إحدى عواصف الضمير
أجل إننا خاطئون، صدق لسان الحال وشهدت التجاريب، من ذا الذي يرى عدوه يغدو ويروح أمام داره، ينتزعه الرصاصة بعد الرصاصة ويعلم أنه لا محالة داهمه يومًا إذا ضاقت به الحيل وأعياه طول الاصطبار، ثم يدع بابًا مفتوحًا لا حارس عليه، أكنا نرجِّي أن تأخذ عدونا رحمة بنا، أم كنا نحسب أن سيقف أمامنا ويحيينا بالورد والآس؟! إنا إذن مجانين.
قوم عبئوا فيالقهم واستحثوا سابحاتهم وجاءوا يمطروننا قنابل ويصلوننا نارًا، طمعًا في أرض لا تربتها خصبة ولا ماؤها عذب، نهبًا واغتصابًا، يطئون الخدود المعفَّرة ويمشون على العظام النخِرة، لم تسترجعهم آداب العصر العشرين، ولا نفذت إلى قلوبهم صيحات الساخطين من أبنائه، يستنيمون إذا عجزوا ويفتكون إذا قدروا، قد استحلوا بلادًا غاروا عليها؛ لأن أهلها عرب، ولأن حكامها ترك، فكانوا فيها أشد خشونة من أهل القرون البائدة.
مضت خمسة شهور ونحن مع إيطاليا في حرب، قد أعدت لنا الموت في ألوانه المختلفة، ونحن ماذا أعددنا لها، سوى فئة قليلة تغذوها الفدافد ويسقيها الغيث، تسيل نفوسها على زرق الأسنة دوننا ونحن كعجائز الولائم، نأكل ونحملق، وفي أم عواصمنا أناس أعطوا الله مواثيقهم لا يتركون هذه الدولة وفيها من الحياة بقية، الأمم المحبة لنا تنصح، وأهل الرأي منا يرشدونهم، ولكنهم حرنوا حرانًا، لا يريدون أن يتحولوا عن وجهتهم.
أنحن مخلصون لهذه الدولة؟ كلا ثم كلا، يا بُعد ما بين الإخلاص وبين هذه القلوب! إن نحن إلا أقوام إذا صفا الدهر لنا أيامًا فخرنا بغير فخار، وادعينا ما ليس من طباعنا، كم بذلنا في سبيل الدفاع عن طرابلس، لولا ما ندبت به أكف سراة مصر وسائر بنيها من المال لجفت أكباد أبطالنا في حومات الوغي، قصور شاهقة أظلت شطي البسفور وذهب مذخور ونفائس مصونة في خزانات من الحديد، وعندنا أصحاب الدولة والعطوفة والسعادة والعزة والرفعة غصت بهم مجالس الشرف لم تسنح نفوسهم بنصف ما سنحت به أنفس المصريين، وكان قائلنا يقول قبل اضطرام الحرب: ألا لا تجهلن علينا إيطاليا، ألا لترجعن إلى صوابها، أما لنقومن أما لنفعلن، فلما جهلت إيطاليا ولم ترجع إلى صوابها ملأنا الدنيا صياحًا، وأعولنا إعوال الثاكلات، وذهب وعيدنا كنفثة مصدور في ريح عاصف.
أي بني بلادي، لا أكذبكم، إذا كان أغش الناس لكم أحبهم إليكم، فهذا قلمٌ لا يعلم تلك المسالك، اختلفنا وجوهًا وأشكالًا، ولكننا اتفقنا طباعًا وغرائز، يا ويل المخلص العاقل بيننا! يرى ويفهم ويقول فلا يُسمع، إنما يطربنا نغم المادحين، سواءٌ علينا صدق أم لم يصدق، إنما نريد أن نُمدح، ومن وقف بيننا موقف الناصح الأمين تهاوت على قفاه الأكف حتى تبقى على أديمه وسومًا وندوبًا.
يا ويلنا! إذا برزنا إلى ميادين الحفاظ وسلاحنا عَبراتنا، فما نستبقي للعقائل التي في الخدور، هذه رقة لا الحضارة مصدرها ولا الحكمة أصلها، غير أن العجز، ذاك المسكر الذي أمال الأرؤس على المناكب هو الذي يجمجم تلك العبرات، نيل بها أعقاب الجدود المولية، ولبئست حيلة المحتال، كل قطرة من تلك الدموع تكون كلمة ذم تُزاد في صحائف تاريخنا.
إذا جاء ميعاد الجدال في ميزانية الحربية والبحرية وقف ناظراها يستنديان أكف الأمة لزيادة الإنفاق، والإنفاق لدينا عن سعة، فما لبيروت، الثغر الباسم في محيا الملك العثماني تلم به دوارع الدولة المحاربة، فترميه بصواعقها وليس على بابها سوى دارعتين، ما ضمت أضلاعهما غير الهواء؟! لئن كان إيجاد أسطول يذود عن بيضة هذا الملك يحتاج إلى زمان طويل أفلا تستطيع الدولة أن ترفع على شط بيروت حصنين صغيرين تجعل فيهما بعض المدافع من معيار ١٣ عقدة فتضطر تلك الدوارع إلى الوقوف مكانها، وتحمي المدينة وأهلها شر البلاء.
مُدت إلى دولتنا الأكف المصافحة تخطب ودها وتعرض عليها معونتها قبل الحرب وبعدها، ولكنها غلبت على أمرها في قبول الود، فوقفت موقف المرتاب، لا تدري ما تتحيز، أهذا مقام الشك؟ أفلم يبدُ لنا اليقين؟ ومتى تطمئن قلوبنا إلى إخلاص الناس لنا؟ ما أخال أن هذه القلوب تطمئن إلى شيء، أيامٌ تمضي سراعًا وفرصٌ متتالية، ولما نعزم ولما نحزم، ما هذه السياسة؟
لم نتدبر أمرنا بعدة من حزم ولا من قوة، قد تركنا الأمور تجري في فوضاها غير أن الموت يدنو منا دنوًّا، قصارى هممنا أن ننشر طُرفًا من أخبار وقائع جرت في ميادين القتال، والعدو يسوق الجند بعد الجند، لا أدري متى يتهيأ لنا أن نغضب؟!
أليس من فاضح الخزي أن يصبح كثير من الناس يترحمون على أيام عبد الحميد — ولقد صدقوا — وما يجري على زمان كبرائنا يكاد يُجري دموع عبد الحميد، أبو الظلم والاعتساف، أقام في قصره محجوبًا إلا عن عيون تعوَّد أن يغازلها، فكان لا يعتريه الحياء، لكن رجالنا يظهرون كأقمار التم في آفاقها، فكان من الشرف أن يخجلوا، أما أن يُصان الملك على ما وجدوه، لا نطمع في زيادة، ولكن النعمة العظمى أن لا ينقص، فإذا أعجزهم هذا القدر من حسن السياسة، فليدعوا تلك المقاعد، غيرهم أولى بها.