التكبر وحداثة النعمة
لا بد من التنقل إلى الاجتماعيات، فقد تضجر النفوس أساليب السياسة، ثم نحن إلى الاجتماعيات أشد منا حاجة إلى السياسيات، طال عهدي بفصول كنت أريدها فأجدها، ها أنا اليوم تصبيني الذكرى وتجدد حنيني الصبوة فأرجع إلى التجاريب، بعد أن طال بيننا التهاجر.
أريد أن أصف التكبر وحداثة النعمة، وليس عندي وصف يرضيني؛ لأن الذين وصفوا التكبر وصفوه غاضبين، وأنا أريد أن أصفه هازئًا لا غاضبًا، ويبقى لي شيء أتم به الكلام في حداثة النعمة.
التكبر ينشأ في نفس المرء من أشياء كثيرة، أشدها الحمق، ثم الاغترار بالانتقال من الضعة إلى الرفعة، ثم محاولة العزة عند الناس.
المتكبر ينظر إلى أعطافه ويأخذ في تغيير قعوده ونهوضه ومشيه ووقوفه حتى يستضحك الناظر؛ لأن النفس إذا خلا منها موضع الفضل وباتت الشمائل معطلة من زينة الأخلاق استمكن التكبر وبدت غرائبه.
عرفت رجلًا تكبر بعد عناية أصابته فرأيته في أحد مجالسه وما زال ينحرف في قعوده ويتلوى في توجهه حتى انشق بنطلونه، وافترَّ عن بياض قميصه، فكان عابسًا من فوق وباسمًا من تحت، وكاد أهل المجلس أن يموتوا من شدة الضحك.
ولقد رأيت أناسًا من ذوي الألقاب المستحدثة يتكبرون، فهالني الأمر، فرحت أتحرى فيهم شيئًا من النبل أو الفضل أتخذه عذرًا لهم، فإذا عقول بخواتم ربها، لم تمسها فائدة، وإذا ألسن يتساقط منها الحديث كجلمود صخر حطه السيل من علٍ، وإذا وجوه صفر، كل وجه منها كإمساكية رمضان، وإذا عيون ما أومض فيها بارق من الذكاء، فقلت في نفسي: ما أشد عبث الدهر! يرفع هؤلاء من مواضعهم ثم يجلسهم مجالس ما خُلقوا لها ليفضحهم على رءوس الأشهاد، ولو تركهم حيث ولدوا لكان أشد رحمة بهم.
إن لقب باشا في هذا البلد أشد إسكارًا للمرء من زجاجة الويسكي، يناله القروي الذي رُبي بين الأنعام، وسار يستحث المحراث وتقوم جنباه على مضاجع الهشيم تحت سقوف الأعشاش، ثم ينزل مصرًا أو يطلع الثغر فيرفل في حُلة تكاد تتحل عن أعطافه، يخال رائيه أن ثيابه تمشي وحدها، فيطغى ثم يطغى، ويأتي طغيانه على شكله المضحك وكلامه السمج، كالخضاب على رأس الأصلع، فهذا فضح نفسه ولا يشعر أنه فضحها؛ لأنه يرى ضحك الناس منه فيحسبه إعجابًا بفضله.
يا سيدي الباشا، لو تركت هذا الخان وتبوأت عرش بلقيس تنقله إلى إيوان كسرى، واتخذت من حمرة الشفق بُردك ومن نجوم الأفق أزرارك، وتقلدت لامع البرق حسامًا وجعلت قوس قُزح حمائله، ما زادك في عيني إجلالًا مثل أدب أجنيه من فمك، وخلق كريم أتبينه في طبعك، وإني ليزهدني في كثير من أمثالك ما بيننا من اختلاف الحال، أنا أكتب وهم لا يفهمون، وأنا أخلد وهم يفنون، وأنا قديم عهد بالنعمة وهم حديثو عهد بها، وأنا يكرر ذكري كل ناطق بالضاد، وليس فيهم مَن جاوز ذكره آخر الزقاق الذي يسكنه، أتحدث بنعمة الله، تأدية لشكره، فأين أنت مني حتى تتطاول عليَّ؟
وزراء الغرب وأغنياؤهم وأعيانهم يتواضعون لمن يغشى منازلهم، وهم لم يبلغوا من الرفعة إلا بالجِد والكد وسهر الليالي، وأنت قبَّلت الأذيال ولا تزال تقبلها، فما يرفعك فوق أهل الرفعة.
ألا ترى ملوك الغرب كيف يتواضعون فيكلم الملك منهم الجندي، ويضع يده على كتفه ويقول له بني وأخي؟ ألا ترى سمو أمير البلاد، ما حظي بلثم يمينه أحد إلا خرج ولسانه شاكر وقلبه منشرح، ولكني — أستغفر الله إليك — لقد قايستك مع غير نظير، ولا أطمع أن تسمو نفسك إلى أكثر مما خُلقت له، فكن حيث يسر لك أن تكون، مكانك من الطبع أولى لك.
هذا حديث أتى عرضًا، وها أنا منتقل إلى غيره، شجو في الفؤاد، فاض ثم تدفق، فوا حرَّ قلباه! كم يعاني المتأمل حالات الناس من سوء أخلاقهم! التكبر وحداثة النعمة، بئس القائدان إلى العماية.
السيدات يتجملن بالثياب وبالحلي، والرجال يتجملن بالأخلاق، وإن أفتن السيدات أنضرهن أخلاقًا وأطيبهن شمائل، تلك التي يتضاءل عند نور نفسها لمعان جواهرها، فما ظنك بالرجال؟
ربَّ كرسيٍّ يضطرب فوقه حديث النعمة وكأنه جالس على قرن الثور، لو اتخذ درجة لركوب الخيل لكان أرفع قدرًا، ورب متكَأ يغوص فيه حديث النعمة لو تحول مربطًا لجواد لكان أشرف قدرًا، حداثة النعمة فتنة من شر الفتن، ولكن الشرق مظلوم، محاسنه أقل من مساوئ الغرب، وهو غير أن مختال بها، يا مطلع الشمس وموطن المجد، متى يغنيك الله عن الغرانق ويبعث فيك مثل أولئك؟ إنك لجدير بالرحمة.