الفصل الرابع

***

في اللحظة التي قررت فيها أن أتوقف عن الجري، وأن أسلم عنقي إلى عم شحاتة، وأسلم أمري إلى الله، كان غزالي قد اتخذ نفس القرار وفي نفس اللحظة، ووقف غزالي يلهث وهو ساكت، وكنت على عكسه تمامًا، صياحي للجو، وصوتي طالع لرب السما، وعقلي يفكر بسرعة النفاثة، ولكن في شيء مضحك للغاية، كنت أفكر في الأمكنة الأكثر تعرضًا لركلات وصفعات عم شحاتة، وحددت مكانًا بالذات وقررت أنه أخطر الأمكنة جميعًا وقررت حمايته، وكان المكان الذي اخترته هو قلبي، وبحركة لا شعورية وضعت كتبي فوق صدري تتلقى لكمات عم شحاتة، فقد خشيت أن يضربني على قلبي وأنا في هذه الحالة من التعب الشديد فأسقط ميتًا في معركة كشري!

وراح عم شحاتة يزحف نحونا في خطوات واسعة بادئ الأمر … ثم في خطوات قصيرة، ثم فجأة، وعم شحاتة على بعد خطوات من عنقي … توقف ويده على قلبه ورأسه ينخفض ويرتفع وفمه ينفتح وينغلق في حركة آلية وهو يكح، ويكح، ويكح حتى ينقطع نفسه، ثم يشهق فجأة ويبلع نفسًا عميقًا ليعود من جديد إلى زوبعة الكحة التي اعتصرت قلبه! ونظر عم شحاتة نحونا في غيظ بالغ وفي خبث أبلغ، وسقط مكانه على الأرض جالسًا ونحن على بعد خطوات منه لا نستطيع أن نتحرك … وقال عم شحاتة وهو يلهث: خد يا واد ماتخفش!

وفي الحال بدأت أتحرك نحوه، ولكن أوقفتني صرخة من غزالي وردتني إلى مكاني القديم، ولم يكن عم شحاتة يريدني للفسحة أو المناقشة، ولكنه كان يريدني للضرب … ولم أكن أنا ساذجًا إلى حد أن أذهب إليه … ومع ذلك ذهبت إليه؛ ذلك لأنني كنت مذعورًا للغاية، فلما ناداني تقدمت نحوه على الفور، ولم أدرك هول المصير الذي كنت أنتظره إلا بعد أن صرخ غزالي من خلفي فأيقظني من رعبي … وردني إلى صوابي وإلى مكاني القديم … وهذه الحالة الغريبة ستظل تلازمني ربما إلى آخر أيام العمر … ففي ساعة الذعر أفقد ذكائي وحواسي جميعًا … وقد أنساق إلى حتفي دون أن أدري … والأغرب من هذا أنني لا أفقد في ساعة الذعر عقلي … ففي ذات مرة وقعت في ملقف ذعر أبدي أحال جسمي كله إلى كتلة من اللحم البارد … ومع ذلك ظللت ألاحظ جميع الوجوه المذعورة معي؛ لأتبين الذعر … وأرقبه وأشبع من رؤياه! ما علينا أيها الناس الطيبون … فما أكثر مواقف الذعر التي نهشت قلبي، ونشفت دمي، وانطلقت بدقات قلبي إلى سرعة المرسيدس!

وانتهى هذا المشهد مع عم شحاتة نهاية مضحكة … تناقش معنا في البداية بعقل شديد … ومش عيب تاكلوا فلوسي … ومعلهش يا عم شحاتة وحقك علينا … طيب زي بعضو تعالوا ولا تخافوش … ولكنا كنا خائفين فعلًا … فذهبنا ولكن في الاتجاه الآخر. ونهض عم شحاتة وسار خلفنا على بعد خطوات منا لا يستطيع أن يلحق بنا ولا نستطيع أن نجري … ولم ينقطع النقاش بيننا أثناء الطريق، وفجأة بدت من جانبه حركة جري فانطلقنا … وكنا قد استرحنا تمامًا فانطلقنا حتى غبنا عن ناظريه، وإلى أبد الآبدين!

مات عم شحاتة في العام التالي، واحتلت ابنته مكانه تبيع الكشري ولكن بالفلوس، وعدنا نحن إلى المدرسة وقد تغيرنا كثيرًا، ازددت أنا هزالًا واصفرارًا، ودوخة تعتريني فأحس معها كأنني أموت … أصابتني الكوارث كلها بعد رحلة صيف إلى قريتي … ولقد تركت هذه الزيارة الأولى لقريتي أثرها البالغ الأبدي في عقلي وفي بدني … فلم أكن قد سافرت إلى أي مكان من قبل، فلما وقع بصري على الحقول والترع والقمر في الليل تمنيت ألا أغادرها إلى أي مكان آخر. وكان جدي يرتدي زي المشايخ، ويشتغل بالتجارة، ويشرب في اليوم الواحد مائة سيجارة، ومائة فنجان قهوة، ويكح بلا انقطاع وكأن الكحة هي الوظيفة التي يؤديها في الحياة! وعندما كانت الكحة تعقد معه صلحًا لعدة دقائق كان يحكي خلالها بلا انقطاع حكايات قصيرة، وكانت حكاياته تتخللها نكت كثيرة، وكان يضحك لكل نكتة يرويها … فإذا أمعن في الضحك هجمت عليه نوبة الكحة فيظل يكح حتى ينام. وكان يستيقظ في الفجر يرتل أشياء لا أفهمها، ولكن أستعذبها ويظل يرتل حتى يكبسني النوم فأنام … وذات مساء حكى لنا قصة أثارت خيالي … قصة عفريت التقى به في الطريق ليلًا وهو عائد إلى داره. وصافحه العفريت في وقار، ثم سحبه من يده إلى الترعة وعندما أصبحا معًا عند الشاطئ دفعه بيده إلى القاع، ولكنه تشبث بفرع شجرة، وقرأ آية الكرسي فاشتعلت النار في العفريت ومات!

وفي تلك الليلة لم أنم أبدًا … ظللت أرقب السماء من النافذة المفتوحة حتى ظهر نور الفجر فاستسلمت للنعاس، وعندما شكوت لجدتي عدم استطاعتي النوم في الظلام أشعلت لي لمبة جاز «ساروخ» ظلت تنفث دخانًا وهبابًا حتى الصباح … ورغم ذلك لم أنم … فقد خشيت أن تنقلب اللمبة على جنبها فتحرق الدار وتحرقني! ولم أنم بعد ذلك إلا في حضن ستي … وكانت تغني قبل أن تنام وكأنها تبكي، فإذا طار الكروان في الليل وغنى غناءه الذي يشبه الصلاة كفَّت عن الغناء ورفعت رأسها إلى أعلى … وأصغت في شغف ولذة!

ولقد تعلقت بي المرأة العجوز الوحيدة، وأحبتني إلى درجة العبادة … فلم يكن يعيش معها أحد من أبنائها … ابنها الأصغر في مصر يتعلم، وابنها الأوسط مدرس في الجيزة، وابنها الأكبر يشتغل في البحر يطوف بلاد الله لخلق الله، ولا تدري مكانه … ولهذا السبب كانت تحبسني في قاعة مظلمة حتى لا أستحم في الريَّاح … ولكي ترضي هوايتي في الشقاوة كانت تسحبني معها إلى ترعة ناشفة فيها من الطين أكثر مما فيها من الماء … وكانت تجلس على حرف الترعة ثم تطلقني إلى الماء، وقد ربطتني بحبل كأنني عجل جاموس رضيع … وكنت أقضي النهار بطوله أبلبط في الطين وطرف الحبل مربوط في يدها حتى لا أفلت منها فأغوص في الطين أو أغرق في مياه الترعة … وعندما عدت مع الخريف إلى الجيزة كانت البلهارسيا قد تمكنت مني، وامتصتني ولم تنفع معي دعوات أمي ولم تشفع لي عشة فراخها التي ذبحتها من أجلي! وطردتني البلهارسيا من ملاعب الكرة، وكنت على وشك أن أصبح نجمًا … فقد كنت حريفًا أستطيع أن أغزل خمسة خصوم في لحظة، وبحركات بهلوانية مضحكة تغيظ الخصم فتربكه. ولكن نفسي الذي انقطع بفعل البلهارسيا أرغمني على أن أعتزل قبل أن أبدأ … ولكن بقى أمامي بعبع رهيب هو حصة الألعاب الرياضية! ولقد كنت أكره حصة الحساب، ولكن حصة الألعاب أكرهها أكثر، كنت أضطر إلى خلع ملابسي في عز الشتاء لأسير شمال يمين، ويمين شمال … أو أرفع يدي، وأركع على ركبتي كأنني قرد يصنع عجين الفلاحة … ولم يدرك مدرس الألعاب الذكي أنني مريض … ومرضي يمنعني من اللعب … فأصر على أن ألعب … وأصر على أن يضربني … وانتهى الأمر إلى طردي من طابور الألعاب … وأصبحت حصة الألعاب تمر كلما حل موعدها وأنا مربوط على شجرة.

وذات يوم جاء رجل إلى المدرسة، في صوته خشونة، ومن أنفه يطل شعر غزير، ورائحة ملابسه سجاير، وطاف الرجل الغريب بكل الفصول يختار من بين تلاميذها أفرادًا، وتوقف عندي وأشار نحوي فتبعته، كان الرجل ممثلًا شهيرًا اسمه عباس فارس.

وكان شابًّا لا يزال، وكان مدربًا للتمثيل في وزارة المعارف، وهؤلاء التلاميذ الذين اختارهم كانوا أول فرقة للتمثيل في مدرسة الجيزة، وجاء من نصيبي دور محام ضليع يترافع بالشعر عن متهم مظلوم، ثم تتبين المحكمة براءته فتحكم له بالبراءة … ولا زلت أذكر منظر وكيل النيابة وهو يترافع بصوته المسلوخ مطالبًا بعنق المتهم، وقد علق على صدره وشاحًا ورسم بالقلم الفحم على وجهه شنبًا وكان يرتدي روب النيابة الفاخر، فلما اندمج في الدور بشدة وراح يشوح بيده يمينًا ويسارًا مسح فردة من شنبه وبقيت فردة، وضج أولياء الأمور بالضحك بينما كان يترافع مرافعة بليغة.

ولم يكن عباس فارس هو بصيص النور الوحيد الذي دخل حياتي تلك السنة. فقد كان مقررًا علينا رواية اسمها الصياد التائه، قصة ولد خرج إلى الصحراء فضلَّ طريقه، وتعقبه أسد انقض عليه، ثم عثر على كنز كبير وكاد يموت جوعًا لولا أعرابية جميلة عثرت عليه ملقى في العراء وهو يلفظ أنفاسه، وجاءت به إلى حافة الصحراء وردته إلى أهله، وأحببت الصحراء بعد أن قرأت القصة، وتمنيت على الله أن أقطع الصحراء ذات يوم فأتوه فيها فأجد كنزًا، وألقى أعرابية صبية حلوة، فلا تردني إلى أهلي ولا أردها إلى أحد، ونبقى معًا نقطع الصحراء في قافلة يتقدمها رجل ملثم ينفخ في ناي حزين ألحانه الجميلة!

وذات مساء قدر لي أن أقوم بأول وظيفة لي في الحياة كرجل، كان معنا زميل اسمه حسن ولم يكن على صلة وثيقة بنا، وتغيب ذات صباح عن المدرسة، وقيل لنا: إن أباه قد مات، وجاءني عبد المنعم الذي كان حريصًا على أن يجامل الناس، وسحبني معه إلى مأتم الرجل الذي لم نره قط، وكان علينا أن نتصنع الحزن والوقار، وأن نكبس طرابيشنا على رءوسنا، وأن نجلس صامتين في الصوان نهز رءوسنا كلما قرأ المقرئ بصوته القبيح آية من آيات الله، ونجحت والحمد لله في تصنُّع الحزن الشديد، ولكني لم أكن أعرف حرفًا مما يجب أن يقال في هذه المناسبات، فصافحت الواقفين على باب الصوان، وتمتمت بكلمات غير مفهومة وجلست إلى جوار شيخ معمم، وجلس عبد المنعم إلى جواري، وجاء رجل يحمل أقداح القهوة. فخطف الشيخ المعمم قدحًا وفعلت مثله، فلما وصل إلى عبد المنعم رده شاكرًا ولم يتناول من فوق الصينية قدحًا! وشفطت القهوة على كره مني، فقد كانت شايطة وسادة وعلى وجهها تسبح قاذورات، ولم أكد أنتهي منها حتى جاء الرجل مرة أخرى فخطف الشيخ قدحًا، وخطفت قدحًا أنا الآخر، ورفض عبد المنعم مرة أخرى أن يأخذ من الرجل شيئًا!

وتكررت العملية أكثر من عشرين مرة، كلما جاء الرجل يحمل أقداح القهوة خطف الشيخ المعمم قدحًا، وخطفت أنا الآخر قدحًا، وعبد المنعم مُصر على الرفض. وكنت أشفط القهوة بحرقة، وبصوت مسموع حتى يسمعني الجميع، وكان اعتقادي أن شرب القهوة هو مظهر الحزن الوحيد في هذا المجال؛ ولذلك ساءني موقف عبد المنعم جدًّا، فملت على أذنه وأنبته لعدم قبول أقداح القهوة، على الأقل لنظهر أمام زميلنا حسن بمظهر الحزانى على فقد والده العزيز! وهمس عبد المنعم في أذني وبهدوء شديد: دا شرب القهوة في الميتم عيب.

وأبديت احتقاري لرأيه، فلو كان شرب القهوة عيبًا لما شفط الشيخ المعمم المجرب الذي يجلس إلى جوارنا أكثر من عشرين قدحًا من القهوة في ساعة واحدة. وقال عبد المنعم بنفس الصوت الخافت: دا مش شيخ … دا تربي.

ورنت كلمة تربي في أذني رنينًا غريبًا، وألقيت نظرة على كل الناس فلم أجد أحدًا منهم يشرب شيئًا، وليس في الصوان كله من يحمل فناجين قهوة إلا أنا والتربي! وانفجرت ضاحكًا رغمًا عني، واهتز فنجان القهوة في يدي، وانسكب على الشيخ المعمم، وعندما نهض صائحًا، الله أكبر، أغرقت في الضحك أكثر، وعندما انطلقت الهمسات والشخطات تنهرني، وتأمرني بالسكوت كان الضحك عندي قد انقلب إلى حمى تملكتني، وعندما امتدت الأيدي نحوي تضربني كانت ضحكاتي تفرقع في الصوان كله والمقرئ يتوقف احتجاجًا، فلما اشتد الضرب فوق رأسي انطلقت أجري من الصوان، وصاح عبد المنعم يسبني، فقد امتدت الأيدي نحوه هو الآخر فانفجر يضحك، ثم انطلق يجري خلفي والصوان كله يجري خلفه، ومن يومها لم ندخل صوانًا معًا إلا ونضحك، ولا نرى جنازة في الطريق إلا ونضحك، تكفي لحظتها نظرة مني نحوه، أو نظرة منه نحوي حتى ننفجر ضاحكين وبلا مناسبة!

ومر العام ونجحنا، وفي آخر نهار في المدرسة وقف الناظر في الحوش وناداني مرتين، مرة لأتسلم جائزة التمثيل، ومرة لأتسلم جائزة الدين، التمثيل والدين وعلى ما بينهما من تعارض، ولكن هذه الجائزة الغريبة كانت تترجم عن حقيقة أعماقي، ففي داخل أعماقي ستعثر حتمًا على شخصين لكل منهما مزاج وهواية وعقيدة وسلوك معين في الحياة شخصان مختلفان تمام الاختلاف، يتكلمان أحيانًا، ويتخاصمان أحيانًا ولا يتفقان على الإطلاق، أحدهما نال جائزة التمثيل، والآخر نال جائزة الدين، والاثنان لهما اسم واحد!