الأحرار وأعداؤهم
قال قيس بن زهير:
لله أبوه! ما أصدق قوله، وما أعرَفه بمواضع الرأي! إن طوائف المتعصبين الذين أجفلوا من سيف الحرية وأظهروا الرضاء بالانقلاب العثماني يصدق فيهم هذا الكلام، لقد خفضوا لنا أجنحة الذلة وأبدوا جانب الاستكانة رهبًا لا رغبًا، والظلم كمين في نفوسهم يخمد الضعف جذوته وتلهب القوة جمرته، ولو أمكنتهم الغرة لاقتحموا إلينا الأهوال ولأخذونا من نواصينا ولجرونا على بطاح الأرض جر المحتطب حِزم الوقود، كل ما تتحرك به ألسنتهم من قول لين يخرج من قلوب استوطنها الجبن، وتوجبه عزائم استولى عليها الخور، يكذبوننا المودة ويحتفرون لنا القبور، يدٌ قد بُسطت بالضراعة، وأخرى في قائم العضب ومقلة مسبلة بدمع كاذب، وأخرى تتحرى مواضع الأسلاب، هذا هو الودُّ الذي مزقه التخالف وتحاول أن ترفعه الحاجة، باءوا بإثم الغواية كما استقلوا بخزي النفاق.
أقام عبد الحميد بصرحه الممرد ثلاثة وثلاثين عامًا، كان كلما أنحى بشفرته على رقبة علت من جوانب ملكه صيحات الصائحين، الله أكبر الله أكبر، وكانت كلما غذَّت الوالدات أطفالهن ناداهم أولئك الأبرار: أسمنوا ضحاياكم. وكان الملك الأحمر بين أقطاع الضعاف من رعاياه تتساقط حوله الذبائح والمنابر تهتز بالأدعية والمدائح. قالوا في تمجيده: ظِل الله في أرضه، وسلطان البرين والبحرين، وخادم الحرمين الشريفين، باني الكون، المتصف بصفات الملائكة، من عتبته بمنزلة الأفلاك، وقالوا في الدعاء له اللهم أطل في العز أيامه وحكِّم سيوفه في رقاب أعدائه، وانصر عساكره وامدده بجنود من ملائكتك. ورعاياه المذبوحون يسمعون وهم في آخر كل دعاء يقولون بفم رجل واحد آمين اللهم آمين، مولين وجوههم شطر القبلة شاخصة أبصارهم مبسوطة أكفهم، ونحن نقول: يا هؤلاء نحن مظلومون، فيقولون: أنتم كاذبون بل أنتم معتدون. وما فتئت الأمة المسكينة يقص زمان عبد الحميد من حواشيها حتى أودى خيارها وبقي شرارها، وهم اليوم يكفرون الباءَ الملل ويحاولون أن يستعيدوا الكرة.
الآكل من كسب غيره وهو قاعد لا يُحمِّل نفسه عناء السعي لرزقه، وإذا علمت الأمة حقائق الأشياء وبصرت بضلالات أهل التعصب قبضت عنهم جدواها ومنعتهم ورد جودها، والقوم يعلمون ذلك ولا يدانيهم فيه ريب فمن أية الطرق يأتي نحوهم الإنصاف؟ لو جمعنا العمائم التي بالبلاد العثمانية وجعلنا بعضها فوق بعض بنينا حصنًا يعجز عن هدمه أسطول إنكلترا بأسره، ما في هذه الجوزات ما يُرجى منه أقل الفوائد إلا آحاد لا يصعب تسميتها، وما بقي من ذلك الجمع العديد، فأنصار للاستبداد، سواءٌ عليهم حق وباطل، لا يعجبهم من الحياة الدنيا إلا الجفان أو ما يكون ثمنًا للجفان، أروني واحدًا من هؤلاء للمبردين يكون جادَ بدرهم واحد في خير يريده — يا بُعد ما تُمنى به النفوس — هذا والقوم كلهم مثقلون بالصفر والبيض يجعلونها في أشداقهم كما تجعل القردة مآكلها في أشداقها خيفة خاطف يخطفها، ثم إذا التفَّت عليهم المحافل ألفينا كل عُثنون كحديدة الفاس يضطرب غضبًا لرأي رآه أحد العقلاء، فكم من عَنْفَقة كذَنَب السمكة تهتز على أثرها وتغضب لغضبها، ما أشقانا بهذه المخلوقات!
يغِشُّوننا ونغشهم، ختل بختل، كل فريق يود أن يحرز الغلبة على مضاده بحيلة يحتالها، ولبئست أسباب الفوز في هذه الحرب العوان اتفق المنافقون من أدعياء التقوى أن يُظهروا حسن النية ويبدوا جانب الود لمخالفيهم، وذلك بعد أن شرت سيوف أبطال الحرية من النفوس وباعت، فلما أفرخ روعهم وثاب إليهم بأسهم السالف أسمعونا صريف أنيابهم وقلبوا لنا صفحة الود، وأضحت تلك الألطاف أحاديث مغتبق ذهبت الكميت بلبه، أو أهازيج طير استُطير من عشه فذهبت الريح بصداها.
آكل اللحم لا يغذوه النبات، والسمك لا يعيش في غير الماء ولو فرشوا له خدود الملائكة وجعلوا مساكنه سواد المُقَل، والمعمم لا يطيب له مقعد على متن طائرة ولا على ظهر دارجة، ومخادعة الناس بدعة من بدع عبد الحميد، وليس من الإنصاف أن نبغض الرجل لظلمه حتى نزيله عن سلطانه ثم نعاود شأنه ونستعيد سيرته.
وبعد فقد رأى قراء المقطم الأغر عجائب في نهج حكومتنا العثمانية — رعاها الله — تأتي بالواحدة من باهرات الحكم حتى لتعشى عندها الأبصار وتتضاءل أنوار الفهوم، وبينا تلهج الألسن بإطرائها وتعقد الخناصر على كل أعجوبة من مآثرها إذا بها كممثل الفصل المضحك في آخر رواية كلها حِكم وكلها عبر. وما نريد أن نحصي تلك الخطيئات، وليس فينا شامت ولا بيننا عدو رقيب. إن لنا في مفاخرها ومخازيها لنصيبًا يصيب كل مستظل براية الهلال، غير أننا معيرون بهاتيك الخطيئات ملزمون من خصوم غير غافلين بإلزاماتها، لا حكمة نستبين بها المراد مما نرى ولا في أولي الأمر مَن يتكلفون بيانًا لما أشكل علينا، وليس لدينا مَن يدعي علم الغيب ولا من يستطيع كشفًا لما تخفيه الصدور.
واقعة العلامة الزهاوي ليست فذة في مواليد الشرور، ولكن لها أخوات تخالفها ظواهر وإن لم تخالفها حقائق، لقد وقع مثلها لصديقي العثماني الحر يوسف سامح بك أحد الموظفين في نظارة الحربية المصرية، ولو كان هذا الفاضل ممن قضى عليه شقاء الجد أن يقيم في بلادنا الدستورية لسمعنا على بعد الديار أنينه في سجنه وصليل السلاسل على سواعده. ويوسف سامح رجل من العثمانيين الأحرار الذين هاجروا من بلادهم، ورأوا في أرض مصر أكنافًا موطَّأة وجوانب مذللة فصدقها الخدمة وصدقته الجزاء. ولما انتشلت الأمة حريتها من كف سالبها وتباشر الناس بعهد جديد وصفو مقبل رأى أن يتحف إخوانه العثمانيين من العنصر التركي بكتاب جليل الفائدة جامع لأشتات الحكمة، وهو كتاب تحرير المرأة الذي وضعه العالم الحر المرحوم قاسم بك أمين، فترجمه إلى التركية بأجمل أسلوب، فأصدر مجلس الوكلاء بالآستانة قرارًا إداريًّا يمنع به دخوله إلى الأقطار العثمانية، وقد علمنا أن الحكومة توخت هذا الجنف استرضاءً لفريق المتعصبين، فهذا قلم مِذرَب تريد الحكومة الحرة أن تكسر شَبَاته، والدستور رهين الإرادة، فيومًا هو بمنزلة الوحي ويومًا هو مهجور ومنسوخ، قاتل الله الأهواء.
لا ندري ما خطب حكامنا، يقودون أم يُقادون، الأمة قاصرة وقيِّمها الحكومة، وإذا أطاع القيم أهواء القاصر تعطلت أحكام الحكمة، وما أُرخي العنان لقوم حديثي عهد بالعتق إلا اشتد جماحهم وتعذر كبحهم، وكما ضمنت الحكومة تعليم الأمة فرض عليها أن تضمن تربيتها. إن لأهل الصلف المتزهدين والمتورعين من الخطل ما لا يُستطاع معه إحكام أمر، وحسب هؤلاء أن تُدرَّ عليهم هبات المحسنين وأن يأتيهم رزقهم غدًا، إن يقنعوا فذلك الكفاف وإن يطمعوا فيما وراء ذلك فنصح نافع أو زجر رادع أو لجام مصرف في يد تعودت حبس الأعنة واقتياد الصعاب.
الأديان مناهج للناس إلى ما يُستطاع من الكمال، فإذا هي تجاوزت ذلك وأضحت سلعًا يتجرون بها كان شرها أكثر من خيرها، وإن من أشد ما ينزل بالحر أن يُبلى بقوم لا تسمو مداركهم إلى مقاصده فيتعسفوا في تأويلها الشبهات، حتى إذا أعيتهم المناظرة وأعوزتهم الحجج عمدوا إلى الفساد فاستثاروا العامة إلى الوقيعة وفزعوا إلى الختل والغدر، وأكبر من هذا أن تكون الحكومة عونًا للمفسد على المصلح لا اعتقادًا بإيمانه ولا إعجابًا برأيه، بل تحببًا إليه وإقرارًا بالعجز عن إخضاعه وتقويمه.
لقد ذُهلت حكومتنا الدستورية عن الدستور في قضية الزهاوي، وفي كتاب المرأة الذي ترجمه يوسف سامح بك، ثم فعلت مثل ذلك بكتاب كان ترجمه صديقي العثماني الحر الدكتور عبد الله بك جودت، كفانا الله شر الآتية من الهفوات، فهي — ولا شك — أشد وأنكى.
قيل لرجل: لم لا تصلي؟ فقال: إن الله توعد المصلين في قرآنه الكريم إذ قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، قالوا له: ولكن بقية الآية تنفي زعمك، وهي قوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، قال: إنما ذكرت ما أحتاج إليه وتركت ما لا حاجة لي به. ولأحد الشعراء الأقدمين بيت في مثل هذا المعنى وهو قوله:
فهل تريد حكومتنا أن تجري في اتباع أحكام الدستور على هذا المنهاج، تحتفظ بمالها وتسهو عما عليها؟ إن هذا إلا ضلال مبين.
عمرو بن معدي كرب الزبيدي كان من الصحابة، توجَّه ذات يوم إلى صديق له فحياه بقوله: عم صباحًا، فقال الرجل لعمرو: أو لم يبدلنا الإسلام عن هذا بما هو خير منه، وهو السلام عليك، قال عمرو دعنا مما لا نعرف، هل لك في جدي مشوي وخمر معتقة؟ قال الرجل: أتشرب الخمر وقد حرمها الله علينا في كتابه؟ قال عمرو: والله إني سمعت ما بين دفتي المصحف فما وجدت لها تحريمًا غير أنه قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، فقلنا: لا.
لقد مضى على الهجرة ثلاثمائة وألف عام فأروني اليوم رجلًا يقول مثل ما قاله ذلك الصحابي ويبيت في مأمن من خطب يحل بساحته، أما أننا ليصدق فينا المثل الفرنساوي: أشد تمسكًا بالملك من الملك.
لكل ذي فكر رأي يراه، فإن كان صوابًا فالفوز له وإن كان خطأً فلا جُناح عليه، والمدارك درجات بعضها فوق بعض، ودركات بعضها دون بعض، وإن أمامنا لدستورًا يشمل حكمه رقاب الأتقياء وغير الأتقياء، حسبنا ذلك هديًا وحسبنا شرعًا، البار أخونا والفاجر أخونا، ورحمة الله وسعت كل شيءٍ.
نُبئت أن رجالًا من أهل الفضل جمعهم محفل أدب ليلة نشر استفتاء العلامة الدكتور شبلي شميل، فأخذ كلٌّ يُظهر ما عنده، فقال قائلٌ: إن الزهاوي رجل متبذل في دنياه، وقد كتب ما يعترض أصل الدين، وأرى أن نؤاخذ الحكومة العثمانية من غير هذه الوجهة، قلت هذا ينطق لسان حاله بقول ابن الصمة:
تفتأ هذه الحسرات تأكل قلوبنا وتستطير آمالنا وتوهي عزائمنا، لولا ذمة توجب مواصلة الجهاد ونخوة تأبى إقرار الظلامة، فإن يُحرم إخواننا الذين هم في أوطاننا من ثمار ما تجود به كبيرات العقول فإن تلك الكتب باقية خالدة، لا تُمحى كلماتها ولا تجفل معانيها، ومَن صبر ثلاثة وثلاثين عامًا يصبر عشرة أخرى حتى يأتي الفرج، وإنه لآتٍ وأنوف المتعصبين راغمة، فاطمئني أيتها النفوس اطمئني.