الفصل الرابع عشر
كان في مدرسة المعهد العلمي أوباش كثيرون مثلي، أولاد بلد طيبون وغلابة، وفنانون حقيقيون يفهمون النكتة، ويتذوقون الحياة بنفسية فنان، ولقد أحببتهم جميعًا وكونت شلة جديدة منهم، وكان أبرزهم جميعًا عبد السلام، كان سمينًا وطويلًا ومتزوجًا من امرأتين وله ثلاثة أولاد بعضهم في المدارس الابتدائية رغم أن عبد السلام نفسه كان في السنة الثانية رابع الثانوية.
***
تكرر حادث الهرب بعد ذلك بشهور، أقنعت القباني وحسن كامل مرة أخرى بالسفر إلى السويس للعمل في وظيفة مدير للجيش الإنجليزي بمرتب ألف جنيه كل شهر، وسيارة وزوجة حلوة من بنات التاميز. وهبش كل منا مصاريف الدراسة وركبنا القطار إلى السويس، وحدث لنا في السويس نفس الشيء الذي حدث لنا في الإسكندرية، ضاعت النقود، ثم بعنا الكتب، ثم أخذناها موتورجل إلى القاهرة، وسقطنا نحن الثلاثة على بعد ٣٠ كيلومترًا من السويس مصابين بضربة شمس، ونقلنا رجل طيب من عمال الدريسة إلى بيته، ثم جاء البوليس ونقلنا إلى السويس، ثم رحَّلتنا محافظة السويس تحت الحراسة إلى محافظة القاهرة، وسلَّمتنا المحافظة إلى أولياء أمورنا بإيصال استلام، وكأننا طرود في البوستة.
وأقيمت احتفالات الضرب في كل مكان، ضرب في البيت وضرب في المدرسة وضرب في الشارع، فقد توليت أنا ضرب حسن كامل، والقباني أمام المدرسة؛ لأنهما شهدا معًا في كل تحقيق أنني أنا المسئول عن عملية الهرب.
وعدت أجتر أيامي الرتيبة في المدرسة، ونقصت الشلة واحدًا فقد خرج حسن كامل من مدرسة المعهد العلمي إلى مدرسة أخرى في العباسية، وبقي القباني حتى نهاية العام، ثم خرج منها إلى جراج يشتغل فيه باليومية، وحزنت جدًّا لمصير القباني فقد كان رغم كل شيء طيب القلب، ورأيته بعد ذلك في مناسبات كثيرة متباعدة، وكان في كل مرة يبدو أكبر سنًّا، وأكثر همًّا مما كان.
ولكنه رغم كل شيء استطاع أن يتعود على الظروف التعيسة التي أحاطت به وحاصرته زمنًا طويلًا، وكافح ببسالة حتى تخرج من الجامعة، وسافر إلى الخارج، ثم عاد مهندسًا كبيرًا يساهم الآن بدور فعال في نهضة مصر.
كان في مدرسة المعهد العلمي أوباش كثيرون مثلي، أولاد بلد طيبون وغلابة، وفنانون حقيقيون يفهمون النكتة ويتذوقون الحياة بنفسية فنان، ولقد أحببتهم جميعًا، وكونت شلة جديدة منهم، وكان أبرزهم عبد السلام وكان سمينًا وطويلًا ومتزوجًا من امرأتين وله ثلاثة أولاد بعضهم في المدارس الابتدائية رغم أن عبد السلام نفسه كان في السنة الثانية رابع الثانوية!
وكان عبد السلام صاحب مزاج يكسب ثلاثة جنيهات كل يوم ينفقها على زوجاته وعلى سهراته، فقد كان يملك محل حانوتي في السيدة زينب، وكان يباشر عمله في نقل الموتى بعد الخروج من المدرسة، فيخلع زي التلامذة، ويرتدي جبة وقفطانًا وعمامة، ويربط وسطه بحزام شاهي لامع معتبر. وكان عبد السلام أغنانا وأكبرنا سنًّا؛ ولذلك عقدنا له القيادة والزعامة.
ولم يكن عبد السلام شريرًا على الإطلاق، كان يحب الحياة رغم أنه يعمل في المهنة الوحيدة التي يخشاها كل الأحياء، وكان له خاطر كبير عند المدرسين؛ لأنه كان من جيلهم؛ لذلك كان له الحق دومًا في مغادرة الفصل في أي لحظة، وكان في وسع أي طالب يقع في براثن مدرس مجنون أن يستجير بعبد السلام. وكان عبد السلام يجيره وينقذه ويحميه!
ولد آخر كان له نفوذ في الشلة اسمه حامد، واسم الدلع حنبلة، وكان يسكن في حي القلعة وفي شارع سوق السلاح بالذات، وكان حريف كوتشينة يستطيع أن يتحدى أي لعيب ويهزمه، كان ذكاؤه كله مركزًا في لعبة الكومي، وكان لديه القدرة على معرفة نوع الورق الذي في يد الخصم، وكان يتمتع بأعصاب باردة يستخدمها في إغاظة الخصم ونرفزته، وكثيرًا ما كانت تنشب المعارك بينه وبين اللعيبة، وكثيرًا ما كان ينهزم في هذه المعارك فقد كان تكوينه الجسماني لا يساعده على الصمود.
وكان في المدرسة ظابط ألعاب رياضية اسمه محمد صدقي، كان له شقيق ممثل مشهور في تلك الأيام اسمه حسين صدقي، وكان محمد صدقي يصادق الطلبة البارزين في المدرسة ويسهر معهم، وكان يصطفي عبد السلام ويسهر معه دائمًا ويقترض منه أحيانًا، وعندما أنتج شقيقه فيلم عن الأطفال المشردين اسمه الأبرياء استعان بنا محمد صدقي ككومبارس في الفيلم. وفرحت جدًّا عندما أجروا لي اختبارًا في التصوير، وتضاعفت فرحتي عندما نجحت في الاختبار، ورغم أنني كنت أبرز الجميع في التمثيل إلا أنني لم أشترك في الفيلم؛ ففي يوم التصوير أصر المخرج على أن أنشل محفظة كومبارس آخر وأفر هاربًا من البلاتوه، ولكنني صممت على الكلام أثناء عملية النشل، وأعيد تصوير المنظر عشرين مرة، وفي آخر مرة شاطني المخرج بقدمه خارج الاستوديو.
وباظت مشاريعي في السينما فعدت أجتر كتب الشعر، وألتهم المجلات التي أستطيع شراءها بالقروش القليلة التي كنت أتناولها أحيانًا من أبي، وأدهشتني قصص الحرب وأحببتها حبًّا لا مزيد عليه … وتعقبت كل الأفلام التي أنتجت عن معارك الحرب العالمية الثانية، ولكن الفيلم الذي أعجبني جدًّا كان اسمه «يحيا فيلَّا» بطولة ولاس بيري، وكان يحكي قصة زعيم مكسيكي بدأ حياته لصًّا يهجم على القرى يخطف منها ويقتل ملاك الأرض الكبار، ويوزع أراضيهم على الفلاحين، واستطاع اللص الشريف فيللا أن يجمع حوله جيشًا كبيرًا هزَّ به أعمدة الإقطاع هزًّا في بلاده، ثم فجأة نشبت الثورة في المكسيك، واستدعاه قائد الثورة ولبى فيللا الدعوة، وخلال المقابلة عرض عليه الزعيم أن ينضم للثورة فوافق فيللا على الفور، ولكن زعيم الثورة اشترط عليه ألا يقتل أحدًا إلا في معركة، ورفض فيللا الشرط ثم قبل الانضمام في النهاية، واستطاع وحده مع رجاله أن يدخل العاصمة وأن يقضي على نظام الحكم الإقطاعي في المكسيك، ولكن الإقطاعيين الكبار تآمروا عليه واستطاعوا نفيه من البلاد، وضاع فيللا في إحدى مدن ولاية كاليفورنيا يسكر طول الليل، ويهيم على وجهه في الحواري والشوارع، يزوم كأنه ذئب جائع! ثم سمع ذات مساء وهو يسكر ويترنح في بار مهجور أن الثورة قد نشبت مرة أخرى في بلاده، وعلى ظهر جواد هزيل راح يرمح فيللا طول الليل حتى اخترق حدود المكسيك، وسرعان ما قام جيش الانتقام؛ ليثأر تحت قيادة فيللا من سنوات الذل والجوع، واستطاع فيللا أن يعود إلى الحكم وأن يوزع الأرض على الفلاحين، ثم تربص له إقطاعي قديم في الطريق وأطلق عليه النار، ومات فيللا بعد أن دخل التاريخ من أوسع باب!
ودخلت هذا الفيلم أربع مرات في أربعة أيام متتالية، وعندما عرض مرة أخرى بعد سبعة عشر عامًا دخلته مرة أخرى، ورغم مرور الزمن الطويل إلا أنني أحسست بنفس النشوة التي شعرت بها عندما رأيته أول مرة!
وفجأة توقفت عن القراءة، وتركت هواية السينما وانطلقت إلى آفاق أخرى بعيدة كل البعد عن الفن والثقافة. فقد تصادقت جدًّا مع حنبلة وأحببته، وكنت أجلس إلى جواره في مقهى بعابدين أرقبه وهو يلعب الكوتشينة بمهارة وأستاذية وكأنه طيار يقود طائرة ركاب ضخمة عبر المحيط. وتزاورنا في بيوتنا، وأحببته أكثر؛ فقد كان يعيش في ظروف مشابهة للظروف التي أعيش فيها، مع فارق واحد هو أنه كان يتيم الأب، وكان يرعاه أخ أكبر شديد البؤس كل لذته في الحياة أن يشكو من البؤس الذي يطحنه في الحياة!
ومن خلال جلستي في القهوة إلى جوار حنبلة تعلمت الكومي، وبرعت فيها جدًّا، ليس لأنني ألعب بنظام وألعب بطريقة وبخطة، ولكن لأنني ألعب بمغامرة وألعب دون اهتمام. ورغم عدم اهتمامي أثناء اللعب فقد كنت أشعر بحسرة شديدة إذا انهزمت، وكنت أشعر بفرحة أشد إذا هَزَمت، وكان الخصم المهزوم منى يلاقي الأمرَّين بعد اللعب، فقد كنت أظل أهرج عليه وأجعله سخرية العالمين. وكثيرًا ما كان ينفجر الخصم المهزوم فيضربني، لكن رغم الضرب الكثير الذي لقيته، إلا أنني لم أكف أبدًا عن هذه العادة اللذيذة، وهي إغاظة الغير.
ولم أكن أشعر بحقد أو كراهية نحو هذا الذي أغيظه، ولكني كنت أغيظه والسلام، الغيظ من أجل الغيظ ليس إلا!
المهم أننا هجرنا القهوة بعد ذلك لنشتغل شغلة جديدة اخترعها حنبلة، شغلة تعتمد على الذكاء، والفهلوة، وتفتيح العين، وتدرُّ ربحًا وفيرًا، ممكن أن يرتفع إلى مائة جنيه أو أكثر كل شهر. وكانت الشغلة بسيطة، يقف حنبلة في شارع ابراهيم باشا فيقطع الطريق على العساكر الإنجليز الذين في طريقهم إلى المتحف الصحي. وبنعومة وبلطافة يقول حنبلة للعساكر الإنجليز: المتحف مغلق يا سيدي.
ويتوقف الإنجليز على الفور، بعضهم يضرب الأرض بقدميه وبعضهم يشد شعر رأسه من الغيظ، ولكن حنبلة يشير عليهم أن يذهبوا إلى متحف آخر، متحف الملك، ولم يكن هناك وجود لشيء اسمه متحف الملك، ولكن حنبلة كان يسحبهم إلى جامع الرفاعي؛ حيث مقابر بعض ملوك أسرة محمد علي، وعلى باب المسجد تبدأ مهمتي الحقيقية، يعتذر حنبلة عن دخول المسجد؛ لأنه تلميذ، ثم يقدمني لهم على أنني ترجمان مهمتي شرح محتويات متحف الملك، وكنت وقتئذ ببنطلون شورت وطربوش أثري، وأبدو في الرابعة عشر، ومع ذلك كان العساكر الإنجليز يصدقون أنني فعلًا ترجمان!