الفصل السادس عشر
حجرة واحدة مستطيلة سبعة أمتار في ثلاثة، بداخلها حجرة أخرى، أرضها مثل جدرانها مثل سقفها، ليس لرائحتها مثيل إلا في بيت الأسد في حديقة الحيوان، عندما انفتح الباب حسبت أن قبرًا قديمًا يحوي ألف جثة قد انفتح بعد ألف عام … راودني وأنا أجتاز عتبة الباب أنني عالم أثري عظيم وقعت بالصدفة على قبر من قبور فرعون عظيم.
***
لم تكن المعركة الانتخابية سهلة، ولم تكن بسيطة … اكتشفنا بعد فوات الأوان أننا داخل معركة حامية تحتاج إلى لجنة من ألف رجل وليس خمسة رجال بينهم العبد لله. وكنت وقتئذ في السادسة عشرة لا أزيد … وبالرغم من ذلك استطعنا أن ننظم صفوفنا وأن نخوض المعركة بثلاثة آلاف تلميذ لم يكن أحد منهم يعلم شيئًا مما يدور حوله.
ولقد كانت مهمتي هي إحداث شغب في المدرسة كل صباح، وشد التلامذة في مظاهرة بدون سبب وجرجرتهم إلى الشارع … والحق أقول: إنني كنت دائمًا أجد سببًا لكل مظاهرة: باشا عيان، وزير مسافر، مدير عام أحيل إلى المعاش، المهم أنني كنت أجد سببًا دائمًا لكل مظاهرة، وعندما يدق جرس الصباح كنت أفقع بالصوت، يحيا مش عارف مين باشا، أو يسقط مش عارف مين بك، أو نموت ويحيا أي حد وأي واحد، ويفرح التلامذة بالطبع، فالمظاهرة معناها التزويغ ومعناها الفرار من سجن المدرسة الكئيب، ويخرج التلامذة خلفي إلى الشارع، والذين يتمردون على المظاهرة يتكفل حضرة الضابط بهم فيطيح فيهم بعصاه، وعندما تصبح المظاهرة أَلِسْطَة وفي ميدان السيدة زينب يختفي اسم الباشا أو البيه الذي خرجت المظاهرة من أجله، مصطفى بك … مصطفى بك … تنتخبوا مين مصطفى بك … ابن الدايرة مصطفى بك … والناس الذين على الصفين يحيون المظاهرة … والذين يرفضون واقعة أبوهم سودة، الضرب بالطوب هو أهون شيء، والجرجرة من القفا في الشارع هي المصير، وهكذا أصبحت تلميذًا في المدرسة لا أدفع مصاريف، تلميذًا عمدة يستطيع أن يحرك المدرسة بصرخة ويشعل النار فيها بقصيدة، وأصبحت أشهر من تمثال لاظوغلي في حي السيدة زينب، وكان إبراهيم الحريري ضابط المدرسة رجلًا شهمًا وفتوة الحتة. وكان جريئًا ولا أسد جائع، عايقًا غاية العياقة، له شلة في السيدة نصفها فتوات والنصف الآخر تلامذة مضى عليهم حين من الدهر وهم تلامذة، وفي آخر الليل، بعد الهتاف والزعيق كانت الشلة تجتمع في شارع سلامة، وكانت سهرتنا تمتد حتى الفجر، ثم يذهب كل منا لينام قليلًا قبل أن نستيقظ لنعاود الصراخ من جديد!
وذات مساء كانت الشلة قاعدة على كراسي فوق الرصيف حين مرت من أمامنا مظاهرة صغيرة عدد أفرادها لا يتجاوز العشرة، وكانت المظاهرة تهتف بأصوات مسلوخة وابن الدايرة سلامة بك … هو لوحده … سلامة بك، وعندما أصبحت المظاهرة أمامنا قذف إبراهيم نحوها بكوب ماء كان في يده. واحتج البعض، وزاطط المظاهرة، وكلمة من الشلة … وإذا بإبراهيم الحريري يقذف نحوها بكرسي قش أطاح بأربعة من المتظاهرين وانطلق الباقون يسابقون الريح، لكن إبراهيم لم ترقه نهاية المباراة، فنهض يختال كالوزة، وهجم على الأربعة وهات يا ضرب أزلي … بالأدمغة وبالرُّكب وبالشلاليت، وضرب من كل نوع وعلى كل لون. وجذبتنا حلاوة المعركة فانطلقنا خلف إبراهيم نضرب معه ونصرخ وكأننا عساكر إنجليز مجانين في معركة متوحشة ضد أفراد قبيلة غلبانة في مجاهل إفريقيا. وفجأة … حدث ما لم يكن في الحسبان، طب علينا البوكس وبه عشرة عساكر وضابط معه مسدس، وحشرونا جميعًا في البوكس إلى قسم السيدة زينب.
تلك الليلة التي لا أنساها كانت آخر ليالي معركة الانتخابات، والذين ضربناهم كانوا أنصار مرشح الحكومة، واكتشفنا أمام المأمور أن لكل منا دوسيه أمامه … ولكل منا تاريخًا حافلًا يحفظه، وبعد سين وجيم ولماضة شدنا العسكري من الأقافي — جمع قفا — وألقى بنا في سجن القسم، وعلى طول ما عشت في السيدة زينب، وعلى كثرة ما مررت أمام القسم لم أكن أتخيل أن ثمة مكانًا مثل هذا على ظهر الأرض … حجرة واحدة مستطيلة سبعة أمتار في ثلاثة، بداخلها حجرة أخرى، أرضها مثل جدرانها مثل سقفها، ليس لرائحتها مثيل إلا في بيت الأسد في حديقة الحيوان، عندما انفتح الباب حسبت أن قبرًا قديمًا يحوي ألف جثة قد انفتح بعد ألف عام، وراودني وأنا أجتاز عتبة الباب أنني عالم أثري عظيم وقعت بالصدفة على قبر من قبور فرعون العظيم، ولقد عثرت في الداخل على جثث فعلًا، ولكن لا تزال على قيد الحياة … كان في السجن أكثر من عشرين رجلًا، وصبيًّا، وطفلًا ناموا جميعًا على البلاط في البرد، وليس على أجسامهم شيء يُذكر!
وعندما انتبهوا إلى وجودنا استيقظوا جميعًا، وراحوا ينظرون نحونا نظرات مستكينة غلبانة، ولكنها رغم غلبها لا تخلو من الحدة … ولقد بدت الدهشة في وجوه البعض كأنما أدهشهم أن يقتحم قبرهم هذا خمسة من الأفندية … وجلسنا معًا في ركن واحد ندخن، وألف عين ممدودة نحونا، وألف يد ترتعش تكاد تمتد تطلب نفسًا!
وبعد فترة صمت ليست طويلة وليست قصيرة زحف أحدهم نحونا، زحف كما يزحف التمساح وفمه مفتوح. وعيناه تبرقان في الظلام، وأسنانه الحادة المسنونة تبرق مثل عينيه، وجلس على رجليه ويديه كأنه كلب مقرفص، وسأل في لهجة باردة ساخرة متحدية: الأفندية جايين في إيه؟
وهممت بأن أجيبه لولا أن إبراهيم ضربه على الفور قلمًا رنانًا على صدغه، وعندما احتج الرجل الذي انقلب على جنبه من شدة القلم، كان إبراهيم قد ناوله أكثر من عشرة أقلام حامية شديدة … وتوقعت معركة رهيبة بين الرجلين، ولكن الذي حدث كان عكس الذي توقعته، انسحب الرجل المضروب في هدوء وجلس في نفس المكان الذي جاء منه صامتًا لا يتحرك، واستأنف إبراهيم حديثه معنا كأن شيئًا لم يحدث … وعندما انتهى من تدخين السيجارة أشار للرجل المضروب فجاء ممتثلًا، ومد له يده بعقب السيجارة فقبله ممتنًّا، ثم زحف من جديد وجلس يدخن في هدوء، ويده الأخرى تتحسس خده!
وعندما زحف الليل علينا وتوقفت حركة الميدان إلا من تاكسي يعبره بسرعة، أو صرخة مجذوب أكل البرد بدنه، أحسست أنا بالخوف ينهش قلبي؛ فهذه أول مرة في حياتي أجلس في مكاني مجبرًا لا أستطيع فراقه، وهذا الذي نحن فيه ليس مكانًا، وليس سجنًا، إنه أوسخ من ذلك وأحقر … وجلست بيني وبين نفسي أفكر بعمق في هذا المكان الغريب الذي ساقتنا الصدفة إليه، هذا الاختراع البشري المدمر للنفس الإنسانية، مَنِ الذي اخترعه؟ مَن كان أول إنسان على ظهر الأرض أقام سجنًا ليضع فيه إنسانًا آخر. أغلق عليه الباب بالمفتاح، ثم انطلق هو إلى الشارع يمرح ويلعب؟ لا بد أنه فكر في علاج للجريمة فاخترع السجن، ولكن ها هو السجن، وها هم المساجين والجريمة مع ذلك لم تتوقف، لا في خارج السجن ولا في داخله، لقد حدثت أمام عيني داخل السجن جريمة، بعد منتصف الليل بقليل انفتح الباب ودخل الشاويش ونادى على ولد من الداخل، وهب الولد مذعورًا يسحب هلاهيله ووثب نحو الباب في سرعة محمومة. قال الشاويش ومفاتيح الباب لها رنين بين أصابعه: أبوك أهه يا واد … عاوز منه حاجة؟
ورد الولد وهو يتثاءب: خليه يقعد معايا شوية ربنا يخليك.
ونظر الشاويش إلى الولد ونظر إلى الوالد ومد يده فدس فيها الوالد شيئًا، ثم سمح له بالدخول وأغلق الباب بالمفتاح، ثم اختفى في الخارج. ودخل الوالد فألقى علينا السلام، وجلس إلى جوار ولده وفتح حِجْره وأخرج منه لفائفه، لم يكن باللفافة سوى فطيرة وعلبة سجاير وشوية برتقان، ورفض الولد أن يأكل، وقذف بالأكل بعيدًا ثم أشعل سيجارة وراح يدخن … وانقض المساجين على لفافة الطعام فنهشوها عن آخرها، ثم مدوا يديهم واستولوا على السجاير ودخنوها، كما زحف الرجل الذي ضربه إبراهيم نحونا … زحف هو نفسه هذه المرة لكن نحو الولد المسجون والوالد، وجلس إلى جوار الوالد صامتًا لا يتكلم، ثم فجأة ندت صرخة كئيبة من الوالد، وأمسك بذراع الرجل الزاحف وصاح: حرامي … حرامي، ولكن الرجل الآخر لم يهتم، مد يده فكتم بها أنفاسه ثم طرحه أرضًا ونام عليه، وأخرج من جيبه شفرة حلاقة وراح يمزق بها وجه الرجل المسكين، وعندما احتج ابنه جرجره الأولاد الآخرون بعيدًا وانهالوا عليه ضربًا، ولم يحتج أحد من الجالسين إلا إبراهيم، نهض أخيرًا وخلص الرجل الغلبان من براثن الرجل المجرم، ثم صرخ يطلب النجدة، وانفتح باب السجن وجاء ضابط، وعندما اكتشف أن دم الرجل الزائر سايح كأنه ماء اندلق من قربة ألقى القبض على شاويش السجن واتصل بالنيابة … كانت فرصة ذهبية لنقضي الليل في الخارج، فعندما جاءت النيابة استدعتنا للشهادة، ورفض الجميع الشهادة … وقلنا كل شيء … من أول الباب ما انفتح حتى ارتكاب الجريمة، وجاءت عربة الإسعاف شالت الرجل الغلبان إلى القصر العيني، ونقل الرجل المجرم إلى حجرة أخرى تحت الحراسة، وجاء شاويش آخر استلم السجن، وبات الشاويش الأصلي مع المجرم تحت الحراسة!
جريمة منكرة نعم، ولكن الجريمة الأشد منها هي موقف الشاويش حارس السجن والمجرمين حين فتح الباب ومد يده للرجل الذي جاء للزيارة … الغرض … جلسنا نتسامر طول الليل مع الضابط عندما عرف قصتنا، وعرف أننا تلامذة ومدرسون رفض أن يعيدنا إلى السجن بعد أن أدلينا بالشهادة. وفي الصبح انصرف الضابط وعدنا نحن إلى السجن بعد أن ساح مخي من شدة التفكير في وسيلة للهرب من هذا الجحر اللعين. ومضى النهار بطيئًا كأنه ألف عام. كان ذلك اليوم هو يوم الانتخابات، وكانت المظاهرات الصاخبة تطوف حول القسم هاتفة بحياة المرشحين … فإذا جاءت مظاهرة تهتف بحياة الناظر هللنا لها من خلف الأسوار السميكة، وكان إبراهيم قد أرسل في طلب الناظر، ولكنه لم يظهر أبدًا. وجاء الليل مرة أخرى … ومع الليل اشتدت كآبتي واشتد غمي! وعندما انتصف الليل بكيت كما تبكي النساء … ولكن إبراهيم نهرني بشدة وأمرني بالتزام الصمت، فصمتُّ، ولكن الدموع التي كانت تتدفق من عيني انزلقت إلى الداخل وسدت حنجرتي، وأحسست باختناق بالغ، وبأنني لا أقوى على التنفس، وبأنني سأموت، وغفوت قليلًا، ولكن عندما فتحت عيني اكتشفت أن النهار قد لاح من خلف طاقة السجن الضيقة، ثم أخذ النهار في الانتشار، ومع النهار عاد الميدان إلى صخبه وإلى مرحه، وباب السجن لا يكف طول النهار … وينفتح مرة أخرى ليدخل عشرة، وينفتح أخرى ليخرج خمسة، الوارد شغال طول النهار … دنيا عجيبة ليس لها أول ولا آخر، وعالم بأسره له ملوكه وباشواته ورعاياه!
وعند الظهر قُدِّر لنا أن نخرج من السجن؛ فقد جاء الناظر ومعه المأمور يسير في أدب بالغ … وعرفنا عندئذ أن الناظر فاز في الانتخابات وأصبح نائب الدايرة. وها هو المأمور الذي كان يبدو كالأسد منذ يومين أصبح كالقطة هذه اللحظة. واعتذر لنا المأمور وصافح كلًّا منا، وظهره مقوس كيد عصا من الكريز، وخرجنا من السجن إلى عربة الناظر لنطوف بالحي كله وعشرات الألوف من الناس تهتف بحياتنا وكأننا سعد باشا وصحبه وقد عادوا أخيرًا من المنفى، ولقد فات عشرون عامًا على هذه الحادثة … ولكن أبدًا لا أمر على قسم السيدة زينب إلا واقشعرَّ بدني … وقفز إلى ذهني منظر الرجل المجرم وهو يزحف كالتمساح مرة ليتلقى صفعات إبراهيم، ومرة أخرى ليمزق بشفرة حلاقة جلد رجل آخر أشد منه غلبًا!