الفصل الثامن عشر
وقابلت عددًا كبيرًا من الملوك ورؤساء الجمهوريات، وصادقت عساكر بوليس، وعمال بناء، ومكوجية. وطفت بأكثر بلاد أوروبا، نمت على شاطئ بحيرة جنيف، وفي فندق الكنجزهوف على شاطئ الراين، وفي فندق الصخرة في جبل طارق. وفي المنصور في الدار البيضاء، وفي المنزه في طنجة، وفي الأكسلسيور في روما، ولكن لا يزال أجمل مكان أحنُّ إليه وأتمنى أن أقضي فيه بقية حياتي هو قريتي في المنوفية، وشارع المحطة في الجيزة، وضفاف بحيرة التمساح في منطقة القناة.
***
عام ١٩٤٦م، والولد الشقي لم يعد ولدًا، أصدقاء الطفولة كلهم مدرسون وموظفون في الحكومة، وبعضهم له زوجة وأولاد وأكثرهم يشتري بطيخًا في الصيف، وبرتقالًا في الشتاء والعبد لله صايع ضايع، تلميذ خايب في مدرسة المعهد العلمي يتعثر، حتى الموارد جفت، عساكر الإنجليز هجروا القاهرة إلى منطقة القناة، والدنيا أصابها الضنك الشديد.
عشرات الألوف الذين هجروا العمل في الحقول خلال الحرب وزحفوا على المدينة فقدوا كل شيء إلا الرغبة في البقاء في المدينة وعدم العودة من جديد إلى القرى. المدينة حلوة، مضاءة. وفيها طعمية وعيش سخن، والنوم على الرصيف في القاهرة ولا النوم على ظهر الفرن. وفي صيف هذا العام تعرفت على رجل غريب بَدين كأنه الممثل هاردي، شعره منكوش كأنه فرد من أسرة «أبو الغيط» رجل لعب دورًا هامًّا في حياتي، وفي حياة معظم الفنانين والأدباء أبناء جيلي اسمه زكريا الحجاوي. ولقد تعرفت إلى زكريا الحجاوي عندما سحبني طوغان يومًا من يدي إلى منزل في أطراف الجيزة لنلتقي بشخصية «هامة من شخصيات العصر» على حدِّ تعبير طوغان، وكنت قد قرأت اسم زكريا أكثر من مرة منشورًا في بعض الجرائد، وكان لدى العبد لله فكرة عن مثل هؤلاء الناس الذين ينشرون أسماءهم في الجرائد، فكرة تقول: إنهم لا بد أن يكونوا أصحاء، وأغنياء، ومن سكان الزمالك، ولكن بيت زكريا كان في حارة، وأسفل البيت دكان بائع سمين، رجل غليظ سخيف يبيع أشياء أسخف، مصارين الخرفان والبقر يقليها في صاج أسود كالح، وبزيت ولا زيت الأوتومبيلات!
وصعدنا سلمًا مكسورًا حتى وصلنا إلى شقة زكريا، وعندما انفتح الباب أطل زكريا الحجاوي وصدمت؛ فهذا الرجل الماثل أمامي لا ينُمُّ مظهره عن فن ولا أدب، أصلح مهنة له أن يكون بائع كرشة، أو تاجر فواكه في سوق روض الفرج. حافي القدمين بجلباب مخطط كأنه قلع مَرْكِب صايع يتجول في النيل دون هدف، وهز زكريا الحجاوي كنبوشه ودعانا للدخول. وفي حجرة عارية تمامًا كالشارع مع فارق واحد هو أن أسفلت الشارع أنظف بكثير من بلاط الحجرة، دعانا زكريا الحجاوي للجلوس … وعلى الأرض جلست … جلست أحملق في هذا الرجل السمين كقدرة الفول المدمس، الطيب جدًّا كأنه نبي صغير، الفقير أفقر من السيد غاندي. وعندما بدأ يتكلم احترمت زكريا الحجاوي، فقد بدا أنه يعلم أشياء كثيرة، وعندما حان موعد الغداء، أرسل زكريا فاشترى بقرشين صاغ مصارين مقلية، وبقرش جبنة وبطيخة وعشرين رغيف، ورحنا نأكل في مرح شديد كأننا على صلة وثيقة منذ عشرة أعوام. وأحببت زكريا الحجاوي منذ تلك اللحظة ولا أزال. وعشت معه أيامًا سعيدة ومريرة، وطفت خلفه في ريف الجيزة نبحث عن سهرة وعن عشوة. ومن زكريا تعلمت الصبر وقوة الاحتمال، فقد كان أبًا لسبعة أطفال ولا يملك سبعة قروش. وعلى ذلك لم تفارقه النكتة ولم يعرف اليأس طريقه إليه. وحول زكريا الحجاوي تعرفت إلى عدد من الصبية الصغار أصبح لهم فيما بعد شأن: دكتور يوسف إدريس، وصلاح جاهين، ومحمد علي ماهر، والشاعر محمد الفيتوري، والشاعر صلاح عبد الصبور.
ولقد كنت محظوظًا إلى أبعد حدٍّ؛ إذ أتاحت لي الفرص التعرف على عدد من شخصيات العصر، كل واحد منهم كان دنيا كبيرة وعالَمًا بأسره!
تعرفت إلى مأمون الشناوي ومنه تعلمت النكتة، وفن السخرية، ومأمون كاتب ساخر لو أتيحت له الفرصة لكان لدينا أوسكار وايلد جديد.
وتعرفت بنجيب الريحاني في آخر أيام حياته وعرض عليَّ الاشتغال معه في التمثيل، ولو بقي أعوامًا أخرى على قيد الحياة، فلربما أصبحت الآن ممثلًا يشار إليه بالحذاء. وعرفت بيرم التونسي قبل أن يموت بخمسة أعوام، وصاحبته واختلفت معه وأحببته حتى العبادة، وعرفت عبقري النغم المرحوم الشيخ محمد رفعت، وكتبت عنه وهو لا يزال على قيد الحياة. وعرفت الشيخ زكريا أحمد، وسهرت معه الليالي الطوال. وصادقت تحفة عصره وزمانه كامل الشناوي، وعرفت عبد الرحمن الخميسي وهو في قمة مجده وشبابه. وعرفت محمد عودة وهو لا يزال يحبو في دنيا الصحافة، محررًا مجهولًا بعشرين جنيه على الورق، ونصف جنيه في الحقيقة وعرفت عشرات من الأدعياء. ولكن لحسن الحظ أن عدسة الالتقاط عندي كانت تعمل بدقة، فوقفت دائمًا إلى جانب ما هو حق، وقاتلت دائمًا في صف العدل، ودافعت دائمًا عمَّا أعتقده، وكنت أحيانًا أعتقد ما ليس بحق.
وخسرت أشياء كثيرة بسبب رعونتي، وكسبت أشياء أخرى بسبب وضوح موقفي. وذقت كل أنواع الحياة، وعشت أيامًا طويلة في هيلتون مدريد في أسبانيا، ونمت أيامًا في حدائق القاهرة، وأنفقت مائة جنيه في ليلة، وقضيت عدة أيام أبحث عن قرش صاغ. وقابلت عددًا كبيرًا من الملوك ورؤساء الجمهوريات، وصادقت عساكر بوليس، وعمال بناء، ومكوجية. وطفت بأكثر بلاد أوروبا، نمت على شاطئ بحيرة جنيف، وفي فندق الكنجزهوف على شاطئ الراين، وفي فندق الصخرة في جبل طارق. وفي المنصور في الدار البيضاء، وفي المنزه في طنجة، وفي الأكسلسيور في روما، ولكن لا يزال أجمل مكان أحنُّ إليه وأتمنى أن أقضي بقية حياتي فيه هو قريتي في المنوفية، وشارع المحطة في الجيزة، وضفاف بحيرة التمساح في منطقة القناة. وعندما أغادر مصر في رحلة إلى الخارج أشعر بأنني سأختنق وأموت، شعور لا يفارقني أبدًا إلا عندما أضع قدمي في أرض مطار القاهرة.
ولقد عشت حياتي بالطول وبالعرض وبالعمق كذلك، ولست نادمًا على شيء، اللهم إلا حادثًا واحدًا حدث منذ أعوام عندما تورطت بين خصمين، وخدعني أحدهم فتسببت في جرح شعور الخصم الآخر، ولم يكن هذا رأيي فيه ولم أكن أعرفه، ولم أره في حياتي حتى هذه اللحظة.
ولو أنني عدت إلى الحياة من جديد لاخترت حياتي هذه، كما حدثت وكما وقعت وبالتفاصيل. ولتمسَّكت بأحزانها قبل أفراحها، وبالتعاسة التي فيها قبل السعادة التي تشيع في أرجائها، ولكني شديد الحزن؛ لأنني لم أحب الرياضة في صباي، ولأنني لجأت إلى أحد الباشوات في يناير ١٩٤٨م لأهرب من الخدمة العسكرية. ولو أنني لم ألجأ إلى هذه الطريقة فلربما تمتعت بصحة أحسن، لربما كانت مصاريني الآن قادرة على هضم الفراخ كما كانت قادرة في الماضي على هضم القباقيب!
لقد كتبت حتى الآن عشرة كتب، وثلاث مسرحيات، ومئات البرامج الإذاعية، ومقالات تكفي عشرة دكاكين تبيع فيها اللب وإلى عدة قرون. ولكن أمنيتي التي لا أزال أرجو تحقيقها هي العثور على قطعة أرض في بلدنا، فدان أقيم عليه بيتًا، وأطلق فيه عدة أسراب من الوز والحمام وفصائل من الأرانب، وأزرع حوله عيدان الملوخية، وأضع على سطحه عشرة بلاليص فيها جبنة قديمة ومخلل. وأرتدي جلبابًا أبيض وطاقية فوق رأسي، وأمشي حافي القدمين، وأستحم إذا شئت في ماء الترعة، ويكون لي عشرون ولدًا نصفهم ذكور والنصف الآخر من الإناث، على أن أقيم إلى جوار البيت قبرًا لشخصي؛ فأنا أخاف النوم في المقابر البعيدة، أخشى بعد الموت أن ينهشني ذئب جائع، أو ضبع صايع. وأخاف الحياة مع الموتى، أريد الموت إلى جانب الأحياء؛ لكي أظل معهم أتفرج على الأجيال الجديدة السعيدة التي ستملأ الحياة فنًّا، ووردًا، ورقصًا، وموسيقى.
وأرجو ألا أموت قبل سن السبعين؛ لكي أعيش على هذه الأرض أطول فترة ممكنة، ولكي أرى أكبر عدد ممكن من البلاد، ولكي أتعرف إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ولكي أقرأ أقل عدد ممكن من الكتب، ولكي أموت وليس لي في الحياة مطمع جديد!
والآن وقد قرأتم قصة الولد الشقي أرجو أن تكونوا قد استمتعتم بها، وأرجو أن تكونوا قد استخلصتم المغزى من بين سطورها. وأنا أقصد الأجيال الجديدة التي تواجه ظروفًا أسعد من ظروفنا، والتي تعيش حياة أجمل من حياتنا، والتي لم يقدَّر لها أن تخوض في بحر التعاسة التي خضناه منذ عشرات السنين.
ولسوف أكتب مذكرات الرجل الشقي بعد عشرين عامًا أخرى إذا قدر لنا أن نكون من بين السعداء الأحياء.
وهي قصة مريرة بدأت بالعمل في الحكومة مستوظفًا بستة جنيهات شهريًّا، أعقبها الطرد بعد شهر واحد والصياعة من جديد، ثم العمل في صحف لم يكن لها وجود عندما كانت الصحافة عملية استرزاق، ورخصًا تصدرها وزارة الداخلية لأصحاب مطابع شارع محمد علي المتعاونين بشدة مع البوليس السياسي وبوليس السراي! وعندما كانت الصحافة صلات ببعض الوزراء، وبعض مديري المكاتب. ولقد فُصلت ثلاث مرات من ثلاث صحف قبل الثورة، فصلني مرة تاجر حشيش دفع ألف جنيه للجريدة؛ لأنني كتبت خبرًا ضده، ولهفَتِ الجريدةُ المبْلَغ وكتبت في الصفحة الأولى «تقرر فصل محمود أفندي السعداوي من هيئة تحرير الجريدة» والرجل الذي كتب هذه السطور نزيل السجن الآن في قضية أخلاقية وكان يومئذ مديرًا للتحرير.
وفصلت مرة أخرى من مجلة أسبوعية؛ لأنني طالبت صاحب المجلة بمنحي أجري عن شهر كامل اشتغلته. وفصلت مرة ثالثة من دار كبرى؛ لأنني رفضت أن أشتري هدية بعشرة جنيهات لسيادة مدير التحرير.
ولم أعرف طعم الاستقرار في الصحافة إلا منذ عام ١٩٥٤م. ففي ظل عبد الناصر أصبح للصحفيين حقوق وعليهم واجبات، وفي ظل الثورة عبرت الحدود إلى الخارج في مهام صحفية، كانت أولها وأعظمها رحلتي إلى الجزائر، أرض البطولة والشهداء!
وتضاعف مرتب العبد لله عشر مرات، وتضاعف دخلي مائة مرة، ومع ذلك لم أغادر الجيزة ولا الحي الذي نشأت فيه، والسبب بائع طرشي يقيم معملًا على بعد مرمى حَجر من بيتي، يقدم طرشيًّا ليس مثله في أي مكان ولا في جنة رضوان! والسبب صديق أحبه اسمه عبد الحميد قطامش، عرفته منذ عشرين عامًا وكان يرتدي الجبة والقفطان، ثم هجرها بعد ذلك وصار من أعلى وأبرع المحامين في مصر، وقد أقسم عبد الحميد قطامش مرة ألا يزور أحدًا لا يكون من سكان الجيزة، وبولاق، وباب الشعرية، ومصر العتيقة، وبركة الفيل؛ ذلك أنه يحس كأنه يغرق في بئر ساقية إذا زار صديقًا له في الزمالك، أو جاردن سيتي، أو مصر الجديدة، وأنا أحب عبد الحميد قطامش وأتمنى أن يزورني على الدوام.
ذلك أن عبد الحميد قطامش الشاب المعمم الذي هجر الريف يومًا فرارًا من الفقر إلى الأزهر في القاهرة. والذي استطاع أن يقهر كل الظروف، وأن ينتصر على كل التعاسات، وأن يبرز فوق السطح، عبد الحميد قطامش الذي أصبح أفوكاتو وله صيت عظيم، سيكون له شأن أي شأن، عندما يحين الوقت لأكتب لكم … مذكرات الرجل الشقي.