ما يمنع القلوب أن تطير من الصدور؟
على أبواب الوطن، بين السماء المضطرمة والأرض المضطربة، جمعان حالاهما مختلفتان، جمع سكن سكون الأبد اتخذ من حواشي الجبال مضاجع طاب عليها رقوده، تنفخه أنفاس الشتاء وتنديه مدامع السحاب، كأن الشباب زاده واليوم ينقصه البلى، وكأن الأمل أسكت أفواهه واليوم تُنطق الظلامة جراحاته، وجمع رُكزت له راية، فهو مقيم يحميها، لابث مكانه، لا يستقدم ولا يستأخر، كأن أقدامه استأصلت في موقفه، موكل بمخارم جتالجه، يضرب عليها بالأسداد، قُضي عليه أن لا يسهر إلا على ظاهرها، وأن لا ينام إلا في باطنها، وفي أعشاش القرى ومنازل المدن أصوات تتجاوب بالعويل، وعلى السُّرر المتقابلة أجساد استُخلصت من الموت أو كادت، التفت حولها العوَّاد، وبين هذه القيامة دولة كظل الجام على المائدة، لا يراه إلا المتثبت، تستجمع قواها لتصول صولة واحدة، إما إلى حياة تستمر فيها المغالبة، وإما إلى موت تستكن فيه الآمال، هذا هو المشهد الذي تتملى من مشاهدته دول أوروبا، بنات التمدين عرائس القرن العشرين.
لو شاءت تلك الفاتنات أن لا تروع بهذا المشهد لفعلت، إشارة واحدة كانت تستوقف الخصمين، غير أنها آثرت الغرض على الإنصاف، فباتت وعلى أعناقها من آثار تلك الدماء المراقة قلائد ليست حلى ولا شكلًا، تلازمها على توالي الحقب، شاهدة بآثامها عند أحفادها.
سليلة السبعة الأعصر محتضرة، إنَّا نراها مختلجة على مرقدها، لن يضير زوالها إلا العثمانيين، هم وحدهم أولى الناس بالوجل وبالجزع، إن تشتم أنفاسها تقض بسنن الماضيات من الدول، غير أن ذاك الاسم الكبير، اسم العثمانية، يبقى خالدًا، مشرقًا في أوله، مظلمًا في آخره، ويشهد الله والناس أنه لم تمحُه أكف الأعداء بل أكف بنيه، وأنه لم يضيعه إفراط الأعداء في هجومهم بل تفريط الأبناء في حذرهم.
تنادوا بالحرية فأتت وأعطافها تقطر دمًا، بئست الغانية، أغلوا لها المهور فاسترخصت الآمال، لم يبقَ يومئذٍ في مكان الفتنة جانٍ إلا وتبدى للأعين، لقد أصبحت دُور الحكومة كخلايا النحل من كثرة المترددين عليها، كلٌّ يحمل رأيًا ويبتغي له ثمنًا، حتى راحت ملايين الذهب في تلك الهوات، ولم تحصل الأمة من ناهبيها إلا مواعيد أبعد شيء عنها هو الوفاء، وثقت بالدولة فوليها المتغلبون، ووثقت بالجيش فاستهواه المتغلبون، ووثقت بنفسها فضربها المتغلبون، ثم وثقت بدول التمدين فأعرضت عنها بوجوهها النضرة. ألا في ذمة الله تلك الثقة، تُهدى إلى الخلائق فيردونها، كأن الله تعالى لم يخلق لها صاحبًا.
إذا دعت الفائدة دول الغرب بذلت في سبيلها كل ودٍّ، ولو كانت أبصر بالفائدة من وجه حلال لأقبلت على هذه الدولة مطالبة بفض هذا الجمع الثائر، جمع الاتحاديين؛ فإنه لا شأن له اليوم، ما رجاله إلا كغيرهم، تتخذهم الأمة أوصياء على نفسها ولم تولِّهم الوصاية دولة من الدول، فلو كانت هذه الدول اتحدت على مطالبة الحكومة العثمانية بذلك؛ لأفادت العثمانيين ولاستفادت.
أية أمة تطيق هذا الذل؟ خمسة أعوام طوال مضت، وأعنة الأمور بأيدي أناس لا ندري من أين طلعوا، فيهم الجاني والمستبد والمتعصب والسارق والممتهن، أوزاع وأعناق لا تكون أسرابًا ولا أقطاعًا، فكيف تكون مملكة يُراد أن يُعاد بناؤها؟
تخاطفوا ما ادخره عبد الحميد وتناهبوا ما علق بأركان الخزائن الفارغة، وأنزلوا الويل على رءوس الأمة حتى استغاثت بالأغيار، وأوقعوا في الناصحين تقتيلًا وتعذيبًا، وصالوا على أهل الرأي يخرجونهم من وظائفهم، ثم فرطوا سلك الممالك فتهاوت متتابعة من طرابلس الغرب إلى البلقان، وجاءوا في أواخر أيام الدولة ليحرموها الموت في دعة.
أربعون مليونًا وأكثر من الأربعين مليونًا، ذهبًا عينًا، لو اشترت الحكومة العثمانية بهذا المال حجارة ترصف بعضها فوق بعض لحالت دون إيغال المتغلبين في أرضها، أين ذهب هذا المال؟ وأين بات ذلك الجيش الذي قالوا إنه في مقدمة جيوش العالم؟
قد كان لأنور بك ولإخوانه من الرأي ما يعلمهم فرق ما بين الحرب في درنة والحرب في البلقان، هذا مقدار من المعرفة لا يحتاج أن يكون صاحبه أركان حرب، فكيف خُيل إليهم أن مقتل ناظم باشا وإسقاط ذلك الشيخ العظيم كامل باشا يستدفعان غارات الأعداء؟ ليهنأ أولئك المتطفلون، إن الأمة غافلة، وإن غفلتها ستصاحبها إلى أن يتقلص هذا الظل المتضائل، ظل العثمانية. ولكن كيف السبيل يومئذٍ إلى استرجاع ما مضى، وما مضى لا يُسترجع؟
أستثني أنور بك ورفيقيه على علاتهم، ولكن ماذا صنع الباقون؟ قضى منظم هذا الجيش أوقاته في بيته كما تقول جريدة الطان، وتقلد طلعت بك حسامه في أول الحرب وتوجه إلى أدرنة، واليوم مات من القواد والجنود مَن مات وجُرح مَن جُرح وأُسر مَن أُسر، وبات في حصار أدرنة ألوف من المدافعين، وفيهم خلق كثير حتى من مكاتبي الجرائد والقائد لم ينزل عن فراشه الوثير والناظر لم يبدُ للأعين إلا محتميًا بظهر أنور وأنصاره، هذا مبلغ شدة القوة في الذود عن دولتهم، وهذا منتهى نجدتهم في معاندة دول العالم.
ليس لدينا لسكان البلاد إحصاءٌ يُوثق به، غير أنهم كانوا يقولون إن عددهم ثلاثون مليونًا، وكنا نزيد ثمانية من عندنا فنقول ثمانية وثلاثون مليونًا، فكيف يبقى عدد الجنود المجندة من هذه الملايين غير متجاوز ثلاثين ومائة ألف مقاتل؟! ما ذاك إلا أن العدة منعدمة، وأن الأمة افتقدت نشاطها الأول، وغلب عليها اليأس وأدركها الوجوم، وإلا لعبت تلك الوديان بسيل من قنا وجياد، ولتوجت ذرى الشم الصعاب بالمقاتلة من كل الأجناس.
لطم حقي باشا في بعض هجماته إسماعيل كمال بك لطمة دوى صوت وقعها في آذان النواب، فصبر لها إسماعيل كمال وأسرَّها في نفسه، ولم ينهض في ذلك اليوم نائب يؤاخذ الضارب، جهل الجميع أن حقي باشا لطم ألبانيا بأسرها، أجل، لقد أحس بوقع تلك اليمين كل ألباني ذي حياة، ولقد انتقم إسماعيل كمال، غير أن انتقامه أصاب الدولة ولم يصب المعتدي، وبقي حقي يغشى معاهد لذاته في بيرا وغيرها، والدولة والأمة تنضحان دمًا وتتقدان ألمًا.
نموت كرامًا أو نعيش كرامًا، ما أجمل الكلام لو قاله غير قائله! وكم من كلام حقٍّ يُراد به الباطل، ولا يحتاج الخادع لخدعة الأمة العثمانية إلى أكثر من هذا، غير أنا — وا حسرتاه — نعيش أذلاء، ونموت غدًا أذلاء، وتبقى تلك الأموال المختلسة من خزائن الدولة ينفقها مختلسوها في سبيل لذاتهم، لا يُحيون الدولة الزائلة بقطرة من دمع، ما فات مات، وقد قال كُثير عزة:
الآن لما كادت الحرب تطوي شرتها، ويُدعى إلى التقاضي قاتل الأمة وناهبها، يأتي الجانون وأيديهم تقطر دمًا، وأكياسهم تتفجر ذهبًا، يستعيدون المخادعة؛ ليستروا تلك الآثام، ثم يُنادون بيننا باسم الوطن الذي قتلوه، ونصدق نحن ما يقولون، إننا إذن أبعد الناس عن الصواب، كلا، إن اسم الوطن أرفع من أن تتماضغه تلك الأفواه، نخشى عليه من حر تلك الأنفاس التي تنفخ بسموم المطامع، على الأمة أن تنظر في أمرها، لا بد لهذا العبء الثقيل أن يُوضع، أفي ساعة الموت نروَّع بهذه الوجوه؟ ما يمنع القلوب أن تطير من الصدور؟