الفصل الثالث عشر
وبتنا ليلة أخرى أشد سوادًا من الليلة الأولى، وفي الفجر خرجنا نخترق شوارع الإسكندرية إلى سيدي جابر إلى فيكتوريا إلى الطريق الزراعي في طريقنا إلى القاهرة سيرًا على الأقدام، ولكن قبل ذلك صممت على الذهاب إلى كورنيش البحر لألقي نظرة على المالح الواسع الذي ليس له قرار وليس له برور!
***
أصبحت العلمين على كل لسان، انقسم المصريون إلى فريقين؛ فريق مع الألمان، وحفنة مع الإنجليز، وراح الفريقان يتصارعان في الشارع كأنهما أنصار الأهلي والزمالك هذه الأيام.
وكانت أخبار الصحف تؤكد أن الإنجليز انتصروا بعون الله، ولكن أخبار الشارع كانت مع الألمان، النصر للألمان؛ لأن الله مع الإسلام، والإسلام منصور بإذن الله الذي لا ينام!
ولكني تركت الألمان، والطليان، والإنجليز، والأفريكان، وشلة الجيزة وهربت إلى الإسكندرية … كنت بليدًا غاية البلادة في الجبر والهندسة والكيمياء، وكان مدرس الكيمياء عصبي المزاج، نحيفًا كأنه عصا خيزران، أصلع رغم أنه لم يتعد الثلاثين، وكان يقسم في كل حصة بالأرض والسماوات وما بينهما أنني ولد خايب ابن خايب، وأن مصيري على الرصيف مع بتوع السبارس والشيالين، ونجح الرجل في تسويد عيشتي وتهبيبها، وبسببه هربت من المدرسة ومن مصر كلها إلى الإسكندرية، وكانت وقتئذ على مرمى مدافع الألمان.
ولكني لم أهرب وحدي، هربنا ثلاثة: القباني، وحسن كامل، وأنا، وكان القباني يجاورني في الفصل، ولد سمين الجسم والعقل، حلُّوف الشكل، مسلوب الإرادة، وكان حسن كامل يجلس خلفي تمامًا، وكان ابن ذوات، مات أبوه وهو في الخامسة من عمره، وعاش مع أمه طوال هذه السنين لا يعرف مكانًا غير البيت والمدرسة حتى الشارع لم يكن مسموحًا له بالنزول فيه، وكانت مهمتي معهما سهلة للغاية، أقنعت القباني، وحسن كامل أن الإنجليز يطلبون موظفين في الإسكندرية بمائة جنيه في الشهر، عدا سيارة فاخرة لكل موظف، وحارس إنجليزي برتبة شاويش، وسكرتيرة حسناء من بنات اﻟ… ا. ت. س. ووافق الاثنان فورًا على العرض، ولهفنا مصاريف الدراسة، وتوليت أنا قيادة القافلة. وقفزنا في أول قطار ذاهب إلى الإسكندرية، وكان قطارًا حقيرًا ظل يزحف طوال الليل وفي عز البرد حتى وصل إلى الإسكندرية في الصباح، وكانت هذه أول مرة أرى فيها الإسكندرية، ودهشت لأن الشوارع كانت خالية تقريبًا، لا أحد يتسكع في الشارع، ولا أحد يتشعبط على سلم الترماي، الكل هجر الإسكندرية، والإنجليز الذين ذهبنا لنتوظف عندهم غادروها إلى أماكن أكثر أمانًا. وكانت مظاهر الخراب والدمار واضحة، افترست قنابل الألمان والطليان أغلب أحياء الإسكندرية، ودمرت الميناء تمامًا! وعندما جاء الليل أصبحت الإسكندرية مدينة مهجورة، السواد يطمس معالمها. وصفارات الإنذار تعوي في الجو كأنها كلاب مسعورة، والكشافات تمسح الفضاء بحثًا عن طيارات الأعادي، وطيارات الأعادي تمسح جو الإسكندرية وتسمع صوتها ولكن لا تراها … وفي المساء ذهبنا إلى سينما أمام المحطة، لعل اسمها الكونكورد ولعلها لا تزال مكانها حتى الآن، وتفرجنا على فيلم «وأخيرًا تزوجت» بطولة حسين رياض، ولكننا لم نستمر حتى النهاية، فقد انطلقت صفارات الإنذار تعوي فجأة، وانطلق الناس هاربين من السينما كأنهم حيوانات كاسرة أحاطت بهم نار أشعلت فجأة الغابة. وداس الرجال الكواسر علينا ودعكونا على بلاط السينما، وعندما خرجنا كان كل منا يعاني من الرضوض والكسور، فرحنا نزحف على مهل في طريقنا إلى المخبأ. ولم تنته الغارة إلا في الصباح، وخرجنا من المخبأ إلى حي كوم بكير، وكان الحي دائمًا في المساء يشغي بالحركة ويضيق بالسكان، فلما انتهت غارة الأمس كان الحي قد تحول إلى تل من التراب وعشرات الجثث تتناثر هنا وهناك، وعلى أنقاض حي كوم بكير تأكد لنا أنه لا وظائف هناك ولا مائة جنيه، ولكن غُلب أزلي وصياعة ما لها مثيل، وطاف بنفسي خاطر غريب، وتذكرت مدرس الكيمياء وارتعد بدني، فقد خشيت أن تتحقق أمنياته، وأن أنتهي فعلًا مع القباني، وحسن كامل إلى شيال على رصيف محطة الإسكندرية!
وبتنا ليلة أخرى أسود من الليلة الأولى، وفي الفجر خرجنا نخترق شوارع الإسكندرية إلى سيدي جابر إلى فيكتوريا إلى الطريق الزراعي في طريقنا إلى القاهرة سيرًا على الأقدام، ولكن قبل ذلك صممت على الذهاب إلى كورنيش البحر لألقي نظرة على المالح الواسع الذي ليس له قرار! وعندما وقفت على سور الكورنيش رحت أدقق النظر داخل البحر الواسع لألقي نظرة على بلاد بره التي تقع على الشاطئ الآخر. ولقد قيل لي وقتئذ أني شاهدتها فعلًا، وأن الغبش الذي كان في داخل البحر ما هو إلا مدائن عظيمة. فعندئذ اطمأن قلبي وواصلت السير في طريق القاهرة. كنت أنا قائد القافلة، وكنت مسئولًا عن تقدير الموقف، وكقائد عظيم قدرت أن المسافة بين إسكندرية والقاهرة وقد قطعها القطار في خمس ساعات، فهي لا بد تستغرق عشر ساعات على الأقدام، وبما أننا بدأنا الرحلة في السابعة صباحًا فسنصل إلى القاهرة في الخامسة مساء، وقد نتأخر قليلًا فنصل في السابعة، المهم أننا سنقضي النهار في الطريق إليها.
وحصرت النقود التي معنا ولم تكن إلا قروشًا قليلة، واشترينا خمسة أرغفة، وقطعة جبن، وعلبة سجاير كليبر، وشمال يمين كالعساكر الأسرى إلى القاهرة. وعندما جاء الظهر لم نكن قد ابتعدنا عن الإسكندرية أكثر من خمسة كيلومترات، وجلسنا على جانب الطريق الزراعي نأكل، والتهمنا كل ما معنا من طعام وأشعلنا السجاير وانبسطنا، ثم قمنا من جديد وليس معنا شيء إلا سجارتين وربطة كتب، وأوهام عن موقع القاهرة على الخريطة … وهبط المساء علينا والمطر ينهمر غزيرًا فوق رءوسنا، وأنوار كفر الدوار لم تلح في الأفق بعد، والدنيا ظلام في ظلام، ومطر في مطر وبرد أزلي يخرم العظام. والجوع يفري بطوننا، وعلبة السجاير أصبحت ذكرى طيبة … فرحنا نفتش عن أعقاب طويلة بين المطر والوحل في الطريق المظلم الخالي، فجأة صاح القباني صيحة مدوية: غيط فجل يا جدعان!
ولم نسأل ولم نعاين، بل هجمنا فجأة على الفجل، وكان المطر قد أحاله إلى بركة من الطين، وانغرزت فيه أرجلنا حتى الركب، ورحنا نأكل من الفجل في شراهة ولا شراهة المجنون. وعندما شبعنا وامتلأنا، اكتشفنا أن الذي في الغيط ليس فجلًا ولكنه لفت مر المذاق، وانطفأ كل منا على وجهه في ركن. ورحنا نتقيأ جماعة وكأننا جماعة من أنصار بوذا نؤدي طقوسًا دينية لروح الإله العظيم. وفجأة توقفت سيارة نقل على جانب الطريق ونزل السائق فألقى نظرة على الموتور ثم ركب من جديد، وكان الطريق الزراعي إلى دمنهور، ولم نتفق ولم نفكر، انطلقنا نعدو خلف السيارة، وتشعبط العبد لله والقباني في المؤخرة، وفشل حسن كامل فراح يصرخ ونحن نبتعد مع السيارة حتى اختفت صرخاته في الفضاء، واختلطت بنباح الكلاب السارحة في المزارع البعيدة!
ولكن بعد فترة ليست قصيرة، شعرت بإحدى يدي الرفيعتين كالمكرونة الاسباكيتي تتخاذلان، ووددت أن ألقي بنفسي من العربة المنطلقة على الطريق ولكني خفت أن أسقط وأموت، وعندما طاف خاطر الموت بنفسي تشبثت بالسيارة كأني عَلقة، بينما راح القباني يصرخ ويتوسل إلى السائق أن يتوقف، ولكن السائق الذي كان يحكم إغلاق الكابينة ويلف حول أذنيه كوفية من الصوف لم يسمع شيئًا، وأخيرًا سقط القباني على الأرض كأنه طوبة ضخمة تدحرجت من فوق تل مرتفع، وظل القباني يتدحرج حتى سقط في الترعة، وعندئذ صرخ صرخة رهيبة اخترقت أذني رغم دوشة السيارة النقل التي أتشعلق فيها كأنني غراب البين! ورغم كل المحاولات التي بذلتها لحفظ توازني إلا أنني سقطت في النهاية، سقطت على كف يدي اليمنى فانقصعت والتوى أصبعي، وظل يؤلمني إلى النهاية، ولكن رغم الألم الشديد نهضت وسرت في الطريق نحو الإسكندرية بحثًا عن القباني، وحسن كامل، وبعد فترة طويلة عثرت على القباني يقف على شاطئ الترعة يتلاعب كأنه عصفورة سقطت في طشت غسيل، ثم جاء حسن كامل بعد ذلك أنيقًا رشيقًا لم ينله شيء إلا الخوف الذي انتابه من الوحدة في الليل على الطريق المهجور!
ورحنا نسعى من جديد إلى كفر الدوار، ودخلناها في التاسعة مساء، وكانت لا تزال عامرة؛ السوق يشغي بالناس، ورائحة الطعمية تجذبنا لها، ورائحة السمك المشوي تسكرنا، وبعنا ربطة الكتب واشترينا سمكًا، وسيجارة، وأكلنا ودخنَّا وانبسطنا، وجلسنا على رصيف المحطة ننتظر قطار المساء، وعندما جاء القطار جلسنا في الدرجة الأولى وانجعصنا، لا تذاكر معنا ولا نقود، ولكن لا حيلة أمامنا إلا الركوب وليكن ما يكون … وجاء الكمساري والمفتش معًا، واعتذرنا عن عدم وجود تذاكر، ثم اعتذرنا عن عدم وجود نقود، وشدَّنا الكمساري من ملابسنا إلى الدرجة الثالثة، واستدعى عسكري بوليس حمش ليقوم بحراستنا، ولكن العمال الصعايدة في القطار تدخلوا في الأمر، صدقوا الكذبة التي أطلقناها وهي أننا كنا في رحلة ثم تخلفنا وضللنا الطريق، ولم يكن معنا نقود ولا تذاكر، وأبرزنا كارنيهات المدرسة، فانسبكت القصة، واقترح أحدهم أن يساهم كل راكب بقرش للحصول على تذاكر لنا، وفعلًا أصبحنا ركابًا ومعنا تذاكر، وعندما وصل القطار إلى القاهرة، كان ضوء النهار يشمل الكون، والدنيا برد وملابسنا أصبحت متسخة، والجوع يفري أمعاءنا، والنوم يكبس علينا، وطرابيشنا انضربت وانخبطت كأنها أكواز صفيح، منظر يغم النفس والقلب معًا، ولكن إلى أين؟ لا نستطيع أن نذهب إلى البيوت ولا نستطيع الذهاب إلى المدرسة.
ولكن لا بأس من الذهاب إلى المدرسة؛ لنحصل على سلفة من بعض التلاميذ، ووقفنا ننتظر على الناصية حتى جاء التلاميذ واكتشفنا أن فعلتنا المهببة قد عُرفت، وأن الإشاعات التي انطلقت أكدت أننا غرقنا في مياه النيل، وبعضها أكد أننا هربنا إلى فلسطين، وعلمنا أن الناظر خطب في التلاميذ منددًا بفعلتنا متوعدًا التلاميذ بالموت إذا سلكوا طريقنا، وعندما دق جرس المدرسة كنا قد حصلنا على بريزة، وبدأنا الصياعة من جديد!
وعندما جاء الليل انهار حسن كامل تمامًا، بكى في ميدان العتبة، ثم انسحب وهو يبكي في طريقه إلى المنزل، وسرحت مع القباني في شوارع القاهرة حتى الصباح.
لم يعد أمامنا سبيل، انهار القباني وانهرت أنا الآخر، ورحت أفكر بعمق في وسيلة لنهرب من هذا المأزق الخطير. ولم يكن أمامي إلا أمين المغربي، ووقفت أمام باب مدرسة الصنايع في بولاق أنتظر قدومه، وعندما رآني عانقني طويلًا، وأبلغني أن أمي تشرف على الموت من الغم الشديد، ثم زوغ من المدرسة من أجلنا، ودعانا إلى الإفطار، ثم اكتشفنا ونحن نأكل في المطعم أنه لا يملك ثمن الإفطار … وبعد أن شبعنا وحمدنا الله، أمرنا بالخروج من المطعم وتركناه بمحض إرادته يواجه مصيره مع المعلم المكلبظ الذي كان يحتل باب الدكان ويشرف على الزبائن من فوق بنك عالٍ كأنه قلعة تشرف على الطريق، وجاء المغربي بعد قليل عند شاطئ النهر، وسحب القباني إلى بيته، وفي المساء كنت أنام في بيتي، ولم يجرؤ أحد من أهلي على ضربي، فقد كانت شروط الصلح التي عقدها المغربي معهم، أنني سأنتحر إذا وُجِّهت إليَّ إهانة، أو وجِّه إليَّ اللوم، وقضيت الليل كله أفكر في المغامرة التي انتهت بالفشل، ولكنها منحتني الثقة المطلقة في قدرتي على المغامرة في مستقبل الأيام!