترمه كثيرًا ويدعوه «والدنا»، وكان اعتماده في كثير من المواقع عليه وعلى أولاده، ولا سيما الأمير خليل فإنه حارب عنه حروبًا كثيرة في طرابلس وغيرها. أما أهل لبنان فكان دروزهم ضد إبراهيم باشا ونصاراهم معه، غير أن الدروز اضطروا أخيرًا إلى الإذعان بمساعي الأمير وتهديده، وقد جاهد هذا مع الجنود المصرية جهادًا حسنًا، وعرَّض بنفسه للخطر مرارًا حتى كان يضطر أحيانًا إلى التنكر بلباس الفَعَلة وغيرهم خوفًا من مكامن الدروز.
وبعد أن فتح إبراهيم باشا عكا وقبض على عبد الله باشا وبعث به إلى الإسكندرية سار إلى دمشق وبعث إلى الأمير أن يوافيه إليها فجند إليها وفتحوها، وعاد الأمير إلى بيت الدين، وخرج إبراهيم باشا لفتح حمص ففتحها وسار منها إلى حلب يحارب الجنود العثمانية ففتحها ثم فتح أيقونية، وهناك قبض على الصدر الأعظم قائد الجنود العثمانية وزحف على مرسين فترسيس، وما زال في فتوحاته حتى توسطت الدول الإفرنجية وتم الصلح بين الدولة العليَّة وإبراهيم باشا على أن يقف عند حدوده في سوريا وأن يكون واليًا عليها جابيًا لأموالها (كما تقدم في ترجمة محمد علي باشا).
ولما كادت تهدأ الأحوال انتفض النابلسيون وهاجوا وماجوا، حتى اضطر محمد علي إلى المجيء بنفسه لنجدة ولده، فأتى وأخمد الثورة وعاد، وكان ذلك عام ١٨٣٣.
ثم رأى إبراهيم باشا أن الأمر لا يستتب له إلا إذا جرد اللبنانيين والنابلسيين وغيرهم من السلاح، فعهد بذلك إلى الأمير فجمع السلاح ولم يكن جمعه كافيًا لاستتباب الراحة لأن البلاد لم ترضخ لحكومته رضوخًا تامًّا، والدولة لم تفتأ عن محاربته تارة بعد أخرى، فقضى إبراهيم باشا في سوريا نحوا من تسع سنوات لم يهدأ له فيها بال، وفي سنة ١٨٣٧ قدم الدكتور كلوت بك كبير الأطباء المصريين إلى بيت الدين فطلب إليه الأمير أن يستأذن محمد علي باشا في إرسال بعض اللبنانيين يدرسون الطب في القصر العيني على نفقة الحكومة، فنال ما طلبه وبعث بعضًا منهم إلى تلك المدرسة، وفي سنة ١٨٣٨ أمر إبراهيم باشا أن يلبس أولاد الأمير بدل العمائم الطرابيش، وكتب الأمير إلى أقاربه أن يفعلوا ذلك أيضًا ففعلوا.
وفي سنة ١٨٤٠ توسطت الدول الأوربية ثانية في فض الخلاف فعقدوا مؤتمرًا أقروا فيه على وجوب إخلاء الجنود المصرية للديار السورية، ومما حملهم على إخلائها أيضًا أن الحكومة المصرية جندت عسكرًا أدخلت فيه شبانًا من الذين كانوا قد أُرسلوا لدراسة الطب في مصر، فلما بلغ نصارى لبنان وسوريا ذلك خافوا أن يجري هذا التجنيد عليهم إذا استقام الأمر للمصريين بينهم، فانقضوا عليهم، وكان الأمير بشير مع ذلك يحاول إقناعهم في الخضوع فلم ينجح، وحاول جمع سلاحهم ثانية فلم يفز.
ورأت الدول أن إبراهيم باشا لا بد من إخراجه من سوريا بالقوة، فجاء ريشارد وود الإنكليزي بمأمورية سرية، وكان يعرف العربية فأغرى السوريين على كتابة عرض يطلبون فيه من الدولة العليَّة وسفراء دول إنكلترا وفرنسا والنمسا أن يخرجوا الجنود المصريين من بينهم، فكتبوا وأرسلت الكتابة إلى الآستانة.
فجاء الأميرال نابيه في عمارة إنكليزية إلى ميناء بيروت، وبعث يتهدد متسلمها ويبشر اللبنانيين والسوريين بقدوم عمارات أخرى لإنقاذ سوريا من الدولة المصرية، ثم جاءت العمارة العثمانية وفيها بوارج إفرنجية كما تقدم، وأطلقت المدافع على بيروت فتحققت الجنود المصرية أن الانسحاب أولى بهم بعد أن دافعوا دفاع الأبطال وصبروا صبر الرجال.
أما الأمير فخاب أمله وكان يظن فرنسا تساعده عند الحاجة فلم يتحقق ظنه، فاضطر إلى التسليم فسلم فأُمر بالذهاب بمن أراد من أهله وذويه للإقامة في مالطة، فأخذ أولاده وحفدته وكاتبه المعلم بطرس كرامة وسائر الحشية، وسار مودعًا لبنان بدموع الأسف في مركب أُعدَّ له حتى أتى مالطة، فأقام فيها مكرمًا نحو سنة ثم استأذن للإقامة في الآستانة فأُذن له، فأقام فيها مع أولاده نحو ثلاث سنوات، ثم أُرسل إلى الأناضول إلى بلدة اسمها زعفر أنبول فأقام فيها سنة ونصف سنة، ثم أقام في بروسة سنتين منفيًّا أيضًا، ثم عاد إلى الآستانة ومات هناك شيخًا هرمًا، ودُفن في كنيسة الأرمن الكاثوليك بغلطة.
أما أولاده: فالأمير أمين اعتنق الديانة الإسلامية بعد مجيئه الآستانة واستأمن فلم يسر مع والده إلى المنفى، وأما الأمير خليل فبقي مسيحيًّا حتى تُوفِّي في الآستانة.
أما بطرس كرامة فتعيَّن مترجمًا في الباب العالي وبقي مع ذلك محافظًا على صداقة الأمير وتُوفِّي بعده ببضعة أشهر في الآستانة أيضًا.
هكذا كانت نهاية هذه العائلة بعد الحروب الطويلة والمعاناة الشديدة.
(٢) صفاته ومناقبه
كان الأمير بشير ربع القامة، كثير الشعر، حاد العينين، عظيم الهيبة جدًّا، ويُروى عن هيبته وشدة بأسه وصرامته روايات أشبه بالخرافات منها بالحقائق.
ومما يُحكى عنه أنه كان لعظم هيبته لا يستطيع أحد أن يطيل النظر إليه بغير أن يخافه، وكان جهوري الصوت حتى قد يسقط الرجل خوفًا ورعبًا بمجرد سماع صوته إذا غضب. ولولا ذلك لم يستطع أن يحكم اللبنانيين المعروفين بالشجاعة وشدة البأس وقوة الأجسام والعقول، ومما يُحكى عن صرامته أن أحد رجاله الذين كان يبثهم في أنحاء لبنان لصيانة الطرق من اللصوص جاءه يومًا قائلًا: «رأيت أيها الأمير بالأمس في وادي العليق فتاة منفردة في ظلام الليل غير خائفة فعجبت من جسارتها فسألتها عما جرَّأها على المسير وحدها في ذلك الوادي المخيف، فقالت: إني لا أسير وحدي؛ لأن أبا سعدى (تريد الأمير بشيرًا) سائر معي، فعجبت لجسارتها وتركتها.» فحملق الأمير بالرجل حتى كاد يقع صريعًا من الخوف، وقال له: «لقد صدقت الفتاة، ولكن ما الذي جرَّأك أنت على مخاطبتها وهي سائرة بنفسها في طريقها؟» وأمر فقبض عليه، ويقال إنه قتله.
ويُروى عنه من أمثال هذه الحكاية شيء كثير تشيب لهوله الأطفال.
ومما يُحكى عن هيبته أنه لما كان في الآستانة وكان قد زاده الشيب هيبة ووقارًا دعاه الصدر الأعظم لزيارته في مجلس الوكلاء، فلما حضر وقف له وأكرمه، فلما خرج عنف الوكلاء الصدر على وقوفه له فوعدهم أنه إذا جاء ثانية لا يقف له، فلما زاره المرة الثانية لم يستطع إلا الوقوف بالرغم منه، فسأله الوكلاء بعد خروجه عما حمله على الوقوف وإخلاف وعده، قال: «إني وقفت له بالرغم مني؛ لأني حالما رأيته وما هو فيه من الهيبة لم أشعر إلا أني وقفت بغتة.»
وكان إذا جلس في مجلسه لا يجلس إلا جاثيًا على طرف مقعد وغدارته محشوة إلى جانبه.
أما لباسه فكان بسيطا لا يزيد عن القفطان الحريري والجبة والعمامة، وفي آخر أيامه لبس الطربوش كما يشاهد في الصورة.
وكان عفيف النفس قليل النهم في الطعام، وكان يدخن في شبق كبير يسع ربع رطل مصري من التبغ، فإذا أخذ في التدخين يتصاعد الدخان من فيه كدخان الأتون متخللًا شعر شاربيه ولحيته. وكان قوي البنية شديد البطش.
أما آدابه فكانت من العفة على جانب عظيم، وكان بعيدًا عن مغازلة النساء، ورعًا تقيًّا مثابرًا على الفروض الدينية حتى أقام كنيسة للصلاة في نفس منزله في بيت الدين، وقضى حياته طاهرًا عفيفًا لم يدنس عرضه ولا شرفه بدنيئة حتى توفاه الله، وقد أوضحنا أخلاق هذا الرجل وسائر مناقبه في روايتنا «المملوك الشارد».