عالمان يتصادمان
نهض توم من فوق حصيرة القش جائعًا ومصابًا بالدوار، وغادر المنزل دون أن يتحدث مع أحد، وهام على وجهه في الشوارع مستغرقًا في أفكاره. لم يدرك توم مدى ابتعاده عن منزله إلا بعد فترة طويلة من الوقت، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يبعد فيها عن منزله كل هذه المسافة، لكنه لم يتوقف، بل استمر ماضيًا في طريقه.
تجاوز توم بوابات المدينة وصولًا إلى الريف، وسار بمحاذاة سور المدينة. وعلى بُعد وقعت عيناه على قصر عظيم. كان هذا القصر هو قصر «ويستمنستر» حيث يعيش الملك هنري والأمير إدوارد أيضًا. وتساءل توم هل ستسنح له الفرصة لرؤية الأمير الحقيقي.
كان الحراس يقفون على جانبي بوابة القصر في وضع استقامة وثبات شديدين، وتجمع بعض الأشخاص الآخرين في الجوار آملين في إلقاء نظرة خاطفة على العائلة المالكة. راقب توم البوابات وهي تُفتح ويخرج منها العديد من العربات الجميلة مغادرةً أراضي القصر، وكان على يقين من أن هذه العربات تحمل أشخاصًا متأنقين ورائعين.
اقترب توم من البوابات ببطء، وكان مدركًا تمامًا للملابس الرثة التي يرتديها والقذارة التي تغطي وجهه، ويعي أنه يشذ عن باقي الجمع، لكن كان لديه فضول شديد. ولك أن تتخيل كيف انحبست أنفاسه عندما رأى مجموعة صغيرة من الأشخاص داخل أراضي القصر يتوسطهم صبي صغير يرتدي الساتان والحرير ويعلق سيفًا مرصعًا بالجواهر بجانبه. وعلم توم في الحال أن هذا الصبي هو الأمير؛ أخيرًا الأمير إدوارد بلحمه وشحمه.
اتسعت عينا توم من فرط الإثارة، وأصبحت رغبته في رؤية الأمير عن قرب أكثر إلحاحًا. فقد توم شعوره بمن يحيطون به، وتلاشى من أمام عينيه الحراس وزائرو القصر الآخرون. ودون أن يدري ما يفعل، اندفع بوجهه قبالة قضبان البوابة، وكان نحيلًا لدرجة أنه كاد ينزلق عبرها.
وفجأة شعر بيد قوية تمسك بذراعه، وصرخ فيه الحارس وهو يقول: «عندك أيها المتسول! انتبه لتصرفاتك.»
ضحك الجمع، وأشاروا إلى توم وهم يقولون: «نعم! لا تقترب أكثر مما ينبغي أيها المتسول!»
جاء صوت من داخل أراضي القصر يقول: «دعوه وشأنه! كيف تجرءون على إهانة أحد رعايا والدي؟» واندفع الأمير الصغير نحو البوابات لمساعدة توم وهو يستشيط غضبًا ويقول: «افتحوا البوابات ودعوه يمر! لن أقف مكتوف الأيدي بينما يُعامل أي شخص بمثل هذه القسوة.»
توقف الجمع عن الضحك والإشارة إلى توم، وخلعوا قبعاتهم وانحنوا لأميرهم وهم يقولون: «عاش أمير ويلز!»
فتح الحراس البوابات ليدخل منها توم، وشاهدوا أمير الفقراء بثيابه البالية وهو يجري أمامهم ليحيي أمير الأثرياء بثيابه الثمينة.
نظر إدوارد إلى توم، وقال: «تبدو متعبًا وجائعًا. أنا آسف على قسوة حارسي معك. رجاءً تعالَ معي!»
تقدم عدد من الحراس للأمام عندما بدأ توم في اللحاق بإدوارد، فلوح لهم الأمير بالتنحي جانبًا، ولم يحاول أحد بعد ذلك منع توم من مرافقة الأمير.
قاد إدوارد توم إلى داخل القصر، وتحدث مع الخدم الواقفين في الرواق آمرًا إياهم بإحضار الغداء إلى غرفته. وانعقد لسان توم؛ فقد كان القصر أجمل بكثير مما تخيل.
كانت غرفة الأمير مذهلة، حيث احتوت على مدفأة تتوهج بها النيران، وسجادة تكسو الأرض، وكراسٍ كبيرة مريحة. وكانت أشعة الشمس تتدفق عبر النوافذ الزجاجية النظيفة إلى داخل الغرفة. وقبل أن تسنح لتوم الفرصة بإلقاء نظرة على الغرفة، وصل الخدم حاملين طعام الغداء.
لم يرَ توم شيئًا كهذا من قبل. فقد قرأ عن الولائم في الكتب، لكن رؤيتها بأم عينه كانت أمرًا مختلفًا تمامًا. تضمنت الوليمة فاكهة ولحمًا باردًا وأرغفة من الخبز. حدق توم في المائدة، ولم يعرف ما يجب عليه فعله.
لاحظ إدوارد عدم شعور توم بالراحة، فسحب كرسيًّا ليجلس عليه توم، وقال له: «رجاءً اجلس! تناول ما يحلو لك من الطعام.»
وبينما كان يجلس على المائدة، سأل الأمير توم: «ما اسمك؟»
– «توم كانتي.»
– «هل تعيش بالقرب من هنا؟»
«لا» أجاب توم وهو يتحدث بصعوبة، حيث كان يستمتع بالطعام بشدة، لكنه لم يرغب في التحدث وفمه ممتلئ، واستطرد قائلًا: «أعيش بعيدًا جدًّا عن هنا في «أوفال كورت».»
فكرر الأمير قوله: ««أوفال كورت»؟ لم أسمع بهذا المكان قط، هل هو مكان جيد؟»
«حسنًا» أمعن توم في التفكير قبل أن يجيب قائلًا: «إنه مختلف كثيرًا عن منزلك.»
«وهل لديك عائلة؟» ملأ الفضول الأمير بشأن هذا الصبي الغريب، فلم يسبق له الالتقاء بأحد مثله من قبل؛ كان توم يرتدي ثيابًا بالية ويسير بلا حذاء في مثل هذا اليوم قارس البرودة.
– «نعم، لدي أم وأب وأختان يكبرانني سنًّا، وأيضًا تعيش جدتي معنا.»
لاحظ الأمير الحزن يرتسم على وجه توم أثناء حديثه، فسأله: «هل يحسنون معاملتك؟»
رد توم بقوله: «أمي حنون للغاية، وكذلك أختاي، نان وبيت.» ثم صمت قليلًا، ونظر إلى الأمير، وقرر أنه يجدر به تحري الصدق في الحديث. «أبي وجدتي ليسا على القدر نفسه من الحنان، وعندما يغضبان — وكثيرًا ما يفعلان — يصرخان في وجهي، ويجبراني على النوم دون عشاء أيضًا.»
هب الأمير واقفًا والغضب يتقد من عينيه، وقال: «ماذا! هل تعني أنهما يمنعان عنك الطعام؟»
نكس توم رأسه وأجاب بهدوء شديد: «نعم، يا سيدي!»
– «هذا أمر مروع! لن أسمح باستمرار ذلك. سأتحدث مع والدي ليأمر بإلقاء القبض على هؤلاء المتوحشين.»
فقال توم: «أعتقد أن لدى والدك أمورًا أكثر أهمية ليقوم بها!»
«هراء!» لوح إدوارد بيديه، وقال: «لن أسمح بالتجاوز عن مثل هذا الظلم.» ثم نظر إلى الصبي مهلهل الثياب واستطرد: «أتعلم، يتسم والدي بحدة الطبع. لم يصرخ في وجهي قط، لكنني رأيته عندما يشتد غضبه مع أشخاص آخرين. وكم أستاء من رؤيته في هذه الحال.»
ابتسم توم، إذ فرح بوجود قاسم مشترك بينه وبين الأمير.
سأل إدوارد: «هل يعمل لدى أسرتك الكثير من الخدم؟»
«يا إلهي! كلا» كاد توم يضحك وهو يقول هذه الكلمات، لكنه كان يعرف أنه من الوقاحة فعل ذلك.
صُعق الأمير. «لكن كيف تخلع أختاك ملابسهما ليلًا؟ ومن يساعدهما في ارتدائها صباحًا؟»
– «إن عليهما الاعتماد على أنفسهما في كل هذه الأمور، لكنهما لا تملكان سوى فستان واحد لكلٍ منهما، لذلك فالأمر لا يمثل مشقة كبيرة لهما.»
بدت الصدمة على وجه إدوارد مرة أخرى وهو يقول: «لا يُعقل أنك تقول الحقيقة!»
فأجاب توم: «حسنًا، لا تمتلك كل واحدة منهما سوى جسد واحد.»
«سأتولى هذا الأمر، ستحظى أختاك بعدد من الفساتين أكثر مما تحلمان به، سأعمل على تحقيق ذلك على الفور.» لاحظ إدوارد نظرة الدهشة على وجه توم. «لا تشغل بالك، ليس هناك داعٍ لشكري.» ولوح بيده ثانيةً.
أضاف إدوارد: «عليّ أن أعترف يا توم أنك تجيد الحديث للغاية، فهل ذهبت إلى المدرسة؟»
فأجاب توم: «كلا، لكن أحد جيراننا يعمل قسًّا، وقد علمني القراءة والكتابة، حتى إنه علمني بعض الكلمات اللاتينية. أنا لا أعلم الكثير من الكلمات، لكنني لا أزال أتعلم.»
قال إدوارد: «يجب أن تواظب على ذلك يا توم، وسيزداد الأمر يسرًا مع الممارسة.»
جلس إدوارد هادئًا للحظة، ثم قال: «أشعر أحيانًا أنني قضيت حياتي بأكملها في المدرسة؛ ساعات طوال أقضيها مع المعلمين الخصوصيين كل يوم أو أتعلم فيها إدارة شئون البلاد. فهم يعدونني لأصبح ملكًا يومًا ما، وليس هناك إلا القليل من الوقت للقيام بأي شيء آخر.» ثم نظر إلى توم، وقال: «ماذا تفعل عندما لا تكون في المدرسة؟»
أجاب توم: «حسنًا، يجبرني أبي على التسول في الشوارع من أجل المال، ويغضب بشدة عندما لا أجلب ما يكفي من المال إلى المنزل، ولذا فأنا أقلق بشدة من هذا الشأن.»
ابتسم توم للأمير، واستطرد: «لكن لدي أصدقاء رائعين، وهناك دائمًا ما يمكننا فعله معًا؛ نشاهد عروض العرائس المتحركة التي تقام في الميدان، وكذلك العروض المسرحية، وأحيانًا يأتي أحد العازفين ومعه قرد أليف للترفيه عن الناس في الشارع. كما أننا نتسابق ونتعارك فيما بيننا. وفي فصل الصيف، نذهب للسباحة في النهر.» ابتسم توم ثانيةً، ثم قال: «أعتقد أن هذا هو الأمر المفضل لديّ؛ فاللعب برش الماء يسعدني للغاية.»
بدا الحزن هذه المرة على وجه الأمير. «كم أتمنى قضاء يوم مثل هذه الأيام! يوم واحد للعب في الماء والتسابق، يوم واحد لا ألقي فيه بالًا للدروس والواجبات الملكية.»
ونظر إدوارد إلى توم بثيابه الرثة وقال له: «يا ليت بإمكاني ارتداء ملابسك والاستمتاع بحياتك ليوم واحد؛ فليس هناك ما يمكن أن يسعدني أكثر من ذلك.»
حدق توم في ذهول، وقال: «ليت بإمكاني يا سيدي ارتداء ملابسك مرة واحدة فقط؛ فهذا أقصى ما أبتغيه.»
وقف الأمير، وقال: «إذن، فلنفعل ذلك! لنتبادل ملابسنا. ربما لن يستمر الأمر لأكثر من بضع دقائق، لكنها ستفي بالغرض!»
وبعد بضع دقائق، كان توم يقف في الغرفة الملكية مرتديًا ملابس الأمير، وإدوارد يقف أمامه مرتديًا ملابس الفقير الرثة. سار الصبيان نحو إحدى المرايا للنظر إلى أنفسهما، ووقفا جنبًا إلى جنب محدقين في المرآة، وكلاهما مصدوم ومذهول مما رآه.
قال إدوارد مترويًا: «انظر إلينا! لم ألحظ من قبل كم نحن متشابهان، فلنا نفس الطول ونفس لون الشعر والعينين، إننا كالتوءمين!»
فرد توم: «أرى ذلك، جلالتك! أظن أنه لا يمكن لأحد أن يميز أحدنا عن الآخر.» واستمر الصبيان يحدق كل منهما في الآخر.
قال إدوارد: «انتظر! هل هذه كدمة على ذراعك؟ هل حارس القصر هو من تسبب فيها بإمساكه إياك؟»
فرد توم: «نعم، أظن ذلك، ولكن لا عليك، فقد كان الحارس يؤدي …»
«هراء!» لوح الأمير بيده وقال: «سأتولى هذا الأمر في الحال. رجاء انتظرني هنا، لن أغيب سوى لحظات، أعدك بذلك.»
أمسك إدوارد ببعض الأشياء الهامة التي كانت على مكتبه، ووضعها سريعًا في مكان آمن، ثم ركض خارجًا من الباب ومتوجهًا نحو أراضي القصر. ولسوء الحظ، نسي إدوارد أنه لا زال يرتدي ملابس توم الرثة، وجرى نحو البوابات وهو يصيح: «افتحوا البوابات! يجب أن أتحدث إليكم.»
فتح الحارس، الذي سبق أن قسا على توم في وقت مبكر من هذا اليوم، البوابات، وما إن بدأ إدوارد حديثه حتى دفعه الحارس إلى الطريق وهو يقول: «ابتعد عن هنا، أيها المتسول!»
ضحك جمع الناس وأشاروا إلى الصبي مجددًا.
صاح إدوارد: «ويحك! كيف تجرؤ على معاملتي هكذا! أنا أمير إنجلترا!»
علت ضحكات الجميع هذه المرة، وانحنوا أمام إدوارد وهم يقولون: «عفوًا، جلالتك!» ودفع أحدهم إدوارد، فسقط على الأرض.
«كيف تجرؤ على لمسي!» كان إدوارد غاضبًا ومرتبكًا؛ لماذا يهزأ الجميع به؟ فلم يسبق أن عامله أحد هذه المعاملة.
قال الحارس: «هيا، لتفسحوا الطريق أمام أمير إنجلترا.»
فتفرق الجمع، ودفع الحارس إدوارد إلى مسافة أبعد نحو الطريق، وهو يقول: «تحرك أيها المتسول! ولا تدعني أراك بالقرب من القصر ثانيةً.»
استمر إدوارد المسكين في احتجاجه، لكن لم يصدقه أحد، بل استمر الناس في الاستهزاء به ودفعه بقوة. وبعد برهة قصيرة، ملَّ الجمع من لعبتهم، وأصبحوا لا يجدون متعة في ادعاء هذا المتسول بأنه الأمير، فغادر بعضهم عائدين إلى منازلهم، في حين صاح آخرون في إدوارد، ودفعوه بقسوة.
وفي آخر الأمر، أدرك إدوارد أنه ما للجدال من جدوى. إنه محاصر خارج منزله وما من أمل في الدخول إليه. فسار بالطريق — على غير هدى — آملًا في الحصول على بعض المساعدة.